إضاءات على وجع الذاكرة
«وجع الذاكرة» نصوص أدبية تعرض ألم النزوح والنكبة، بحيث يمتزج فيها الألم الشخصي بالألم العام، فتتحول من مجرد نصوص وجدانية إلى حالة اجتماعية تكابد الغربة والحنين، فيمتد وجع الذاكرة، وما أصعبه من ألم، من عمقا (قرية الشاعر)، إلى مخيم نهر البارد مولد بؤسه وأيام طفولته، وتحولات فكره ومرتع شبابه.
تتمحور نصوص مروان الخطيب"وجع الذاكرة" الصادرة عن مكتبة الحوار- طرابلس، حول الذاكرة الفلسطينية المتألمة في كل فتراتها الزمنية والنضالية، وتنعكس بشكل صريح وواضح في أكثر من نص، بحيث يعيش المخيم في ذاكرة الخطيب، فيلتهب عليه الحنين إلى وطنه، وهدير بحر عكا.
«.. وأعيدي إليّ طفولتي التي أخشى أن تسرق من سياج أحلامي، وأعيدي إليّ غدي المأمول، وفسحة متوسطية تُركبني الريح والبحر كي أعود إلى عكا، فأبذر من جديد دموعي وعبرات ابنتيّ وولدي محمد، وهموم جنيني القادم في أرض آبائي وأجدادي، علّها تشرق فجراً نبيلاً بعد هذا الليل البهيم العاصف بالقصف والدمار والانتحار والحصار والنكبات، وبدم يروي الزواريب والأزقة في قضية ليس لها عنوان سوى واحد مفتوح على ما يشبه اليأس والجدب، يحاكي قصة بالع الموس!!.» [1]
تتسم نصوص الكاتب بحسن التصميم والبناء، فهي تخضع لتصميم تحيليلي متدرج من قبله، إذ يطرح معاناته ويحاول أن يجد لها حلا، فيلجأ إلى ربه بالدعاء، حتى وهو في أحلك الظروف لا ينسى ذلك المخيم الذي يتدفق نهره ما بين شرايينه.
"يا رب، خلفنا في البارد النكيب، ذاكرتنا، تعج بالحب والأنسام والأحلام، فلا تسقطنا في أتون التيه، وحمى الأنهيار، ونار الضياع...!" [2]
" اللهم لك الحمد، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك" [3]
تتواتر في النصوص كلمات معينة، بشكل لافت، البارد/ الباردي/ باردنا/ باردية...الخ، أكثر من مرة وفي أغلبية النصوص، مما يؤكد مدى الألم المتأصل في روح الشاعر، إذ يغلب عليه المخيم بصورة مباشرة وغير مباشرة، فيتنفس عبر نصوصه حرقة وألم، وكأني به طائر يبكي مذبوحا من الألم.
" أأنا ابن إيثاكا حتى أرحل إليك بهذا الشغف الذي تخلو منه الأرض ومن عليها، أم أنه الوجع" الباردي" الذي عزّ نظيره". [4]
"فابك ما طاب لك الدمع، ولا ترجع إلى عاداتك "الباردية"، فتجفف عبراتك ومناديل البكاء السري وتخط في ُذؤاباتها تواريخ الحزن المشنوق بطقوس الصمت ونهش الأغيرة!". [5]
" فارفع عن ذاكرة" البارد" ما ينبغي ألا يرفع عن ذاكرة جنين من القهر والمرارة والنكبة التي تشبه ولا تشبه نكبة البرامكة هناك!!". [6]
يغلب على معظم تراكيب النصوص ارتباط عناصرها بعلاقة انزياح، أو ملاءمة إسنادية، ما ولد الكثير من التعابير المجازية، وبخاصة الاستعارة، ومن تلك التعابير ما ورد تشخيصا"(إن سال مدادي بغير حروف الوجد والجمر- يدعونا التراب إلى عناق اسطوري- لليلك جذوره الأصيلة التي تعتنق عقيدة الرمان- يا أيها المدجج بالحنين والأنين...الخ.
تغلب على النصوص بصفة عامة اللغة الشعرية الرمزية التي تميز بها الشاعر- الكاتب في دواوينه السابقة، فتكثر فيها الانزياحات الدلالية، فيخرج بها عن طريق المألوف، مصورا ومرمّزا لقصة لجوء وحب لحبيبة مفقودة، فتسمع في أحد نصوصه آنين البرتقال المستعار من الإنسان، وترى جدائل الشوق. وهنا تبرز قوة الشوق وتشابكها ببعضها البعض من خلال الجدائل، ومن المعروف أننا كي نصنع جديلة علينا بتقسيم الشعر إلى ثلاثة أقسام ومن ثم نجدله فيكون بذلك أمتن مما لو جدلناه بقسمين فقط.
" ستون سنة- يا حبيبتي- وعكا ويافا، وصفد والناصرة، وكل بقاع فلسطين تئن أنين البرتقال حين يهجره القطر والماء، وتنعدم فوق بياراته العندلة وأنسام الود وجدائل الشوق وتغريد الهواء.....!". [7]
عرف عن الشاعراستخدامه للزهور في دواوينه السابقة؛ لذا تعبق في نصوصه أنواع عدة من الزهور، فتجد الياسمين والأقحوان والبرقوق والبيلسان مستريحة بين الكلمات مكّونة معجما لفظيا وشعريا خاصا به.
"... غدا يا حلوتي تتكسر الرماح المزيفة، وتستريح الذاكرة من قيدها المجوسي، وتعلو شجيرات الحب مدن الملح بما ُيولد ذاكرة الياسمين". [8]
"... ويرسم فوق فيافي الذل قمرا من ياسمين ويبعث في الزنازين والوهاد، حصاد التحدي ولون العناد، سجاجيد من برقوق واقحوان!!". [9]
"... في حدود روحك الرافل بالأقحوان؛ وأن تصغي إلى أنيني، كما تصغي أزهار اليلسان إلى مخاوف التفاح". [10]
تظهر عمقا في بعض النصوص بشكل مبطن، وفي بعضها الآخر بقوة، فيخاطبها في نصه" حطمي الحدود... واحرقي سايكس- بيكو"، وكأنها حبيبة مسافرة أو مهاجرة. يعتبر هذا النص تأريخا لحياة الفلسطيني منذ بداية المؤامرة التي حيك نسيجها في عام 1916 إلى نكبة مخيمه البارد، مؤمنا بأن كل ما أصاب ويصيب وطنه وأمته ما هو إلا مؤامرة كبرى تحوكها أمريكا والعدو الصهيوني، وكل الطامعين بالشرق الأوسط.
" ثم نسير في قوافل المهرولين لندوس على رفات الأجداد في عمقا وعكا وغزة والجليل، ثم نذعن صاغرين، خدما لأبناء ثقافة التلمود، ونفرش الأرض- من بعد- بدمائنا وأشلائنا ليعبر السيد الأمريكي إلى رؤاه التوراتية والمكيافيلية صانعا مجدا هوميريا، وكاتبا في الحياة سفرا آخر يعاند حقائق الوجود وأبجدية الإنسان والجان!!". [11]
أما في نصه" سنة مقوضة القوائم بالرخاوة والإنكسار!..." نرى الكاتب وهو يخاطب حبيبته مجددا، مؤكدا مرة أخرى أن كل ما يحل بأمان بلده وأمن أمته ما هو إلا وليد حقد غربي، لا يعرف للرحمة طريقا، ولا يعرف من الحرية سوى القتل والهدم والدماء.
" يا التي أناديها: حبيبتي!... هذه أيام عجماوات، من سنة مقوضة القوائم بالرخاوة والانكسار والغدر. محاصرون يا حبيبتي، بالعبث والفواجع والدماء، من اليابسة إلى الهواء، ومن الماء إلى الماء!!". [12]
يتأصل الوجع في نفس الشاعر، فتراه في أكثر نصوصه متألما، ففي نصه " كأن اللانهائي في وجهك، مداي!!" ينضح ألما وحرقة ويجعل للألم أبجدية وهو يستذكر أيامه في نهر البارد، بحيث يذكر أماكن أثّرت في حياته وكانت مسرحا لطفولته كـ" سكة الحديد" و" دبة الست" وحقول" الشيخ ملص".
" أرجعيني طفلا- يا حبيبتي، حتى استرجع خطواتي على سكة الحديد، وأحلامي المبعثرة هناك، وشوقي بأن يختطفني طائر عملاق ويزرعني بين أهدابك التي تراءت لي قبل أن تمس عيناي قوامك، فأعرف فلسفة الوجد، وأتون الانصهار، ولغة التباريح، وأبجدية المواجع... حتى أتجول في أيامي الغوابر وأغفو قليلا، على كتف أمي، بعد أن أعياني الدرس، والتأمل في البحر، عند الصخور الأليفة بجانب" تلة الست"، وقرب حقول" الشيخ ملص". [13]
للوجع الفلسطيني في نفس الكاتب محطات سابقة لوجعه، فتراه وقد أعاد أمام ناظريه مجزرة تل الزعتر، مقيما مقارنة بين ما حل في مخيمه نهر البارد، وبين تدمير مخيم تل الزعتر وإزالته عن خريطة المخيمات الفلسطينية في لبنان.
" يرجعك نهرك الذبيح ثلاثين عاما، بل ثلاثين سنة إلى الوراء الزعتري المفخخ بالقحط والذبح، وبالقارورات الزجاجية المسننة والتي لا تشرب إلا من دماك". [14]
دفعت محنة نهر البارد، الكاتب إلى الغوص في تفاصيل الألم، ففي نصه" أُسمُ إلى علواك وعانق"غوته" في آلامه...!!" المهدى إلى صديقه رضوان ساري، تجده وقد اتخذ صفة الواعظ، من كثرة ما أصابه من ألم وحزن، فيدعو إلى عدم الإلتفات إلى الدولار الأمريكي، والتمسك بالحرية، لأنه مؤمن وكما ورد في أكثر من نص له أن أمريكا هي من أسباب نكبته.
"قم من موتك يا ابن البارد الحزين، أيها المداد المعجون بالدم ورحيق الأجداث قرب النهر؛ لا تلتفت إلى الأخضر المزيف الآتي من واشنطن؛ بل، تشبث بالأزرق المنتشي في السماء، وفوق البحر". [15]
ويخاطبه في موضع آخر من النص، بضرورة التمسك بالأمل، لأن هذا النهر ما هو إلا جسر عبور لضفة أخرى وهي قرى فلسطين، وما نهر البارد إلا حلقة من حلقات العودة، وسيظل المخيم صورة مصغرة من وطنه.
"يجب على نهرك أن يبقى نهرك، ولبرقوق الضفتين هناك أن يبقى سياج ذاكرتك التي تأتلق سحبا بنفسجية الروح، ستمطر حتما ذات صباح قادم كالحب والموت، فوق بيّارات البرتقال في يافا، وعند جذور السدرة في الغابسية، الملة في عمقا" [16]
هذه إضاءة سريعة على يوميات الوجع المرواني، والتي تستحق بكل جدارة دراسة متأنية جدا، للبحث في أماكن الوجع وذاكرته المتأصلة بالحب والحنين إلى قريته عمقا وإلى مخيمه المهدم.