أعراس في حجرة الدروس «أوراق من ذكريات مشرقة»
توطئة:
من ذكريات الكاتب المشرقة ما كان يعيشه في حجرات الدروس من "أعراس"؛ أعراس يحييها تلامذته الذين ألحقوه بعالمهم، وانتخبوه عضوا رئيسا في فرقتهم؛ يكتب كلماتهم، ويلحن أغانيهم؛ فيطربون، ويطرب لطربهم.
إنها الأعراس؛ "أعراس في حجرة الدروس"، وقد سطرت في "أوراق من ذكريات مشرقة" بعد أن اختيرت هذه الأخيرة بعناية من حياة الكاتب المهنية والشخصية؛ إنها ذكريات خطت وصفا، ورسمت تصويرا، وحكيت سردا؛ فتولد عن ذلك كله نص سردي احتفى فيه صاحبه بالجميل من الفضاءات، والنبيل من القيم، والمتين من الصداقات.
هذه الإضمامة من الأوراق لم تجمع، فقط، لتوثيق لحظات حميمة خوفا عليها من الامحاء والاندثار والنسيان، وإنما كذلك للدفاع عن تجربة وأسلوب في التربية والتعليم آمن به الكاتب/المدرس ــ وكثير من المدرسين ــ ومارسه وناضل من أجله. ولهذا جعل الكاتب من هؤلاء الأبطال ــ في شخصه ــ أمثالا تضرب في البذل والعطاء والتضحية.
الكاتب في سطور:
الحبيب الدراوي عبد السلام إطار تربوي من مواليد 1947.
تابع دراسته الابتدائية والإعدادية والثانوية بمدينة طنجة.
والتحق بالمدرسة العليا للأساتذة (فرع فاس) سنة 1968؛ وتخرج منها أستاذا للأدب العربي عام 1972 حيث درس بالمدرسة العمومية ثم الخاصة بكل من تمارة والمضيق وتطوان إلى حدود سنة 2014.
من إنتاجاته: أعراس في حجرة الدروس "أوراق من ذكريات مشرقة"، مطبعة الحمامة، تطوان، ط. مارس 2021.
عتبات النص:
قبل استكشاف المؤلف المعنون بـ"أعراس في حجرة الدروس" بناء ومحتوى، نشير إلى عتباته المحددة في العناصر التالية: العنوان الرئيس، والعنوان الفرعي، واسم الكاتب، وصورة الغلاف، والإهداء، والتوطئة.
ولا شك في أن هذه العتبات قد اختيرت لتصلنا بفصول هذا النص السردي، والتي سماها الكاتب "أوراقا". فإذا كان العنوان الرئيس هو المؤشر الدال على محتويات هذا النص، فإن للعنوان الفرعي وظيفتين: الأولى توضيحية تكشف عن دلالات "الأعراس" إذ تحيل إلى الأنشطة التي كانت تقام في الفصل الدراسي، وما يترتب عليها من شعور بالفرحة والانشراح. ولقد استحالت تلك "الأعراس" إلى "ذكريات مشرقة"؛ علما بأن هناك مرادفات كثيرة تفيد معنى "الإشراق" من قبيل "الجميلة" و"السارة". غير أن استعمال الكاتب لكلمة "مشرقة" اختيار بلاغي لكونها تتضمن المعاني السابقة (الجمال، السرور...)، وتتجاوزها إلى معنى آخر هو "الإضاءة" أو "الإنارة".
ف"الذكريات" التي يتحدث عنها الكاتب جميلة وسارة، إضافة إلى كونها "مضيئة" و"منيرة" للطريق التي سلكها الكاتب وهو يقود تلامذته من المهد إلى اللحد. وهو المعنى الذي تفيده كلمة "مشرقة" في سياقات كثيرة كقول الكاتب: «وهكذا تحول عيد ميلادي الثالث والسبعون إلى أنوار مشرقة، وشموع متوهجة انارت ليلتي...».
والوظيفة الثانية تجنيسية إذ تنتمي "الأعراس" إلى "الذكريات"، والتي تشير ــ بدورها ــ إلى أدب شخصي نسميه "مذكرات". ولم يكشف الكاتب من هذه الذكريات إلا عن المشرق منها لأسباب شخصية أو جمالية أو بيداغوجية أو إيديولوجية.
لقد أصر الكاتب على أن يتقاسم ذكرياته في الفصول الدراسية مع غيره؛ فلمن أهدى ذكرياته؟ ولمن حكاها؟
يقول الكاتب في "إهدائه": «إلى كل من يشعل شمعة يضيء بنورها نفق العابرات والعابرين. إلى كل من يحمل فكرة يحاول أن يهد بها جدران الاستعباد والظلام..».
لقد أرسل الكاتب أوراقه إلى صنف من المتلقين خاص، ممن يناضلون من أجل الحرية والنور، ويحاربون الاستعباد والظلام، داعيا إياهم إلى أن يشاركوه في أعراسه؛ ولهذا خصهم في توطئته بنداء خاص سنبثه مباشرة في "التوقيت" والسياق المناسبين.
ومن أجل أن يفصل ما أورده في إهدائه مجملا، فإن الكاتب أتبع الإهداء بتوطئة خصصها للمتعلمين والمدرسين؛ وفيها تصوير جميل لدنيا المتعلمين: فهم البحر الزاخر، والخضم العظيم، واليم المتلاطم «فمن يجرؤ على الخوض في أعماقه...؟» من المدرسين إذا لم يكن الواحد منهم سباحا ماهرا يعلم علم اليقين أنه «يسبح في خضم عميق مضطرب قد يُغرق أمهر السباحين».
إن "التوطئة" التي صدر بها الكاتب نصه السردي هي، في نظرنا، بمثابة "البيان التربوي" الذي أفصح فيه الكاتب عن مشروعه البيداغوجي، والذي يأمل أن ينخرط المدرسون الجدد فيه، ويشاركوا في إنجازه بعدما اقتنع ــ من خلال تجربته الخاصة ــ بنجاعته وبقابليته للتطبيق.
ولن تكتمل الصورة، صورة العتبات إلا بالصورة الأخرى، صورة الغلاف. وهي الصورة التي تتقاسمها زرقتان: زرقة السماء، وزرقة ماء البحر؛ فإلى أعلى الصورة صعد العنوانان طباقا؛ بينما اختار الكاتب أن يتموقع ــ باسمه ــ في مكان استراتيجي، في أسفل الصفحة يسارا؛ وكأني بالكاتب يقف هناك، على شاطئ البحر ليتأمله بعد أن هدأ، وخرج منه سالما؛ فقد أدى الكاتب/المدرس مهمته بكل مسؤولية وتفان، وأصبح جديرا بأن يقف على الشاطئ، ويستمتع بسحره: زرقته ونوارسه وأفقه الممتد. إنه البحر الذي يذكره بعالم التلاميذ الساحر الزاخر «فعالم التلاميذ بحر زاخر، يجد فيه الغواص ما يغنيه ويكفيه من اللؤلؤ والمرجان».
بناء النص: من المكونات إلى المضامين
اختار الكاتب، انطلاقا من منظوره الفني الخاص أن يجعل نصه السردي موزعا بين ثماني أوراق؛ وهي بمثابة الفصول التي تكونت منها مذكراته؛ ومجمل الأوراق يغطي مسيره التعليمي الذي امتد لاثنتين وأربعين سنة قضاها الكاتب ــ كما قال ــ في معترك حجرات الدرس. والملاحظ أن الكاتب وضع لكل ورقة عنوانا خاصا؛ وأغلب العناوين يحيل إلى فضاء من الفضاءات (إعدادية الغزالي، دار الشباب)، أو إلى قيمة من القيم (حب، وفاء)؛ أو إلى علامة من علاماتها (شمعة).
ضم الكاتب أوراقه محتفيا، وصفا وتصويرا، بمكوناتها الأساس: الشخصيات والأحداث والفضاءات؛ عوالم ثلاثة يتنقل الكاتب فيها من سحر التلاميذ إلى إشراق الأحداث مرورا بجمال الفضاءات: فضاء تمارة (إعدادية الغزالي ـ دار الشباب)، وفضاء المضيق (إعدادية ابن بطوطة)، وفضاء تطوان (المدارس الخاصة). فضاءات تتحول بين أنامل الكاتب إلى بساتين، والتلاميذ إلى أزهار وورود.
أما الأحداث فلقد ترك الكاتب في كل محطة من مسيرته كلمة وبصمة: «اعترف لي بعض الآباء في أحاديثهم معي بأن أبناءهم تغيروا كثيرا»؛
أو أفصح عن لومة: «في فترة الاستراحة، قصدت الحارس العام، وبادرته قائلا: أنا من طلبت منهم عدم الوقوف... انت أحرجتني أمام تلامذتي... تجاهلتني وكأنني غير موجود، وكأني لست أستاذا لهؤلاء التلاميذ ومربيا ومرشدا لهم»؛
أو انتابته رجفة: «الرجفة الأولى حدثت لي حين تلقيت رسالة من إحدى تلميذاتي التي انتقلت إلى الثانوي... كيف جرؤوا عليها؟ وهي التلميذة التي كنت أخجل من معاتبتها، أو انتقادها لوقارها وسمو ونبل أخلاقها ورهافة حسها! جرحي عميق، قد يندمل يوما ولكنه لن يشفى!»؛
أو صدرت عنه ردة «قبل أن أنهي سنتي الثالثة بقليل ... دعاني إليه صاحب المؤسسة، ونقل إلي ما ورد إليه على لسان أحد الآباء. يقول هذا الأب إني أهمل دروس القواعد، ولا أوليها أهمية!... هذه الواقعة جعلتني أقرر عدم العودة إلى هذه المؤسسة...».
وفي كل المحطات والمراحل كان الكاتب يحرص على أن يوطد علاقته بالتلاميذ داخل فضاء المؤسسة التعليمية وخارجه. كما كان يسعى إلى أن تكون علاقته بزملائه من المدرسين والإداريين متوازنة «كانت علاقتي بزملائي الأساتذة والإداريين ممتازة... لم يفرقنا لا مذهب إيديولوجي، ولا انتماء حزبي أو نقابي... اشتركنا في تنظيم أنشطة ثقافية ورياضية واجتماعية». أما أولياء أمور التلاميذ فقد أصبحوا من أصدقائه؛ أحبوه بصدق، وأظلوه بإنسانيتهم ونبل مشاعرهم. كما انخرط في العمل الجمعوي، وازدادت علاقته ببعض الجمعيات ــ مع توالي الأيام ــ تشعبا و"خصوبة".
وفضلا عن ذلك، فقد مر الكاتب بأحداث جسام خلال مسيرته التعليمية؛ وهي الأحداث التي أولاها عناية خاصة، سردا وتصويرا. ومن ذلك التحاقه بمقر عمله، وشروعه في مهمته التعليمية، وكان ذلك «يوم رابع دجنبر سنة 1972، بإعدادية الغزالي في تمارة... أذكر أن الحصة الأولى مع تلامذتي ــ والتي ظلت منحوتة في ذاكرتي ووجداني ــ كانت بين الرابعة والسادسة مساء».
وتوالت الأحداث ليضطر الكاتب إلى الانتقال إلى المضيق بسبب مرض والده، فضلا عن كونه لم يعد مرتاح البال «حينها بدأت أشعر بالاختناق جراء تبدل الأحوال... وجاءت النقطة التي أفاضت كأسي المترعة: مرض والدي! حالته الصحية كانت تحتم علي الاقتراب منه للمساعدة على العناية والاهتمام به، وهكذا قررت الرحيل بعد ست عشرة سنة قضيتها تحت سماء مدينة تمارة، وبين أحضان تلاميذها وسكانها».
واستمر نضال الكاتب التربوي إلى "أن انتهت عقدته مع الوزارة"؛ وتوجت مسيرته بحدث عظيم، حدث تكريمه من طرف قدماء تلاميذ ابن بطوطة: «كان حفلا بهيجا في يوم ربيعي من أيام مارس سنة 2016، لم أتخيل أن يلبس مسرح "للاعائشة" بالمضيق هذه الحلة المزركشة بكل الألوان الزاهية...». وهو التكريم الذي عده الكاتب تكريما رمزيا لكل مدرس أفنى عمره من أجل تلاميذه.
وبعد أربع سنوات سينظم قدماء تلاميذ إعدادية الغزالي (تمارة) حفل تكريم عبر الأثير يوم 14 مارس 2020 تعبيرا منهم عن حبهم ووفائهم له. فما كان من الكاتب إلا أن يعترف بالجميل: «إني مدين لكم أعزائي في المضيق وفي تمارة.. مدين لكم بهذه الفرحة التي أهديتمونيها.. فرحة صنعتموها من عصارة قلوبكم...».
إنها مسيرة طويلة، شاقة، حافلة... استمتع الكاتب من خلالها بالجمال؛ جمال العواطف النبيلة، وصفاء القلوب النقية. فانتشى بتقدير واحترام الآباء والأمهات؛ وأسكره حب التلاميذ ووفاؤهم؛ غير أنها لم تكن مسيرة مفروشة بالورود؛ كان الشر يتربص، وكان القبح يستشري؛ ظلمات لم تبددها إلا شمعة: رفيقة دربه التي أمدته بالصبر والصمود، ونزعت الأشواك من طريقه، وأنقذته من الغرق.
نشير، أخيرا، إلى أن الكاتب ذيل نصه السردي ب"خاتمة ليست كالخواتم"؛ خاتمة استعاد من خلالها ــ وعن طريق تقنية الفلاش باك" ــ طفولته وحياته في الكتاب استجابة لطلب تلامذته. يقول الكاتب: «كثيرا ما كنتم عزيزاتي التلميذات، أعزائي التلاميذ، تلحون في السؤال.. تريدون أن أحدثكم ولو باختصار عن طفولتي الأولى. تودون أن تتعرفوا أحوالي الدراسية في هذه الفترة من حياتي. وكنت أماطلكم، وأؤجل الاستجابة لطلبكم. واليوم، وبعد أن كبرتم، وصرتم قادرين على الفهم والإدراك، والتمييز والتحمل.. فإني سأنقل إليكم لحظات من أيامي في الكتاب حين التحقت به ولما أتجاوز سن السادسة». ولقد ركز الكاتب في هذه الاستعادة على حدثين تركا فيه أثرا بليغا، جسديا ونفسيا؛ أولهما ما تعرض له من "تعذيب" على يد الفقيه في الكتاب الأول: «كان "يشوي" أقدامنا بالتناوب... نصرخ متوسلين تائبين... يضرب ويضرب حتى يتحول العود في يده إلى خيوط متشابكة...». والحدث الثاني التحاقه بالمدرسة العمومية: «والتحقت بالمدرسة.. وابتسمت لي الحياة، وتغير لون سمائي من سواد إلى زرقة ساحرة ..». لقد أصبح تلامذته، إذن، قادرين على الفهم والإدراك والتمييز والتحمل والمقارنة والحكم.
من بلاغة النص السردي إلى بلاغة الخطاب التربوي:
نعد "الأعراس" نصا سرديا تضمر أحداثه وشخصياته وصوره خطابا تربويا راقيا؛ إنه «خطاب صادر عن فاعل تربوي يروم تقديم بدائل وحلول». وهذا يعني أن المدرسين يمارسون، فعلا، البلاغة. من هنا تصبح كل بيداغوجية بلاغة، وكل مدرس خطيبا. إنه بالفعل خطيب في حجرة الدروس وفي "أوراق من ذكريات مشرقة".
لقد ساهم الكاتب بنصه السردي في إغناء الخطابات التربوية وتنويعها؛ فلم تعد هذه الأخيرة محصورة في المذكرات والأطر المرجعية والمناهج والمقررات والدراسات؛ بل انضافت إليها ــ بهذا النص وبغيره من النصوص المماثلة ــ الكتابات السردية التي تعالج قضايا التربية والتعليم من منظور تخييلي.
إن الخطاب التربوي الثاوي في نص "الأعراس" يستند في بناء بلاغته إلى مكون أساس عنوانه البارز التصوير النابع من معين التخييل حيث الصور "المجنحة" والبليغة؛ فضلا عن انتقاء الكلمات الدالة، والعبارات الموحية. كما أن وظائف ذلك الخطاب تتعدد وتنداح لتشمل كل ما يترتب على تصوير الكاتب من رغبة في التأثير والتغيير؛ أي التأثير في المتلقي، وإقناعه بأساليبه واختياراته التربوية. ومعنى هذا أن بلاغة "أعراس في حجرة الدروس" تكمن في التلازم القائم بين التصوير والحجاج. ولهذا سنسعى إلى إبراز بلاغة الخطاب التربوي المتواري في نص "الأعراس"، وذلك من خلال تحديد "الأطروحة" التي يدافع عنها الكاتب، وضبط نوعها وطبيعتها، وبيان طريقة الاحتجاج عليها.
يدافع الكاتب، إذن، عن "أطروحة بيداغوجية" مفادها أن التغيير في مجال التربية والتعليم والتدريس ممكن؛ ويشمل ذلك التغيير، تغيير المواقف والقناعات السلبية، وتدعيم "النفسيات" المحبطة، وتحسين المستوى بالتحفيز والمنافسة؛ يقول الكاتب: «آمنت خلال هذه الرحلة الطويلة بأن التلميذ يتشبع بسلوك أستاذه، وينهل من مبادئه ويتأثر بمواقفه. لذلك... وددت أن ينظر إلى الحياة نظرة صفاء وأمل وسلام .. أن يعانق كل ما فيها من جمال ورونق وبهاء». ولهذا كان الكاتب/المدرس يستعين بأساليب معينة لتحقيق أهدافه التربوية: «كنت في كثير من الأحايين أخلق تنافسا شديدا بين تلامذة القسم في قراءة النصوص الشعرية، أو مطالعة بعض القصص، أو تلخيص فقرات من بعض الكتب. وكان هذا التنافس يتحول إلى تحد!»؛ بمعنى أن «هناك بدائل أخرى ممكنة تتجلى في خلق جو للمنافسة بين المتعلمين وتقديم الجوائز وشهادات التقدير لتكريم الذين يعملون جيدا وإقامة المنافسات، مما يؤدي إلى نوع من الحماس وإثارة الحيوية في النفوس ودفع الشخص للعمل على التفوق على غيره».
وبيانا لأسس أطروحته وعناصرها، نشير إلى أن الكاتب لجأ إلى تحديد الفئة المستهدفة (المتعلمون)، وتعيين الفاعلين (المدرسون) إذ «كل متعلم بحر، وفي كل قسم دراسي بحور، لا يشق عبابها إلا ربابنة أكفاء». كما حرص على تسطير الأهداف واختيار الوسائل «التلميذ لا يحتاج إلى من يعلمه، من يلقنه، من يغرقه في ضباب من الوعظ والإرشاد.. وإنما إلى من يساعده على التعلم، إلى من يفجر طاقاته المخبوءة...». ولهذا كان من الواجب على المدرس أن ينتبه إلى المعوقات «لكن أزهاره ووروده تحفها الأشواك من كل الجوانب. وعلى المدرس أن يجني ما في الحقل دون أن يتيه بين المسالك الشائكة، بل عليه أن يتحمل في كثير من الأحيان الوخز، إن هو أراد الحصول على باقات عطرة نضرة».
إن التغيير المنشود لا يمكن، إذن، إحرازه إلا بالتحمل والتضحية والإصرار على خلق الفضاء المناسب تربويا وتعليميا، واعتماد الوسائل البيداغوجية الملائمة؛ يقول الكاتب: «وكنت بالإضافة إلى هذا التحفيز غالبا ما أبدأ الحصة بقضية مثيرة اشدهم إلي شدا، أكون قرأتها أو سمعتها أو تخيلتها. وهكذا ننطلق إلى الدرس بكل حيوية وحماس». ومعنى هذا أن المدرسين الأكفاء «يعملون دائما على أن يفرضوا على أقسامهم جوا تربويا يعكس شخصياتهم... وعلى العكس من ذلك ستبقى جهود المدرس دائما غير مجدية إذا كان سلوكه يناقض عمله».
هذا فضلا عن إغناء الحصص الدراسية المقررة بالمواضيع والأنشطة الحرة من قراءات شعرية، ولوحات مسرحية، وعروض ثقافية. وبهذه الوسائل ــ وغيرها كثير ــ يمكن إحداث تغيير جذري في فكر وسلوك ونظرة التلميذ سواء أتعلق الأمر بالمدرسة العمومية أم بالمدارس الخاصة؛ فلقد اعترف لي بعض الآباء ــ يقول الكاتب ــ بأن أبناءهم تغيروا كثيرا... نحن مطمئنون إلى النهج الذي سلكوه، إنهم في الطريق الصحيح. كما أن التغيير امتد ليصل إلى تلامذته بالمدارس الخاصة، والذين تروج عنهم ــ في بعض الأحيان والمناسبات ــ صور سلبية؛ يقول الكاتب: «كانت هذه "الخرجات" عن نمطية المقرر عاملا أساسيا في تغير سلوكهم وعاداتهم التي أدمنوا عليها». ولقد رصد الآباء والأمهات هذا التغيير، و«بدأت الارتسامات تصلني من أولياء الأمور، ارتسامات مشجعة، ولكنها محرجة. فثقة هؤلاء بي ورضاهم عني، وتنويههم بعملي، كل ذلك سيجعل حملي ثقيلا قد ينوء به ظهري».
لقد عمد الكاتب، في الدفاع عن "أطروحته"، إلى نوع أدبي مخصوص يقوم على السرد والتصوير؛ أي نوع يستطيع من خلاله أن يدافع عن قناعاته التربوية سردا لا تلقينا، ووصفا وتصويرا لا وعظا؛ وذلك وعيا منه بأن أسلوبي السرد والتصوير أقوى تأثيرا من الأساليب المعتمدة على الملاحظة والتحليل والتركيب والاستنتاج. ولهذا ألفيناه يغرق في وصف تعلقه العاطفي بحجرات الدروس، وفي تصوير انجذابه الوجداني إلى عالم التلاميذ الساحر؛ انجذاب تحول، في كثير من اللحظات، إلى سكر وفناء وغيبة: «وشلني خدر غريب، وأبت عيناي مطاوعتي على الرف، وتحول التلاميذ أمامي إلى فسيفساء متلونة مائعة تتماوج ألوانها وتتقاطع وتختلط». وهكذا، وبأسلوب شاعري، انتقل الكاتب إلى عالم التلاميذ، فانعدم بقاؤه وحضوره، وفقد القدرة على التمييز حتى يخيل إليه أن التلاميذ قد استحالوا إلى قطع من الفسيفساء.
ومن الصورة البلاغية إلى الصورة السردية سيحاول الكاتب أن يستجمع قواه من دون جدوى حيث «عاودتني حالة الخدر مرة أخرى... دق الجرس ولم أسمع من رناته شيئا، وغادر التلاميذ القسم، واصطف فوج آخر أمام الباب وأنا في مكاني شارد عن العالم كالمسحور». إنه تصوير جميل، ووصف دقيق لحالة الكاتب/المدرس في خدره وغيبوبته عندما اندمج في فضائه، فضاء حجرات الدرس، وانفعل بقراءة التلاميذ الشعرية، وانقاد لسحر الشعر وجمال الأداء.
وفضلا عن التصوير الجمالي الجذاب، فإن الكاتب حصن قناعاته البيداغوجية بهالة قيمية زادت أطروحته قوة وبهاء وإشراقا؛ فلقد نهلت أطروحته من تجربته التعليمية التي «تشكلت من وجداني، وتغذت ونهلت من حب تلاميذي»؛ وهو الحب الذي لا يوزن بالمال أو الذهب أو الجواهر؛ يقول الكاتب: «فيأخذني الشرود إلى عدد من رجال التعليم الذين يعلنون جهرا أنهم أفنوا عمرهم في التدريس ولم يربحوا شيئا! وتمنيت لو حضروا اليوم ليدركوا أن ما ربحوه لا يوزن بمال أو ذهب أو جواهر، وما نفع هذا كله إن افتقدوا حب تلاميذهم؟».
كما حرص الكاتب/المدرس على أن يقوي علاقاته بتلامذته برابط من الاحترام والتقدير والمودة والصداقة؛ علما بأن القيم ــ يقول أوليفيي روبول ــ لم تختف أبدا من المجال التربوي لسبب بسيط هو أنه ليست هناك تربية من دون قيم. وكذلك حتى يضمن لعلاقاته الاستمرار؛ ومع استمرارها أخذت قناعاته تغتني وتترسخ ليعلنها، كحقيقة ثابتة أو قانون مطرد، على شكل نداء موجه إلى كل مدرس ومدرسة: «أن الأستاذ والتلميذ إذا جمع بينهما الحب والمودة والاحترام المتبادل، جرت سفينتهما تمخر عباب البحر بتؤدة وانسياب، لا خوف عليها من عواصف البحر». بيد أن الوصول إلى هذا "التوافق" مع المتعلمين مشروط، ولا يمكن أن «يتحقق لك ذلك إلا إذا أحسوا بأنك تحبهم، وتعطف عليهم، وتحترمهم، وتثني على مجهوداتهم ولو في حدودها الدنيا».
إن التفاعل، تفاعل التلاميذ مع مدرسيهم؛ والتغيير، تغيير المتعلمين لسلوكهم وأفكارهم السلبية واردان وممكنان بشرط تحقيق التوافق المحكوم بالقيم الإنسانية النبيلة، قيم الحب والاحترام والتقدير. وهذا ما حققه الكاتب/المدرس ونجح فيه نجاحا باهرا. فلا غرو أن يزهو بما أنجزه بيداغوجيا وإنسانيا ويفتخر: «هكذا كانت حياتي واستمرت مع تلاميذي، سلسلة لامتناهية من النجاح».
لقد غدا الكاتب/المدرس بهذا النجاح نموذجا تربويا قابلا للاقتداء؛ غير أنه لم يصل إلى هذا المقام، مقام القدوة إلا بعد أن تشبع بالقيم الإنسانية؛ وناضل من أجلها تعليميا وجمعويا؛ فأصبح فاعلا في محيطه ومنفعلا به «كان عدد من الآباء والأمهات يمنعون بناتهم من التنقل إلى مدينة تطوان لمتابعة الدراسة في السلك الثانوي خوفا عليهن. وكنا ــ أنا وبعض الأساتذة ــ نتدخل في الأمر، فنتلقى ردودا إيجابية من جل الأسر، ومازال بعضهن لحد الآن في تمارة والمضيق يذكرنني بهذا الجميل».
إن أسلوبه وطريقته وتواصله وتفاعله... كل ذلك حوله إلى نموذج، والنموذج، بلاغيا، هو أكثر من مثال؛ إنه يقدم باعتباره مثالا قابلا للتقليد؛ أي للسير على منواله بيداغوجيا، ولتجسيد قيمه إنسانيا واجتماعيا، تأثرا بما حفل به نصه السردي من صور، وما تضمنه خطابه التربوي من توجيهات ودعوات؛ أو اقتناعا بما ساقه من حجج. وآخرها ما أورده في نصه السردي بعنوان: "خاتمة ليست كباقي الخواتم". ففي هذه الورقة الثامنة يعود بنا الكاتب إلى طفولته الأولى، إلى حياته في الكتاب وما شهدته من أحداث جسام تركت جراحا عميقة في جسده ونفسه «جراح مازالت آثارها كامنة متربصة بي، تطل علي بمناسبة وبدون مناسبة إلى يومنا هذا».
وإذا كان لتسييق هذه الخاتمة نصيا ما يبرره فنيا أو جماليا، فإننا نعتقد أن لها ما يبررها، كذلك، حجاجيا إذ تنبني على مقارنة ضمنية بين أسلوبين في التدريس: أسلوب الكاتب/المدرس المتحضر، وأسلوب فقيه الكتاب العنيف، مرجحا الأول على الثاني، ومحذرا غيره من المدرسين من اعتماد أسلوب الفقيه لما يترتب عليه من آثار نفسية وجراح جسدية؛ وهو ما أفصح عنه الكاتب في بيانه التربوي قائلا: «يعتقد بعض المدرسات والمدرسين، أنهم قادرون على ضبط المتعلم والسيطرة عليه وإخضاعه بالتخويف، وبالعقاب اللفظي والجسدي، أو بوسائل أخرى قد تكون أشد قسوة وفظاعة! وهم بسلوكهم هذا لا يدركون أنهم سيحولون هذا الكائن البريء النابض بالحياة إلى هيكل خشبي لا نسغ فيه ولا روح».
وقبل الختام أشير إلى أنه كانت تعن لي، وأنا أتصفح أوراق هذه المذكرات، بعض الملاحظات المتعلقة بلغتها وصورها. ومما تراءى لي أن بعض الصور يعاني خللا في بنائه ناتجا عن عدم التناسق كقول الكاتب: «أجل، كل متعلم بحر، وفي كل قسم دراسي بحور، لا يشق عبابها إلا ربابنة أكفاء. وحجرة الدرس حقل مزهر، لكن أزهاره ووروده تحفها الأشواك من كل الجوانب». ففي الفقرة صورتان: صورة المتعلم، وصورة حجرة الدرس. وهما من حقلين مختلفين. فكيف أمكن الانتقال من البحر إلى البر؟ وكيف تحول المتعلمون فجأة من بحور إلى أزهار وورود؟ ولعل السبب في هذا الخلل أن يكون هو الجمع بين صورتين من حقلين مختلفين في سياق واحد. والأنسب في مثل هذه الحالات أن يتم توحيد الحقول أو إيراد كل صورة في سياق منفصل مع مراعاة المقام.
ومن ذلك أيضا قوله: «كانت هذه المحطات معارك حقيقية، وكان لي في كل معركة جولات، انكسرت في بعضها، وانتصرت في أغلبها... وهكذا لم أغمد سيفي وأترجل عن جوادي إلا بعد اثنتين وأربعين سنة قضيتها في معترك حجرات الدرس!». فالملاحظ أن الكاتب استعمل معجما حربيا لا يتناسب مع أجواء حجرات دروسه لأن هذه الأخيرة كانت محل أعراسه؛ ولهذا كان من المرجح أن الكاتب خاض حروبه في فضاءات أخرى. أما في "أعراس في حجرة الدروس" فلم يخض الكاتب إلا حرب الصور، فهل ربح أغلب معاركها؟ وهل أفلح في تصحيح الصور السلبية المتعلقة بالتلميذ والأستاذ والمدرسة؟
لقد حاول الكاتب في نصه السردي أن يرصد الجمال في الطبيعة والإنسان والشعر. أشاد بالإنسان المربي وبالعلاقات الإنسانية المبنية على القيم النبيلة؛ وصاغ كل ذلك في صور جميلة بعيدا عن الخطابات البئيسة حيث التذمر والشكوى من كل ما له علاقة بفضاء المؤسسات التعليمية.
"أعراس في حجرة الدروس" هي أوراق من ذكريات مشرقة؛ ما أن تشرع في قراءة ورقتها الأولى حتى تغرق في أبحر من الصور، أو أنهر من الأوصاف؛ تتقاذفك الأمواج والتيارات ــ بكل لطف ــ من صورة إلى صورة؛ ومن وصف إلى وصف إلى أن تصل إلى الورقة الثامنة ــ حيث بر الأمان ــ سالما غانما. فحقيق بكل متلق أن يستمتع بقراءتها، وأن يتلذذ بشعريتها، وأن يتأثر ببلاغة خطابها. إن من شأن مطالعتها أن تخلق متعة في النفس، أو تترك نكتة في القلب، أو تحدث رجة في العقل. ولهذا حاولت أن أعالج بلاغتها تكوينا وتأويلا ووظيفة.