الثلاثاء ٢٢ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم جهاد غريب

أعواد الثقاب

كانت التربة رطبة بفعل المطر في بطن بستان كان مهجوراً منذ عشرة أسنان هرمة صفراء سقطت ذات خريف، وقرنين كعتمة الليل.. "نطح" بهما المارّة ذات غروب، فتركوه للأشباح، إذ كان كوكبهم يشكو من أزمة سكان!.

أخيراً.. استيقظ البستان على صوت زلزال.. في الأخبار قالوا عنه: رعداً مشاكساً زلزل الأرض تحت أقدامنا، ولا ضحايا بشريّة في الإعلان!، أما الخسائر فعلّقت على المطر الجرس، رغم أن الأخير كان يوزّع " المقسوم " على أوراق خضراء ظهرت مؤخراً في البستان.

أحياناً.. علينا أن نصدِّق مصدر الخبر، لا الخبر ذاته!. أحياناً أخرى لا نجرؤ على تكذيب لسان الأخبار مهما امتد طوله.. سفهاً!. لديهم قدرة على إظهار البراهين المجففة بحرارة عارمة وضغط جائر.. منها: أن الأغصان اليابسة كانت تغتسل من عرق الخوف وقت حدوث الزلزال.. أقصد الرعد الصناعي الذي زرعوه في عقول أرادوا لها الجمود والتوقف عند حدود أنظمتهم وقصورهم المتربعة على مساحات ليست من حقهم حتى جعلوا يخبروننا.. أن العاصفة قادمة، وأن الجدار أخذ ينحني أمام الريح حتى أخرج من جوفه أسلاكاً، فباتت عارية.

هناك حيث البستان المهجور، وبعيداً عن لسان الأخبار.. وردة طبيعية لم ينكحها سماد الحقول بعد!، ولا حتى محلول هولندي كانت قد كشفت عنه مجلات الصيف مؤخراً. وفي لوحة ملطخة بألوان من كوكب الأشباح كتبوا عبارة " مغذٍّ جيد". الدهشة شهادة توقيع على الاستسلام أحياناً، إذ لا محكمة، لا قضاة، لا شهود على تزوير حقيقة ذلك المحلول في هذه الزاوية.

ببساطة يا صديقي.. هو موسم " شم النسيم " كما أرادوا له أن يكون في الإعلان، دون احترام لموعده ولا انتظار لحين ولادته. ربما كان موسم جمع الورد العانس، إن شئت فقل.. اليابس بعد حين.

آه.. ماذا بقي؟ لقد جف الورد في قعر محيط الـ أنا عند حلول نيسان، بل كل الشهور قد تخضع لوطأة النسيان ويبقى هامش الأنا وحده بحجم المحيط.

 أ قلت الـ أنا ؟.

 نعم:

فالمحصول ينتظر موسم القطف، وحتى يحين موعد الحصاد.. سيتسلل الريح من قسمات الظهر، وعظام الرقبة!، لأن هناك أمزجة لا تحترم المواعيد، إذ كل المواسم لديهم مجرّد قطف، خصوصاً، عندما تكون الـ أنا فوق القوارير بدرجة.

 كيف؟

 دعني أشرح لك:

الحجاب للأنثى، حتى في لغة الكلام، وهذا لم يكن مجرد غياب شفق، بل هو غياب إدراك.
هم يعتقدون، والنشوة في شرايينهم تغلي، أنه بـ.. قطنة صغيرة سيتوقف النزف. لقد كان صوتاً ضمن سلسلة صرخات ناعمة.. تعلو أشياء الغرفة، وتكشف عن انتصار مؤقت!.

 يا إلهي!.

 نعم دعني أكمل:

هناك فارس بلا جواد، ومعركة لا يقاوم أتربة ميدانها غيره، إذ هو الوحيد الذي كان يتصدى للنبض المنبعث من صدرها بسرعة!.

 يعني..!

 لحظة من فضلك:

يقولون بلغة الخبرة الغبية: فقط عليك بـ... قسوة " براغماتية"، وفي لحظة عابرة.. ستنزف نظرة عطف من عين الغصن!. دِرْ لها ظهرك ثم ارحل بعيداً عن ساحة المعركة فإن أحداً لن يبالي.
إن فعلت.. خسرت الرهان، وبقي التحرير مؤجلاً لمساء آخر!.

 أ بهذه السذاجة!.

 نعم بل أكثر.

فهم ونحن والآخرون وكل من في الدائرة.. مجتمع ضوضائي عند هذه المحطة! لأننا نُدرك أن ثمة حقوق تُسلب بغية إرضاء طرف أخرى. ولكن! الإدراك هنا لا يعني بالضرورة أن نسلّم بالواقع يا صديقي، إنما هو الواقع الذي سلّم بنا، إذ الأول يثقب الحبل السري لجهله بسياسة الأناقة، والآخر عن "طيب خاطر" و "هبل" مطلوب أحياناً، يعالج الثقب بـ آه..، ومع ذلك لا ينفك عن العتاب.

فكل منهما يعتقد أنها الرومانسية حيث الزهور تباع في قراطيس، والعقار يخرج من عين الدبابيس بنقرة أصبع!.

أما الأول فلا يهدأ أبداً، ويستمر في ممارسة القسوة البيضاء.
حيناً .. يلوم ضوء القمر متجهماً.

 ماذا يريد ؟.

 شمعة حمراء على مائدة بـ " مفرش " أبيض.

وحيناً آخر.. يكفر بقسمته! فيقول دون الرضوخ أمام القناعة: السكر قليل!، ويبالغ في التصريح: آه.. الشهد مصحوب بـ.. كيماويات، وبالرغم من ذلك، لا أحد يردعه، ثم فيعلن: نعم.. شمعها لا يذوب مع احتراقي!. صحيح..! قد يكون كاذباً، إنما يفلت دون عقاب.

 هل تريد أن تقول..

 لحظة.. لا تتعجل، فالمسألة بُرمتها مجهدة، وتخضع لرغبة الآخر في الذوبان، أو تكذيب الـ.. " ايتيكيت".

إذن: دعني أقول لك: إن النشوة والمساء كقطع الثلج والماء، من يذوب في الآخر؟ لا يهم.. المهم هو أن يكون هناك ذوبان، والأهم.. أن يبتلع الورد عطر المساء فيدخره للعشاق، والتجار أيضاً.

آه.. هم يبيعون الكحل للنساء، ثم يشترون بثمنه ورداً للنساء أيضاً.

 لاحظ يا صديقي هنا.

 ماذا ؟.

في يقظة صباحية تدلّت جدائل الورد فيها على بساط من الطين، نادى أحدهم :
" الحرير للزبائن فقط "!.

مشكلة تنفجر ذات تساؤل:

أ يكون العمر دون قوالب ثلج.. رتابة؟، ويطول عنق السؤال.. أ يصلح التفكير ما أفسده الذوبان؟. إذن.. هي مسألة: كيف نمزّق الوقت، ونقطف الورد، ونعصر الثمر وووو..، ونثقب الـ " كيس " لتنزف العفة!؟.

فمنْ يُدرك كيف يعالج الـ " كيف " بمزاج عالٍ فيه الـ أنا ومن بعدي الخفافيش! يستطيع حل اللغز، وكشف المظاهر المخبوءة في بطن الغموض!.

فلعلّها تنقشع المفاهيم عند مرحلة طيش، ويصبح المتحف جميلاً.. بقليل من الحبال، و قَشّ الزينة!.

لقد صنعوا - يا صديقي- قشاً للزينة، وتركوا " البرسيم " على ظهر أغطية الموائد!.

 أ قلت مرحلة طيش!؟.

 نعم.. وأظنها التلقائية في قراءة المقدسات على أنها مخلوق حي عاش حيناً ثم مات!.
هكذا ببساطة يتغلب الطائش على الذنب، ويعربد في معتقداته كيفما اتفق، ثم - بسهولة جداً - يقفز فوق العلاقة التي تربطه بالمجتمع، ويترك - من خلالها- فرصة يحرك بها قدمه، حتى يتصدى للهمم، ويركل - بعشوائية- كل مبدأ حاز على وسام الأمم.

آه.. لم تكن الأمزجة وحدها " غلط " يا صديقي!، فالمسطرة تحمل (30) سنتيمتر دون نكاح! لأن شرعية المقاييس لا تشكو قلة الرقابة إلا على موظفي القطاع!.

 يا لها من معادلة!.

 نعم : هي معادلة ميئوس من وزنها كما يجب، إذ الوكالة محلها المحكمة، والضمير غائب، أما الفواتير.. فهي ثروة نائمة.

هكذا يفسرون العلاقة بين المجتمع والمجتمع أيضاً، وبحلم غير مدروس يخطط أكبرهم ويرسم قراراً وزارياً :

" هذه الثروة ستعيد لنا زمن الإقطاع، وملامح الإقطاعيين.. لا يهم !. المهم الثروة، أما الرعاة والمرعيون، وحتى القطيع بأكمله.. لهم فقط عشب الأرض!، والنفط للأقوى ".

 السؤال يا صديقي.. أين نحن من كل هذه " الخلطة " ؟.. في السهل أم على رأس القمم!.

 فعلاً.. " لخبطة"!.

 قل " لخبطة " مفاهيم.. تشبه ضفائر المعكرونة الإيطالية بعد الطهي.

وهنا.. يسألني أحدهم، كان الأكثر أناقة بين عمال المطعم:

 هل آتيك بطبق منها أم يكفيك " صحن " سلطة من دون ملح، وقليل من نبأ !؟.
هنا تحديداً..

يرتسم الاستغراب على وجه صديقي، ويسيل لعابه، بانتظار إجابة منّي تجلي بعض الغموض في السؤال.

طبعاً.. رصدت أنا استغرابه، فأجبت بقناعة لم تلد بعد:

إذا رأيت بعض غموض في منظومة ما.. لا تُلِحّ على معرفة الحكمة من ظهور الصدأ، لأنهم سيتهمونك بالفضول، وستخضع لرقابة المواصفات والمقاييس، بحجة أنك جاهل تحمل شهادة، وتعمل في غير تخصصها وتخصصك، بل لأنك تتحدث بلغة الكبار وأنت أصغرهم سنّاً، أما الرؤية الناضجة، فهي لك وحدك.

لحظة.. لا تندهش يا صديقي، فقط أصغ إليَّ..

التهمة البيّنة في أنك: لم تُسكت صوت " الراديو"، وتجاهلت مشروعية السكون ليلاً في عمارة من خمسة عشر طابقاً، ولم تحترم القلم الذي تركته دون غطاء طيلة أمس، ولم تستأذن الورقة.. عندما قررت أن ترسم اللغة، وتكتب كلماتها على سطر أنيق، بينما وقفت خجلاً تنتظر قُبلة منها !.

لن يُصّدقوا أنها زوجتك!، لأنها لا تملك صورة لها في بطاقة العائلة.

أما هي فتجهل أنها كانت السبب في حركة العيون على سلم متحرك يقبع في صدر السوق!، ولا تعلم أنك أحد أطراف المشكلة! عندما صدر صوت صراخ فجأة في بيت جارك المجاور، فذكاؤها لم يسعفها حين تغيرت ملامحك، إذ كان وجهك يتصبَّب عرقاً، بل هي لم تقدّر بأن حالتك مرتبكة، وحركة جسدك مضطربة، والأهم أنها لم تلحظ الشرفة، إذ كانت تفتح بابها للهواء، ولاستراق السمع أيضاً.

ببساطة.. هي لم تتعود قراءة نفسيتك من رسم ملامحك، ومن تضاريس جسدك، بل إنكَ حين تتكلم.. لا تنظر إلى وجهك، وكأن الحياء ردة فعل مؤقت!.

أخيراً .. ينمو العشب في البستان المهجور كيفما اتفق، والمطر كريم بضربه رمل التربة.
هكذا أحببت المطر يا صديقي، وخفت من الأشباح، وعشت تفاصيل " الكابوس" أحلم بالخفافيش، لكنني مازلت أستخدم الأغصان اليابسة عصاً للإشارة بها على حروف كتبت بالطباشير فوق جبين " سبورة " لتعليم الصغار والكبار أيضاً.

هم تلاميذي النجباء الجبناء! لأنهم.. يدركون فعل العصا، ويجهلون كيف تكون معارضة الأستاذ؟. أي شقاء ينتظرهم في ظل مستقبل بات ينزلق من النافذة، ويزحف نحو الزاوية، ليكون فريسة لعنكبوت أمضى ليلة البارحة في صوم لا ينتظر عليه أجرا.

أما أنا.. فمازلت أستعمل المحلول الهولندي، وأنصح الآخرين باستخدامه، وأشتري الورد لها!.. ثم ألعن كثرة المصاريف، وغليان الفواتير، وفتور جيبي، وأتحدث بصوت مسموع وحدي في وجه صحيفة نشرت خبراً يسخر من عقلي، دون مواجهة منّي لطاقمها، أو مع منْ يمتلك حجب ترخيصها، لأن حجتي أضعف من بسط صفحاتها على الأرصفة.

حتى الآن .. لم أتعلم يا صديقي الصمت أبداً حين يكون طرفي في النزاع محسوباً على سلطة ما، وله في سَنِّ القوانين ما له في حصر أفكار أمثالي بالعصا!، وحشر مفاهيمي كأعواد ثقاب نائمة في صندوق.

اعلم يا صديقي.. أن أعواد الثقاب تلك، لم تكن مجرّد لوحة هندسية ترسم الحروف على الشفاه فقط!. إنما حاول أن تتلمسها، وبذهنك الذهبي اقرأها ثم خذها معك إلى حيث الطابق الذي تريد.

ستجد أن الورد والبستان والمطر وحتى الأشباح.. إيقاعات تتناغم في ملامح واقع مازلنا نتعرف عليه، وحاضر لا نستطيع تغييره فقط!.. بالاستشعار عن بُعد.

أخيراً.. تعلّم صديقي الإنصات بغير عصا، أما أنا فقد علمت أن البستان المهجور أصبح محط أنظار البلدية.. حيث قالوا بأنهم سيبنون على مساحته منزلاً للمحافظ الجديد!.

وحتى الآن الاقتراع جارٍ، والأدوار القيادية في منظومة الدولة يلعبونها وحدهم، وصفوفها لا يصلها أمثالنا. أما أعواد الثقاب.. فبقيت تعيش الواقع كله.. بلا احتكاك.

إضاءة المؤلف:

أعواد الثقاب: تستعرض عدة مشاكل نعيشها في واقعنا، وكل مشكلة تمثل عود ثقاب قابل للاشتعال في أية لحظة إذا ما تهيّأت لها أسطح مناسبة تحتك بها!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى