الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم مريم أشرف محمد عزيز

أريحا

أنا (غيث) مقيم في مدينة القدس، أكتب هذه الكلمات لأقول إن البطولات لم تنتهِ بانتهاء الاحتلال وعودة الأرض لأصحابها، رسالتي في عام 2121 هي:

"أحياناً من بطولات الماضي نصنع المستقبل"

في يوم بارد من أيام مايو قارسة البرودة تساقطت الثلوج لأول مرة هذا العام 2120 وهو الحدث الذي يحتفل به الكثير من الفلسطينيين! أما أنا فمنذ أكثر من ثلاث سنوات؛ عقدت العزم على حجز رحلة ذهاب بلا عودة وهي الثانية في تاريخ الكرة الأرضية، إلى كوكب المريخ! الحقيقة أنني ترددت كثيراً قبل اتخاذ القرار ولكن؛ ما حدث في الكرة الأرضية من دمار جعلني أكثر إصرارًا على اتخاذ القرار ودفع مبلغ الرحلة الضخم والذي من أجله بعت كل ما أملك على كوكب الأرض من بيتٍ ذي ثلاثة طوابق وحديقتي الكبيرة التي لا يوجد فلسطيني إلا ويحسدني عليها وعلى نباتاتها النادرة التي جمعتها من جميع أنحاء العالم عبر رحلاتي بسبب عملي كصحفي وباحث في التاريخ الحديث، لأجل ما حوته بساتيني وموقع منزلي المتميز في قلب مدينة القدس والتي تعد حالياً أغلى بقاع الأرض ثمناً في الشراء والبيع، تحصلت على مبلغ كبير للغاية من بيعها واقترب وقت رحلة اللاعودة، ومع اقترابها ازداد تجولي ليس فقط في القدس بل بمختلف بلدات فلسطين الحبيبة؛ حبًا في توديعها وتسجيل أفلام تذكرني بها في الغربة الطويلة التي أنا مقدم عليها!

قبل السفر بأيام قليلة؛ مع شجن الشتاء وسقوط الثلوج تذكرت فجأة بيتنا القديم! منذ أكثر من عشرين عامًا لم أقترب من الضيعة التي يقع بها وحان الآن موعد الاشتياق؛ ذهبت في رحلة طويلة من بيتي الحالي إلى ضيعتنا التي ولدت ونشأت بها وهي على طريق أقدم مدينة بالعالم "أريحا"، لكم تمسكت الضيعة بالشكل التقليدي للضياع الفلسطينية القديمة قِدَم الاحتلال الغابر، على الرغم من انتهائه منذ أكثر من خمسين عامًا إلا أن هناك بعض الأماكن التي رفضت بتاتاً أن تتغير أو تواكب العصر والتكنولوجيا الحديثة والمتقدمة كل يوم أكثر من السابق، مما لا أنساه ما حييت منذ سنتين ذهبت لأريحا لحضور زفاف ابنة عمتي الصغرى ولكم كانت دهشتي عندما رأيت " صندوق السيسم"؛ تفاجأت بأنه ما زال موجودًا ومازالوا يعتمدون عليه لحفظ ملابس العروس وأدوات زينتها ومجوهراتها! أنا الذي تزوجت قبلها بأكثر من عشر سنوات لم نستخدم أو نرى هذه الأشياء القديمة قِدَم الكرة الأرضية!

بدأت ملامح من طفولتي تلح على ذاكرتي لقد كانت طفولة سعيدة مليئة بالناس والأحداث، نشأت في "بيت عيلة" يحوي الكثير من الحب والمودة والكلام والعراك أيضًا؛ يحوي الكثير من كل شيء! رأيت على طول الطريق القناديل معلقة في النخل بالأراضي الزراعية الخلابة؛ ذكرتني حينما كنت صغيراً وغضبت من ابن عمي أثناء لعبنا وجريت كثيراً حتى بعدت عن البيت وأسدل الليل ستائره! كم كنت أرتجف خوفاً في هذه الليلة من ليالي المحاق القليلة وكم هدأ خوفي عندما التقطت بصعوبة قنديلًا من النخلة وكم كانت دهشتي وفرحتي أيضاً عندما وجدت على الأرض علبة من أعواد الثقاب مكنتني من إشعال القنديل مما عجَّل بوصول أبي إلى مكاني! لم أنس هذا اليوم كما لم أنس "العلقة" الساخنة التي تلقيتها من عمي الأكبر الثائر طيب القلب!

أثناء تأملي للقناديل على طول الطريق كنت قد وصلت للضيعة؛ ويا له من إحساس غريب وددت لو صحبني في رحلتي (محمود درويش) ليعبر عني في هذا الموقف؛ ولكن روحه معي بكتاباته والتي تذكرت منها الآن:

"الحنين استرجاع للفصل الأجمل في الحكاية؛ الفصل الأول المرتجل بكفاءة البديهة "

لم أمش كثيراً بين البيوت حتى وصلت لبيتنا! ميزته بسوره الأخضر المميز لطوله عن باقي البيوت، على الرغم من وجود معظم جيراننا أو أحفادهم بالبيوت، إلا أن بيتنا وبعض البيوت قد خلت تماماً من أي روح تدب فيها! أتذكر أن جميعنا قد غادر بعد وفاة "حني ريحانة" لم يبقَ إلا زوجة عمي الكبير، وبعد وفاة الجدة غادرت لتكمل حياتها مع ابنتها وزوجها بالقدس.

لم اتأخر كثيراً في فتح الباب الخشبي القصير؛ كنت أعلم مسبقًا بوجود مزلاج قريب من الأرض، وطأت قدمي الحديقة مع صوت صرير الباب الخشبي القديم والذي ثبت مكانه لم يتحرك بعد دخولي! تأملت المكان حولي كان يعج بالفوضى! فوضى الإهمال التي اعترت البيت الذي لا أحد يزوره منذ مدة! وقفت حائراً أمام الباب الخشبي الكبير بالداخل والذي لو أتيت بعشرة رجال وحاولنا خلعه ما تحرك من مكانه البتة! كعادة أبواب المدن القديمة، فعند زيارتي منذ عدة أشهر لمدينة القاهرة وجدت أبواباً أقسمت أنه لو وضع تحتها مفجر لن تتأثر!

فجأة أضاءت بعقلي فكرة! ليست جديدة؛ بل قديمة بتاريخ هذا المنزل ووجود جدي الذي كان دائماً ما يضع مفتاح احتياطي تحت سلمة مكسورة في السلالم الخمس الموصلة للباب الرئيسي؛ اعتقدت أنها السلمة الثالثة وقد كان؛ فبعد نبش التراب وجدته!

بعد عدة محاولات انفتح الباب؛ في بداية الأمر لم أرَ شيئًا بفعل التراب المتراكم! ومن ثم اتضحت الرؤيا والذكريات أيضًا! عقلي نشط في هذه اللحظات كنشاط بركان كان خامداً لسنوات عدة! رأيت أول ما رأيت صورة جدي الكبيرة على الحائط، خرجت مني ضحكة! عندما تذكرتني وأنا صغير كانت كل آمالي أن أكبر وأكون عائلة كبيرة وأبناء وحفدة وأضع صورة كهذه؛ لم تكن ضحكتي ضحكة ذكرى جميلة من أيام الطفولة بل ضحكة سخرية مما آلت إليه حياتي! من حلم طفولة برئ بعائلة كبيرة إلى رجل تخطى الخمسين من عمره ولم يرزق بأطفال! مع كل هذا التقدم العلمي وقف العلم عاجزاً أمام أمنية كبيرة لدي ويتعجب زملائي كيف لي أن أترك كل شيء وأذهب في رحلة محفوفة بالمخاطر وبلا عودة! لطالما وددت أن أقول لهم ما الذي سأتركه! أنا رجل بلا جذور فلأذهب إلى أي مكان، من سيهتم؟!

قطعت حبل أفكاري المتلاحقة وتأملت حولي لأجد المطبخ الكبير بأدوات جدتي من "الطابون" و "البريموس" و "الباطية"، وثمة شيء ما لفت انتباهي بشدة! لم يكن إلا باب الغرفة الكبيرة! كم تمنينا دخولها ولكن من شدة جدي وتحذيره مما سيحدث لمن يحاول دخولها لم نحاول ولو مرة واحدة، ولكن حان الآن وقت المحاولة الأولى وربما ستكون الأخيرة!
دخلت ببطء والشغف يملؤني! لم أجد إلا مكتبة كبيرة! وفي المنتصف، يقبع مقعد واحد متهالك، نحت عليه اسم لطالما سمعته في طفولتي "عدنان"! اقتربت بحذر شديد، تحت اسم "عدنان" نُحِتَ تاريخ قديم للغاية! منذ المئة عام، عندما كانت فلسطين محتلة!! وفوق المقعد خطاب قديم قِدّم الكرسي وقوات الاحتلال و"عدنان" هذا الذي لا أعرفه!

افترشت الأرض بعد أخذ الخطاب، لأبدأ القراءة بشغف:

(إلى أبي وكل من يهمه الأمر، أنا عدنان منصور الأبكم، أكتب وأنا في التاسعة عشرة من عمري، فلسطيني وأفتخر، حزين على ضياع أرضي وسأحارب لآخر نقطة من دمي ضد المحتل، قتلة الأطفال والنساء، بدأت المقاومة منذ خمس سنوات، رغم خوف أبي عليَّ، لم يمنعني عن دوري الوطني تجاه بلدي!

أكتب لكم من معتقل "مجدو"، واحد من كثير مما ملأ بلادنا! كي يستطيع المحتل الغاشم السيطرة على أرض ليست ملكه ولن تكون أبداً، خلال عامين هنا كبر عقلي عشرات السنوات!

استقبلنا اليوم ضيفًا جديدًا للمعتقل، "منصور" اسمه مثل أبي، الذي لا أعرف كيف حاله بعد اعتقالي! جلب "منصور" معه أخبارًا عظيمة! "عملية نفق الحرية" والهروب من سجن "جلبوع" السجن الأكثر تشديداً أمنيًا، كان من بينهم "زكريا الزبيدي" أحد الملهمين في حياتي! تذكرت لقائي بصديق "زكريا" في عملية شاركت بها، وأثناء اجتماعنا في انتظار البدء، طلبنا منه أن يحكي لنا عن "الزبيدي" الذي أشرف على الهجمات ضد الإسرائيليين خلال الانتفاضة الثانية من معقله في "جنين"!! نشأ في عائلة من المناضلين، أما عن اللحظة التي أظلم فيها قلبه النابض بالحياة والنضال وحب الوطن، هي لحظة مقتل والدته وشقيقه برصاص الإسرائيليين في "جنين" خلال الانتفاضة!! ليرد هو عليهم بإعلان مسؤوليته عن التفجير الانتحاري في تل أبيب!

ينعتونه بالإرهابي! هم من سلبوا أرضه وقتلوا أهله! لم يكن "الزبيدي" ونحن إلا ردة فعل! "الزبيدي" الذي قبل اعتقاله الأخير في عام 2018 حصل على درجة الماجيستير من جامعة "بيرزيت"!

طال الحديث عن "زكريا الزبيدي" الذي كان سببًا في اعتناق الناشطة المناهضة للصهيونية "تالي فخيمة" للإسلام!! "تالي" التي توجهت إلى منزله في "جنين" لتكون بمثابة درع بشري يمنع الجيش الإسرائيلي من استهدافه!! نسأل دومًا، هل الإرهابي هو مغتصب أرض ليست ملكه وقتل أهلها؟ أم من يدافع عن أرضه؟!!

يا أبي، مثل هذه الأخبار تزيد من عزمنا وثباتنا أمام المحتلين رغم أن حالات الهروب تكون سببًا في التشديد وزيادة التعذيب، دومًا يريد المحتل أن يجعل الأسير الفلسطيني عبرة لغيره! بممارسة الضغط النفسي والجسدي عليه حتى يستسلم له وينسى قضيته التي ما خلق إلا لأجلها!

خلال فترة اعتقالي، تضاربت مشاعري، بين يأس تارة وتحد وصمود تارة أخرى! تفاعل مع الأحداث بالخارج وتفاصيل السجن والقهر! ما يجعلنا دومًا صامدين، أننا أصحاب قضية عادلة، وذات يوم ستعود لنا فلسطين.

يا أبي، لا تنتهي الحكاية لحظة الاعتقال، بل هناك حياة كاملة بعدها، تحقيقات مستمرة لما نعرفه وما لا نعرفه! ليصدر حكم بلا حيثيات بسنوات طويلة!! ومن ثم تحقيقات جديدة عن أنشطة داخل المعتقل! والنتيجة سنوات عديدة بالعزل الانفرادي!! بعيدًا عن الآدمية تمامًا! يا أبي أذكرك بكلمات محمود درويش التي أسست وجداننا "ما هو الوطن؟ هو الشوق إلى الموت من أجل أن تعيد الحق والأرض، ليس الوطن أرضاً ولكنه الأرض والحق معاً...................."

انتهى الكلام! وكأنها نهاية فيلم، قلبت الصفحة لأجد سطرين بخط مختلف!!

" كانت هذه كلمات وداع ولدي عدنان، في تلك الليلة قام عدنان بعملية من أكبر العمليات في تاريخ النضال الفلسطيني، قام بتفجير نفسه في المكاتب الكبرى للعاملين بالمعتقل، لتتم في هذه الليلة أكبر عملية هروب في تاريخ المعتقلات لأكثر من ألف معتقل دون إصابة أحد منهم! ضحى ولدي بروحه وروحي وأنا على قيد الحياة من أجل الوطن، من أجل فلسطين، لأجل فلسطين يموت الشباب ليرسلوا رسائل مباشرة للمحتل، أبداً لن نستسلم، انتهى"

لم أشعر إلا ودموعي بللت وجهي بالكامل، سمعت كثيرًا عن تاريخ "فلسطين" ولكن، للمرة الأولى أعايش قصة حدثت منذ مئة عام لم ولن تموت! لم يكن (عدنان) إلا عم جدي ولم يكن إلا واحدًا من آلاف الفلسطينيين الذين ضحوا بأرواحهم لاستعادة وطنهم المسلوب!

وقفت على باب المنزل الكبير، أتأمل المزارع الخضراء الشاسعة والبيوت البسيطة القديمة، علمت الآن لما لم تتغير "أريحا" رغم تقدم العالم أجمع! على هذه الأرض، عاش أبطال كانوا سبب في تحريرها! سيخلدون كما هي فلسطين، أغلقت البيت وأخذت المفتاح لأضعه مكان مفتاح بيتي الذي لم يعد ملكي، جلست بالسيارة أنظر للبلدة في المرآة، لأخرج تذكرة اللاعودة، أقطعها وأنا أقول " لو كان كوكب الأرض سيفنى، فلأفنَ في فلسطين التي راح في سبيلها آلاف الأرواح، ليذهب العالم وتبقى فلسطين)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى