

أنا أقرأ ...لغة العيون
أخذت القهوة من يد خديجة زوجة ابني نبيل فيما أنا أتأمّل وجهها الساهم الذي يعلوه الوجوم ، ورشفت منه رشفة فيما جلست هي بمقابلتي على الأريكة الأخرى صامتة بعيدة بنظراتها عنّي.
أصبحت هذه عادة خديجة منذ ما يزيد على السنة ،وجوم يغشاها أغلب الوقت ،نظرات شاردة وفكر مشتّت تشي به ردودها المقتضبة على كلامي معها .لم تعد كما كانت أوّل ما تزوّجت ودخلت هذا البيت تقبل نحوي باشّة تتخايل البهجة على محيّاها وتجلس معي ساعات تحادثني في مرح وانطلاق فتحلّق السعادة في أجواء جلستنا مؤنسة وسارّة.
نبيل ابني أيضا تغيّر حاله .لم يعد يُقبل معها في نفس الوقت في مواعيدهما المعتادة لتفقّدي ،ففي الصباح أصبح يحضر باكرا بمفرده فيجلس معي وقتا قصيرا ثمّ يغادر وقد كان في العادة يأتي معها قبل خروجه إلى العمل بقليل ومعهما القهوة وحلويّات الصباح ،فيشرب القهوة معنا ثمّ يتركها معي منصرفا إلى متجره .وكذلك الأمر عند المساء فلم يعد تجمعنا تلك الجلسة المعتادة بعد صلاة العشاء للحديث والسمر ،بل أصبح يتغيّب عن ذلك المجلس وتأتي هي بمفردها أو مع أحفادي الثلاثة فتجلس معي بعض الوقت لكن في غير مرحها وانبساطها المعتادين .فتدور بيننا أحاديث مقتضبة يقطعها سهوم مفاجئ يعتريها أو شرود يجعلها تنظر إليّ بعينين غاب عنهما الاهتمام.
هناك مشكلة ما بينهما ...بل هناك مشكلة كبيرة .أنا متأكّدة من ذلك فأنا أصبحت في هذا العمر قادرة على قراءة لغة العيون وعلامات الوجوه ومن ورائها أعرف ما يدور في أعماق النفوس.
فعندما تكون في السبعين من عمرك يكون من أفضل الأمور عندك أن تبقى في مكانك تراقب الناس من حولك وتنظر إلى تصرّفاتهم بنظرة تغشاها في الظاهر اللامبالاة والحياديّة، لكنّها في حقيقة الأمر نظرة شديدة العمق قائمة على تحليل الأمور واستبصار ما يكمن خلفها من دوافع وخلفيّات.
وهذا هو الوضع الذي أصبحت عليه أنا اليوم بعد أن تجاوزت السبعين بثلاث سنوات وتزوّج جميع أبنائي واثنين من أحفادي ورحل زوجي رحمه الله إلى العالم الآخر.
ولم تعد ليّ أشغال تذكر منذ أن تكفّل أبنائي بحمل الطعام إليّ في وقت كلّ وجبة واهتمّت بناتي وزوجات أبنائي بأمور النظافة والغسيل في البيت.
لذلك ما أفعله في كلّ يوم هو أن أجلس في السقيفة على الأريكة الخشبيّة
العريضة مرتاحة على حشيّتها الوثيرة ومساندها الناعمة أراقب أهل بيتي في غدوّهم ورواحهم و أفسّر من أعمالهم ما يعتمل في نفوسهم وأقرأ من ملامح وجوههم ما يدور في أذهانهم من الأفكار.
ومن خلال هذه القدرة الجديدة التي منحني إيّاها سنّ السبعين أصبحت على دراية بمشاكلهم وهمومهم بدون أن يحدّثوني بها أو يفصحوا لي عنها.
والآن أنا متأكّدة من وجود مشكلة في حياة ابني الأصغر وزوجته، بل أنا أيضا متأكّدة من نوع المشكلة وسببها.
هل هذا أمر يدعو للاستغراب؟ كلّا كلّا ...فشأن سنّ السبعين ليس شأنا هيّنا .إنّه يعني حصولك على كمّ هائل من المعارف والتجارب والخبرات تجعلك قادرا على تفسير الأمور التي تقع أمامك وكشف بواطنها.
وأنا الآن أنظر إلى وجه نبيل ابني وأرمق اربداد وجهه ونظرة السأم الذي تغشى قسماته وهو ينظر إلى خديجة زوجته ،فأقرأ كلام نفسه بشكل واضح وجليّ:
ـ لقد سئمتك و مللت حياتي معك.لم تعودي المرأة التي تملأ عيني . زواجنا كان غلطة وأنا في أشدّ الندم عليه.
وأنظر إلى خديجة فأقرأ في وجهها المكتئب ونظرات عينيها المنكسرة ما تقوله لنفسها:
ـ أيّ ذنب أذنبته في حقّك حتّى ألقى منها هذا الجفاء القاتل؟ عشت طوع بنانك أسعى بكلّ جهدي إلى مرضاتك .أوقدت أصابعي العشرة من أجل إضاءة أيّامك .لم أبخل عليك بشيء من مشاعري أو طاقتي وأنت تعلم فرط محبّتي لك وتمكّن عشقك من قلبي. فلماذا تغيّرت بهذا الشكل ؟وما جرمي حتّي تجازيني بهذا الشكل القاسي والمرير؟
ومن نظرات عينيه أقرأ إجابته على كلامها:
ـ ليس الأمر بيدي فلا تلوميني. انطفأت شعلة اهتمامي بك كما تنطفئ شمعة هبّت عليها ريح عاصفة. والريح التي هبّت على مشاعري فأخمدتها هي ريح القدر. لست مذنبا في شيء والأمر يتجاوز رغبتي وإرادتي. ربّما هي نفسيّتي الملولة التي تضيق بالحال الواحد وتطمح دائما إلى التغيير والتجديد، أو ربّما زواجنا كان منذ البداية غلطة ولم تكوني أنت امرأة أحلامي. زواجنا كان تقليديّا ولم أعرفك في البداية إلّا معرفة سطحيّة، لكنّني شُغفت بك فترة من الزمان. ثمّ خبا كلّ شيء وأصبحت مشاعري نحوك رمادا. ليس لي ذنب في هذا الوضع الذي أصبحنا عليه، فلا تلوميني.
ويكون ردّها واضحا أقرؤه من نظرات عينيها والعلامات المرتسمة على قسمات وجهها:
ـ لكن ما ذنبي أنا وقد وضعت فيك أنت كلّ توقي وحبّي وشغفي؟ ليس الأمر بيدي أنا أيضا ولا قدرة لي على تحويل وجهة مشاعري بعيدا عنك. فهل من حلّ يبرّد النار التي تتأجّج داخل قلبي؟ إنّني أحترق وأتعذّب أشدّ العذاب .فماذا بيدي أفعله؟ أغابت الرأفة من قلبك فتتركني أعاني هذا الجحيم المتّقد دون أن تمدّ إليّ يدك لتخرجني من عذابي؟
ومن عينيه الباردتين يلوح الردّ جافّا وقاطعا مثل حدّ سكّين:
ـ ليس بيدي شيء أفعله .هذا قدرك وعليك تحمّله.
ويتكرّر هذا الحوار الصامت أمامي مرّات ومرّات، وأنا أقف ملتاعة القلب، متفهّمة لدوافع الطرفين لكن غير قادرة على تقديم العون لأيّ منهما. فهذه المسألة شديدة الحساسيّة ولا يجوز لأحد أن يتدخّل فيها مهما كان قريبا لأنّه في الحقيقة لن يفلح في فعل شيء مادام الأمر متّصلا بذلك الجانب الغامض والمعقّد، جانب المشاعر الدفينة. فذاك الجانب بالذات لا تحكمه قوانين العقل ولا مبادئ الأخلاق .فهو جانب طاغ ومسيطر ولا يمكن لشيء أن يكبح جماحه. فولدي ليس مخطئا إذا فقد مشاعر الحبّ لزوجته لأنّ ذلك الأمر لم يكن بإرادته واختياره بل إنّ قلبه هو الذي أعلن هذا الحكم وفرضه فلم يكن أمامه سوى الانصياع. وكذلك لا لوم على زوجته ولا تثريب ،فعشقها له وفناء كيانها في شخصه ليس أمرا اختارته أو سعت إليه لكنّه قُدّر عليها تقديرا ولا تملك أمامه إلّا الرضوخ.
فالأمر إذن معضلة تبدو لفرط تشابك خيوطها كأنّها عديمة الحلّ، أوكأنّها مصيبة أزليّة قُضي على هذين الشخصين التعيسين أن يتجرّعا مرارتها إلى آخر العمر. هذا هو ظاهر الوضع، لكن الحقيقة أنّ الأمر ليس كذلك .فليس هناك مشكلة في الدنيا ليس لها حلّ، وكلّ الكوارث التي تبدو في البداية مهولة وفظيعة إلى حدّ مأساويّ هي في الحقيقة عقدة وضع الله مسبقا طريقة فكّها، وعندما سيحدث ذلك سيتّضح أنّها لم تكن بتلك القسوة والحدّة التي بدت عليها. غير أنّ ذلك أمر لا يدركه إلّا العجائز من أمثالي ولا يمكن للذين ما زالوا في ميعة الصبا مثل ولدي وزوجته أن يفهموه أو يصدّقوه مهما حدّثهم عنه وفسّرته لهم. فالعقل في أوّل العمر ليس كالعقل في آخره. والشبّان لا يمكنهم أن يتبيّنوا حقائق الأمور بشكل شامل وعميق .إنّ نظرتهم محدودة ولا تتجاوز اللحظة التي يعيشونها. هكذا كنت أنا زمن شبابي، ومثل ابني وزوجته عشت أوقاتا مضنية خيّم فيها اليأس على نفسي بأجنحته السوداء الكئيبة فأعماني عن استشراف المناطق المضيئة التي أثبتها الله في سجلّ حياتي وأراد لي أن أستمتع بها في وقت لاحق من ذلك الزمان.
لقد عشت نفس هذه المحنة التي تعيشها الآن خديجة زوجة ولدي. فبعد مرور بعض السنوات على زواجي فقد زوجي اهتمامه بي وأصبح يعاملني بجفاء وبرود قاتل. وصارت نظراته لي كالصقيع وكلماته معي كقطع الصخور المسنّنة الجارحة.
ولم أفهم ما الذي غيّره .فأنا لم أكن زوجة مطيعة وعاقلة فقط بل كنت قد كرّست كلّ وجودي من أجله وتفانيت في خدمته وتلبية مطالبه بشكل أذهلني عن كلّ الشؤون من حولي...حتّى شأن نفسي.
يا له من شعور قويّ وطاغ ذاك الذي كان مستوليا على قلبي نحوه. كنت كالمسحورة أراه شمسا تضيء رحاب وجودي وبقيه الأشياء كلّها نجوما باهتة خافتة الإضاءة .لذلك كانت معاناتي عند تبدّله معي مريرة إلى حدّ لا يُحتمل، فاسودّت الدنيا في عينيّ وضاقت عليّ جوانبها.
خفت في تلك الفترة أن يطلّقني ويستبدلني بغيري.فقد أصبح بعيدا جدّا عن
عنّي وكأنّي لا أعرفه .وكنت أرى في عينيه أحلامه بحياة أخرى تكون بطلتها امرأة غيري تمنحه سعادة لم أتمكّن أنا من منحها له.
وتواصلت معاناتي فترة طويلة، لم تكن أيّاما أو أشهرا بل سنوات عشت خلالها أكثر المشاعر إيجاعا وقسوة .فعانيت مرارة الهجر وعلقم الخوف وكابد قلبي آلاما مبرّحة لا أعرف كيف استطعت تحمّلها.
كنت أتعذّب وكان هو أيضا يتعذّب...نعم .. كنت أعرف ذلك .فرغم ما برّح بي آنذاك من شعور بالمرارة والبؤس الشديد فقد كنت قادرة بعدُ على الحكم على الأمور بشكل موضوعيّ وصادق .ومن خلال ذلك فهمت ما يعتمل في نفسه...كان هو أيضا يعاني البؤس والمرارة.. وأنا السبب في ذلك ..نعم إنّي أمتلك قدرا من الصدق والصراحة من النفس يجعلني لا أتحرّج من هذا الإقرار. أنا سبب معاناته. فهو قد فقد حبّه لي ولم يعد في قلبه مشاعر نحوي. وأصبحت حياته جوفاء وأيّامه مليئة بالسأم و البرود. وكيف يمكن أن تكون حالة رجل يعيش مع امرأة لا تحرّك في قلبه شعورا؟ إنّ أيّ شيء في الدنيا لم يكن ليمنحه السعادة والسلوى.و كانت تلك محنة كبرى قُدّر عليه أن يتجرّع مرارتها وكان ألمه واضحا بالنسبة وضوح الشمس ...واضحا في نظراته الفاترة ...في هبّات غضبه المفاجئة... في علامات الخمول واليأس المرتسمة على وجهه.
لقد تألّم المسكين كثيرا ... مثل ألمي وربّما أكثر .وكنت أرثي له و أحمل همّه كما أحمل همّي.. وربّما يعتبر البعض هذا غريبا. لكنّي في الحقيقة لم أحقد عليه بسبب تبدّل مشاعره نحوي وذلك لأنّي كنت أعرف أن لا ذنب له في ذلك .فقد كنت رغم حداثة سنّي امرأة عاقلة أدرك أنّ المشاعر لا تخضع لسيطرة العقل وأنّ زمامها ليس بيد صاحبها.
ثمّ جاء الفرج ووجدت زوجي يعود إليّ من جديد .صحيح هو لم يعد كما كان في أوّل زواجنا، لكنّه أخذ شيئا فشيئا يدنو منّي ويستقرّ في ركني. ثمّ صلُح الوضع بيننا وجمعتنا من جديد علاقة ثابتة وقويّة .وفي هذه الفترة من حياتي أصبحت واثقة من مكانتي عنده وامتلأ قلبي استقرارا وكان قلبي يُحدّثني أنّ علاقتنا لن تتعرّض لنكسة أخرى وأنّنا سنمضي بقيّة أيّامنا دون ما يعكّر صفوها أو يكدّرها.
وفعلا صدق إحساسي، فقد قضيّت بقيّة حياتي معه في وضع هادئ ومستقرّ. صحيح أنّ الحبّ الكبير الذي أبداه نحوي في البداية لم يُبعث من جديد ولكنّي اكتفيت بثبات مكانتي في حياته وبإحساسي بأنّي غدوت بالنسبة له ركيزة أساسيّة لا يستغني عنها. وقد بدأت هذه المرحلة في حياتي عندما تجاوز هو الخمسين واقتربت أنا منها. وكانت معاناتي قد دامت ما يقارب العشرين سنة.
لقد كنت محظوظة لأنّي لم ألق مصير زوجات أخريات وجدن أنفسهنّ في مثل وضعي، ومنهنّ ابنة خالتي التي طلّقها زوجها واستبدلها بامرأة أخرى وقع في غرامها ومن أجلها هان عليه هجر أطفاله وعشرته مع زوجته الأولى.
لقد كان سبب محافظة زوجي على روابط حياتنا الزوجيّة رغم كلّ شيء هو أصالته وتمسّكه بالأعراف العائليّة. كان رجلا رزينا يغلب عقله قلبه ولم يكن ليقدم على عمل يسيء إلى مكانته ونظرة الناس إليه .وأنا أعرف أنّه لم يحافظ على رابطتنا الزوجيّة من أجل شخصي ولكن تمسّكا بأعراف العائلات المحترمة والرجال الأجلّاء .لذلك أعتبر نفسي رغم كلّ ما عانيته سعيدة الحظّ إذ حظيت بزوج مثله.
لكن بالنسبة إلى كنّتي خديجة فالأمر ما زال يكتنفه الغموض. فأنا لا أعرف ما هي الخطوة التي ينوي ولدي نبيل اتّخاذها ولا يمكنني توقّعها. صحيح هو ابني وقد ربيّته على يدي لكن رغم ذلك فأنا لا أفهم ما يدور في نفسه. لقد كان دائما حريصا على الاحتفاظ بمشاعره وأسراره لنفسه ،ومنذ حداثة سنّه كان له عالمه الخاصّ الذي حرص على أن لا يكشف دواخله إلى أيّ كان. هذا هو ابني: رجل غامض لا يمكنك أن تقرأ ما يعتمل في نفسه وعليك أن تتوقّع منه كلّ الاحتمالات .
لذل ليس لديّ الآن ما أفعله سوى المراقبة والدعاء. فما أرجوه وما أتمنّاه أن يكون في الرزانة والحكمة مثل أبيه ويكون له مثل صبره وتعقّله. فإذا تمكّن من ذلك فسيدرك بعد مرور السنوات أنّه قد ربح الكثير بمحافظته على زوجته واستقراره الأسريّ... ربح أبناءه وهدوء نفسه وراحة ضميره.
لكن إن عمل على غرار زوج ابنة خالتي فيمكن أن يغتنم من السعادة ما يبهجه بعض الأيّام، لكنّ حياته ستكون عرضة لكثير من الاضطرابات والتقلّبات التي ستتعبه وترهق أعصابه... وهذا ما لا أريده له.