

الدكتور والبوّاب
كان أمجد دكتورا في الفيزياء ويدرّس هذه المادّة لطلبة الجامعة .وقد حصل منذ سنوات على شهادة الدكتوراه بعد سنوات أمضاها في الدرس المتواصل والبحث العلميّ.
وكان معتدّا بذكائه وتفوّقه العلميّ إلى أبعد الحدود .وكان أكثر ما يسعده الأوقات التي يقضيها في الاطّلاع على المراجع والكتب العلميّة
أو مناقشة الظواهر الفيزيائيّة والكونيّة مع زملائه الدكاترة والعلماء.
و كان بوّاب العمارة التي يسكن فيها رجلا محدود القدرات الذهنيّة لم يدرس إلّا مرحلة بسيطة .فهو رجل ساذج وعلى نيّاته .
وكان هذا البوّاب يقدّر الدكتور تقديرا شديدا ،فكلّما رآه داخلا إلى العمارة أو خارجا منها هرول نحوه وأخذ يحيّيه ويسأل عن حاله في اهتمام صادق وحماس.
ورغم أنّ الدكتور كان يردّ على تحيّته بوجه باسم وكلمات لطيفة إلّا أنّه حرص دائما على تجنّب دعواته له لكي يشرب عنده كأسا من الشاي أو يشاركه مجلسه بعض الوقت.
و يقول في نفسه عندما يعرض عليه البوّاب هذا العرض:
ـ إنّ وقتي أثمن من أضيّعه في مثل هذه الجلسة .فما الذي سأستفيده من مجالسة إنسان بمثل هذه الدرجة من السذاجة وبساطة التفكير.
ويمضي في سبيله مفكّرا في تعجّب في أسرار الخلق والتفاوت بين مخلوقات الله .وكان ما يشغل باله هو عدم إدراكه لجدوى وجود أشخاص مثل بوّاب العمارة بسطاء التفكير وسذّج بدرجة مضحكة . فلا فائدة حسب رأيه في مجالسة مثل هؤلاء الناس أو تبادل الحديث معهم .إذ أنّ درجة تفكيرهم لا تسمح بمناقشتهم في الأمور الفكريّة والوجوديّة الهامّة بل إنّ طرحهم للقضايا العاديّة والمألوفة لا يخلو من قصر نظر وسخافة تزعجان الدكتور وتوتّران أعصابه إلى حدّ بعيد.
وكان يرى أنّ في إمضائه الوقت مع هذا البوّاب الساذج هدرا لوقته الثمين إذ لا فائدة يجنيها من مجلس كهذا .فلن يضيف هذا الرجل إلى معارفه فكرة جديدة ولن يجتذبه إلى الغوص في أعماق القضايا المعقّدة من أجل تبيّن خفاياها واستكناه دقائقها.
وكان يقول في نفسه أحيانا إذا ما سمع من البوّاب بعض عباراته الساذجة البسيطة التي تثير في نفسه شعورا بالسخرية والنرفزة في نفس الوقت:
ـ من حسن الحظّ أنّي غير مضطرّ لتحمّل سخافات هذا الرجل ،فهو أمر كان سيقتلني فعلا.
ويمضي الدكتور مستعجلا متعاليا عن مجالسة البوّاب شاعرا بالرّاحة لاستغنائه عنه ولعدم شعوره بالحاجة إلى أن يكون هذا المخلوق جزءا من عالمه.
ولم يكن الدكتور يعتقد أنّه سيحتاج ذات يوم إلى ذلك البوّاب البسيط وسيسعى بشدّة إلى أن يجالسه ولو لبعض الوقت
حتّى جاء ذلك اليوم.
فقد تعرّض الدكتور إلى أزمة فكريّة ونفسيّة باغتته فجأة ودون سابق إنذار ،فإذا به يغرق في ديجور حالك الظلمة من الوساوس والهواجس والأفكار السوداويّة المضنية.
وقد وقع ذلك بعد أن انضمّ ـ من باب الاطّلاع لا غير ـ في مجموعة فيسبوكيّة يتحاور أعضاؤها حول الأديان والعقائد ويبدي كلّ عضو برأيه في المسألة من غير رابط أو قيد.
ووجد الدكتور كيانه منفتحا على بعد واسع وغريب لم يقدر على الإلمام بجوانبه أو إدراك خفاياه.
فهو رغم درجاته العلميّة العالية وشهاداته الرفيعة في مجال اختصاصه لم يكن ذا معرفة كبيرة في المجال الدينيّ .لقد احتفظ حتّى ذلك الوقت على إيمانه التقليديّ الذي اكتسبه من عائلته المسلمة أبا عن جدّ .ولم يتوقّف مرّة ليتأمّل فكرة أو يطرح سؤالا . فقد كان يوجّه كلّ اهتمامه إلى التفوّق في مجال المادّة التي يدرسها ،ولم يوجّه ذهنه إلى أيّ جانب آخر.
فلمّا دخل الموقع فوجئ بالتقابل الرهيب بين المعتقدات والآراء.والكلّ يدافع عن موقفه بضراوة ويأتي بالحجج والبراهين .والأمر أشبه بمعركة حامية الوطيس يندفع فيها كلّ طرف متسلّحا بأقوى أسلحته وأكثرها صلابة.
وقد وجد نفسه في هذا الخضمّ أشبه بورقة في مهبّ الريح ،إذ لم يكن له وعي دينيّ كبير يمكّنه أن يميّز بين الصحيح والخطأ. وانطلق بداهة يساند بحماس الفكر الإسلاميّ الذي نشأ عليه ثم ّ اطّلع على نقيضه فداهمته الحيرة المضنية.و كانت تبهره الحجج التي تساند مبادئه فإذا بالحجج المعاكسة تبلبل فكره وتشوّش أفكاره .
وأحسّ بالخطر يداهمه فكأنّه محاصر وسط عاصفة هائجة في عمق المحيط .لم يكن مستعدّا لأن يخسر إيمانه أو ليفقد الثقة في المسلّمات التي امتزجت بوجدانه وكيانه لكنّ الأفكار الهدّامة والخبيثة التي كان يطلقها أهل الكفر والإلحاد كانت مروّعة التأثير في نفسه . لقد زلزلته تلك المقولات وأشعلت في روحه حريقا لاهبا .ووجد نفسه في دوّامة من الشكّ والحيرة المضنية .وأخذ يجهد ذهنه في التفكير و التحليل ساعيا إلى كشف الحقيقة فوجد نفسه عاجزا ضائعا إذ لم تكن معارفه البسيطة في هذا المجال قادرة على إنجاده وإنارة الطريق أمامه.
وعاد إلى كلّ المسلّمات التي لم تكن قبل اليوم محلّ نقاش عنده ،وأخذ يعرضها على عقله واحدة بعد واحدة .فلم يسعفه عقله بجواب يشفي صدره .وتداخلت الأمور في ذهنه وتشوّشت رؤيته ولم يعد قادرا على الجزم برأي أو موقف .
وأصيب من جرّاء هذه الحالة باضطراب نفسيّ شديد ،وحوّم على نفسه شعور بالذعر والكآبة .وبدت الدنيا أمامه متجهّمة الوجه مكفهرّة
القسمات
استيقظ ذات يوم ـ وهو ما زال يصارع هذه الأزمة ـ متأخّرا ، إذ قاربت الساعة العاشرة صباحا .وكان قد قضى الليلة السابقة إلى ما يقارب الفجر متنقّلا على صفحات الانترنت باحثا عمّا يروي غلّته ويهدّئ نفسه المذعورة .غير أنّه لم يزدد إلّا شكّا واضطرابا.
وأزاح الستار عن شبّاك نافذته يتأمّل السماء والشارع الذي تطلّ عليه شقّته .كان الطقس صافيا والسماء ترسل أشعّة دافئة ومنعشة في هذا اليوم الخريفيّ من شهر أوكتوبر .وكان الشارع مكتظّا بالناس كالعادة في هذا الوقت من النهار ،وهم في غدوّهم ورواحهم صورة لحركيّة الحياة ونشاطها الباعث للحماس .لكنّ نفس الدكتور لم تتفتّح لأيّ مشهد من هذين المشهدين وبقيت متعبة وخامدة كأنّها تنوء بحمل أطنان من الأثقال.
توجّه إلى المطبخ بخطى متثاقلة وأشعل الموقد ليعدّ قهوة .وأحسّ بثقل السكون في الشقّة فزاده ذلك كآبة .وكان قد اكترى هذه الشقّة ليكون قريبا إلى الجامعة التي يقضي أغلب وقته فيها بين البحث العلميّ والتدريس مفارقا عائلته في مسقط رأسه ،فلا يزورهم إلّا في العطل والمناسبات.
ولم يكن يضيق بالسكون في العادة بل يرى فيه حافزا له على العمل والتركيز ،لكنّه اليوم اختنق به وأحسّ كأنّه موجود داخل قبر مظلم وفوق رأسه تحوّم عفاريت مروّعة.
وانتبه فجأة إلى قهوته تفور فأطفأ النار حانقا .ثمّ صبّها في الكأس الكبير الذي يحبّ أن يشربها فيه وخرج من المطبخ إلى الصالون.
وجلس على الأريكة ووضع القهوة على المنضدة أمامه ،ثمّ شغّل التلفاز. وأخذ يتنقّل من قناة إلى قناة ويترشّف القهوة .وفي العادة يكون مرتاحا ومستمتعا في هذه الجلسة التي يبدأ بها يومه لكنّه الآن لا يشعر بأيّ
متعة .إنّه يشعر بالاختناق وبالبؤس الشديد.
وضع كأس القهوة على المنضدة وانتصب واقفا .وأحسّ أنّه غير قادر على البقاء في الشقّة لحظة أخرى. فارتدى بسرعة ملا بسه وخرج من البيت مهرولا.
وفي مدخل العمارة شاهد البوّاب جالسا على كرسيّ وأمامه طاولة صغيرة عليها غلّاية القهوة وكؤوس .وكان يترشّف قهوة وينظر أمامه بلا مبالاة .ولأوّل مرّة أحسّ الدكتور أنّه يحسد البوّاب على سذاجته وبساطة تفكيره ،وتمنّى لو أنّه يستطيع الآن أن يجلس مثل جلسته ويترشّف القهوة بذهن صاف وبال خال من التفكير.
ورأى البوّاب الدكتور فاستقام واقفا وحيّاه بحفاوة وحماس .وردّ الدكتور التحيّة بصوت واهن متعب .فنظر إليه البوّاب باهتمام وسأله:
ـ لا بأس عليك يا دكتور .هل أنت مريض؟
فغمغم الدكتور في صوت خفيض قائلا:
ـ لست على ما يُرام ،أنا مجهد كثيرا وأحسّ أنّي مريض.
وبدا الاهتمام الصادق في عيني البوّاب ،وهتف في حماس:
ـ ربّي يشفيك يا دكتور .اجلس معي أسكب لك قهوة تعدل دماغك ،وسترى كيف ستتحسّن حالتك .إنّها قهوة عربيّة أصيلة.
وفي العادة يعمل الدكتور جاهدا للتملّص من مثل هذه الدعوة لكي لا يضيّع وقته في الاستماع إلى أحاديث البوّاب التي يعتبرها من السخافات والتفاهات ،لكنّه في هذه المرّة فرح بالدعوة .وقال وهو يجذب كرسيّا ويجلس عليه:
ـ أشكرك على دعوتك الكريمة ،هيّا دعني أتذوّق قهوتك.
فجلس البوّاب إلى جواره مغتبطا ،وصبّ له كأس قهوة وقال وهو يناوله إيّاه:
ـ شرف كبير لي أن تجلس معي يا دكتور.
فردّ عليه الدكتور متأثّرا:
ـ أشكرك بالغ الشكر.
وانطلق البوّاب يحدّث الدكتور في حماسة واسترسال .وكانت القدرة على الاسترسال في الحديث والانتقال من موضوع إلى آخر بسهولة وبساطة من مميّزات البوّاب .وتكلّم في البداية عن أحوال العمارة ثمّ عن غلاء الأسعار وأخيرا عن جفاف الطقس وسوء أحوال الفلاحة وحاجة الأرض إلى المطر.
ولم يضق الدكتور بهذه الأحاديث كالعادة بل أحسّ وهو يستمع إليها بنوع من الراحة وهدوء الأعصاب .وأخذ يتأمّل حماسة البوّاب واندفاعه في الكلام بشيء من الحسرة وفي نفسه تساؤل محيّر عن سرّ الاختلاف بين درجات وعي الناس وقدراتهم الذهنيّة .لقد كان على الدوام فخورا بما يتميّز به من قدرات ذهنيّة عالية لكنّه اليوم يتمنّى لو يمتلك شيئا من بساطة البوّاب وسذاجته واقتصار تفكيره على السائد من الأمور، فقد كانت هذه الصفات حسب ما يرى هي التي جعلت هذا الرجل لا يغرق في متاهات الشكوك المضنية التي تتلف النفس وتكمدها.
وقاطع الدكتور البوّاب فجأة بسؤال مباغت:
ـ أخبرني يا سي عبد القادر ،هل أنت مؤمن بالله؟
نظر إليه البوّاب مستنكرا وكأنّه ينظر إلى رجل مجنون أو مرتكب لفعل شائن وقبيح .وقال في حدّة:
ـ بالطبع أنا مؤمن بالله .وهل هذا سؤال؟
وتفطّن الدكتور إلى انزعاج البوّاب من سؤاله ،لكنّه لم يتمالك نفسه من طرح السؤال الموالي نظرا لأنّ الهواجس التي تملأ نفسه كانت قد جعلته متهوّرا وغير قادر على التحكّم في انفعالاته. فقال:
ـ لكن هل تملك دليلا قاطعا على وجود الله حتّى تؤمن به؟
ازداد الاستنكار في نظرة البوّاب ،وهتف بحدّة وانفعال:
ـ ما هذه الأسئلة الغريبة يا دكتور ؟وهل يحتاج الإيمان بالله إلى دليل ؟أنا مؤمن بالله بدون أيّ دليل، بل لا أحتاج إلى أيّ دليل .ولماذا أحتاج إلى ذلك؟
ظلّ الدكتور ينظر إليه بعينين مبهورتين وهو يقول في نفسه :كم هو سعيد بهذا اليقين الثابت .إنّ عقله لا يتكبّد عناء التفكير والشكّ .فهل هو يعلم أنّه يعيش في نعمة أم أنّ هذا الأمر لا يخطر على باله؟
وبقي الدكتور ينظر إلى البوّاب في مزيج من الغبطة والحسرة فيما الرجل يستغفر ويحوقل في حماس .ونظر البوّاب إليه بعد ذلك فوجده ما زال محدّقا فيه ،فقال في حنق:
ـ أظنّك مريضا جدّا يا دكتور ،فلست اليوم على عادتك.
فقال الدكتور وهو يهزّ رأسه في وهن:
ـ نعم ،يبدو فعلا أنّي مريض جدّا .ولكنّي أعوّل عليك لكي تساعدني على الشفاء.