الثلاثاء ١٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢١
بقلم حسن عبادي

إشهار حروف من ذهب

بدايةً، اسمحوا لي أن أشكر القائمين على حفل الإشهار، فردًا فردًا، مع حفظ الألقاب.
التقيت الأسير قتيبة صباح الرابع من شهر آب 2021 في سجن "الجلبوع"، حدّثني بانفعال عن اعتقالاته المتكرّرة؛ أول اعتقالاته يوم 15.10.1984 وآخرها يوم 15.11.2000 بُعيد تخرّجه من جامعة النجاح.

ما دام هناك استيطان واحتلال فالثورة تجمعنا، يجب أن يكون انتماء، واجبنا التصالح مع الذات وأن نكون أدوات تغيير، على حدّ قوله، ويحزّ في نفسه عقم التفكير وانهيار المنظومة. والأنكى من ذلك نمطيّة مصيدة الاحتلال الذي نجح في تشييد حاجز وهميّ داخل آذان رجال السلطة تجاه مسألة الأسرى والشهداء، وهنا تكمن الهزيمة الحقيقيّة فأصبحنا نعيش حالة حصار مؤلمة من أبناء شعبنا.

تناولنا مسألة تجاهل قضايا الأسرى، عدى فزعات عرب لحظيّة موسميّة هنا وهناك، والوعود الرنّانة دون رصيد.

حدّثني بحرقة عن مخطوطة رواية "زنزانة وأكثر من حبيبة" التي كانت أسيرة التسويفات المؤسّساتيّة منذ عام 2012 وصدرت هذا الأسبوع عن اتحاد الكتاب الفلسطينيين.

وكذلك مخطوطة "حروف من ذهب" التي أنجزها في السنة الأخيرة ووعدته الاهتمام بأمرها لترى النور بأقرب فرصة.

الكتابة متنفّس لأسرانا، وهي ليست من باب الترف، واختراق كلمتهم للزنازين وأسوار السجون حريّة لهم؛ وكما تعلمون، هناك صعوبات جمّة في إيصال تلك الكلمة لتحلّق حرّة طليقة في سماء الحريّة.

من تواصلي مع أسرى يكتبون لمست خيبتهم وحسرتهم من التسويفاتِ التي لا أولَ لها ولا آخر، فكلّ من تصله رسالة أسير ورغبته في نشر إصدار له يُسمِع كلمات الترحاب تحت شعارِ: "أقل الواجب"، إلا أنه سرعان ما يتبيّن أن الوعود الرنّانة شيء والمتابعةَ والتنفيذَ شيء آخر، ومقولة "أقلُّ الواجب" شعار وقول فارغ يطلقونه في سماء الحريّة الغائبة المفقودة، بلا قيمة، تأكلُها الأيامُ والشهورُ ببطءٍ حتّى تضيع ولا يبقى منها ما يؤكلُ، وكم من مؤسّسة أخذتْ على عاتقها تبنّي الإصدارِ، ولكن كلّها وعود عرقوبيّة ذهبت في مهبّ الريح متحجّجين بذريعة شحّ الميزانيّات الوهميّة.

وكان التواصل مع رجل أعمال تحمّس للفكرة دون تردّد، مشترطًا تمويل طبع الكتاب ببقائه مجهول الهويّة لإيمانه بما قاله جبران خليل جبران عن العطاء: "هنالك الذين يعطون ولا يعرفون معنى الألم في عطائهم ولا يتطلّبون فرحًا ولا يرغبون في إذاعة فضائلهم، هؤلاء يعطون ممّا عندهم كما يعطي الريحان عبيره العطر في ذلك الوادي، بمثل أيدي هؤلاء يتكلّم الله، ومن خلال عيونهم يبتسم على الأرض. أمّا أنتم الذين يتناولون العطاء والإحسان -وكلّكم منهم- فلا تتظاهروا بثقل واجب معرفة الجميل لئلّا تضعوا بأيديكم نيرًا ثقيل الحمل على رقابكم ورقاب الذين أعطوكم، بل فلتكن عطايا المعطي أجنحة ترتفعون بها معه، لأنّكم إذا أكثرتم من الشعور بما أنتم عليه من الدين فإنّكم بذلك تظهرون الشكّ والريبة في أريحيّة المحسن الذي أمّه الأرض السخيّة وأبوه الربّ الكريم".

أستغلّ هذه المنصّة لأشكره باسمي وباسم قتيبة والحركة الأسيرة على شهامته ووقفته المباركة وأناشد رجال الأعمال أن يحذو حذوه ويمدّوا يد العون لمساعدة أسرانا في نشر أعمالهم الأدبيّة لإيصال صوتهم في درب الحريّة.

قلتها بصريح العبارة؛ تبيّن لي أنّ الكتابة خلف القضبان متنفّس للأسير، عمل الجلاد دائمًا على كسر إرادة الضحية، لكن أسرانا أصرّوا على كتابة التاريخ بطعم الحريّة، رغم ألم الخسارات، والفقد، وقهر القيد، صمّموا على أن يكسروا روح العتمة ليقولوا للتاريخ، نحن هنا باقون.

وها هو كتاب "حروف من ذهب" يرى النور ليقول قتيبة للتاريخ: أنا باقٍ رغم الجلّاد وقيوده.
نعم؛ الحريّة خير علاج للسّجين.

من على هذه المنصّة أناشد كلّ القيّمين على الكلمة الإبداعيّة من وزارات، مؤسسات واتحادات كتّاب بواجب تبنّي كتابات الحركة الأسيرة، وبالأخصّ وليدة خلف القضبان والزنازين، وليس مِنّة، فعلًا وليس قولًا، فعلًا وليس ضريبة كلاميّة موسميّة.

خلال معرض الكتاب الدولي في عمان أطلقنا ودار فضاءات مبادرة "أسرى مبدعون" التي أخذت على عاتقها تبنّي إصدارات أحرارنا خلف القضبان،

وها هي المكتبة الشعبيّة، ممثَّلة بصديقي خالد خندقجي، أبو يسار، تفي بوعدي لقتيبة وتُصدر هذا الكتاب لنحتفي بإطلاقه وإشهاره في ذكرى اعتقاله، فاعتقاله الأولّ كان في مثل هذا اليوم عام 1984.

ليس من باب الصدفة أن يكون حفل الإشهار هنا في تلفيت، بلد قتيبة وبين أهله، في مثل هذا اليوم، ذكرى اعتقاله ويوم حريّته، ليقولها بصريح العبارة: أنا هنا معكم وبينكم رغم القضبان ورغم أنف السجّان، وها هو بكتابه يتنفّس هواء الحريّة مع أهله وفي بلده مبتسمًا ابتسامة منتفضة، منتشيًا جزِلًا راميًا عرض الحائط تلك القيود ليحقّق حلم الحريّة القادمة لا محالة.

لا توجد ولادة أسمى من الاحتفاء بولادة مثل هذا المولود، رُغم الغياب القسريّ لوالده، وكلّي ثقة بأن قتيبة يحتفي اليوم مع زملائه الأحرار بولادة مولوده الجديد "حروف من ذهب"، وأخيه "زنزانة وأكثر من حبيبة" فكلمته الحرّة هزمت سجّانه وانتصرت على الأسلاك والقضبان والجدران والأسوار وها نحن نحتضنها بفخر واعتزاز.

مبارك لك وشكرًا لك قتيبة على هذا المولود، آملين أن يتبعه أسرى آخرون ليكتبوا باقي الحكاية.
جئتك من أعالي الكرمل، يرافقني صديقي الفنان التشكيلي جميل عمرية، لنبارك لنا ولك هذا المولود، وبين أهلك وفي بلدك الذي يشكّل شوكة في حلق المحتلّ.

حاملين تحيّات وتبريكات الأصدقاء الأسرى بمناسبة إصدار الكتاب.

آملين بحريّة قريبة لك ولرفاق دربك الأحرار.

***مشاركتي في حفل إطلاق "حروف من ذهب" للأسير قتيبة مسلّم مساء الجمعة الموافق 15 تشرين أوّل 2021 في تلفيت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى