استعادة التاريخ والذاكرة والواقع والمستقبل
لا تتوقف الكتابة عن القضية الفلسطينية بكل مركباتها مهما كانت الظروف الفلسطينية والصراعية مع اسرائيل ومشروعها التوسعي والاقتلاعي، أو الاقليمية وما تشهده المنطقة من نزيف دموي قاتل... والسبب في عدم التوقف هو بسيط للغاية، لكونها – اي القضية الفلسطينية - قضية عادلة، ورائها شعب قوي وجبار يتحرك كثيرًا دون قيادة توجهه في الظروف الراهنة، إلا في حالات نادرة، وذلك جراء الفجوة القائمة بين القيادة والشعب...
ومن بين الكتابات والأدبيات التي نشير إليها، وفرة وزخم الروايات التي تعالج القضية في أساسياتها ومجرياتها، وسلوكيات الشعب الفلسطيني أفرادا وجماعات، ومواجهته وتحدياته لعراقيل وعقبات يفرضها الاحتلال الاسرائيلي أو اجندات تفرضها زعامات عربية واقليمية ودولية... تأتي الكتابة الروائية لتعكس ملامح القضية بأسلوب أدبي مدموج ومُطّعّم بالوقائع التاريخية التي لا مناص منها. وكما قال أحدهم: تقرأ الرواية التاريخية وتتمتع بها، وتُطلق العنان لمخيلتك، إلا أنك في النهاية تعود إلى التاريخ، فالتاريخ مقنع أكثر. قد يتفق البعض معي، وقد يختلف، لكن ذلك لا يفسد للود قضية.
أمامنا رواية جديدة من قلم رئيفة شبلاق، وتحمل العنوان:"رؤى بدرية" صادرة عن دار الفارابي في بيروت في نيسان 2016. وكاتبة الرواية فلسطينية من مواليد حيفا، لعائلة عريقة لعبت دورا سياسيا واقتصاديا في حيفا وجوارها خلال فترة الانتداب. وتعيش الكاتبة حاليا في بيروت، وعملت سابقا في مجالات التوثيق لفترة طويلة، وصدرت لها بعض الابحاث العلمية مثل "تحولات المجتمع في الرواية الفلسطينية" في 1996.
الرواية التي نحن بصدد استعراضها في هذا المقال القصير هي "رؤى بدرية" وقد أهدتني اياها الكاتبة مشكورة. والرواية مبنية من أربعة اقسام رئيسة وهي: أيام حيفا، ايام نابلس، ايام القرية، أيام المنافي والشتات.
وهي بهذه الأقسام قد سارت وفقًا لترتيب زمني وأيضًا موضوعي يتعلق بالطريق التي سار بها اللاجئون الفلسطينيون من لحظة ترحيلهم قسريًا عن اوطانهم إلى حين وصولهم إلى المخيمات أو المنافي الأخرى في منطقة الشرق الأوسط أو خارجها.
ففي القسم الاول تتطرق الكاتبة إلى حياة عائلة بطلة الرواية واسمها – اي البطلة الرئيسة "بدرية".طبعا الروائية تعالج قصة عائلتها الشخصية ، ,أيضا قصتها ومسيرة حياتها الشخصية، ولكن على لسان ابطال الرواية الذين جندتهم لخدمة هدفها الرئيس وهو استعراض تطور القضية الفلسطينية من حين وقوع المأساة الكبرى "النكبة" إلى ايامنا هذه. حيث تعرّضت إلى مبنى العائلة وانماط حياتها اليومية مع تفاصيل كثيرة تعكس لنا وضع العائلة الفلسطينية في مدينة نامية وديناميكية مثل حيفا، ثم تتعرّض إلى حياة المجتمع الحيفاوي في السلوك اليومي. وتُضفي على هذه الحياة جوًّا من الراحة والمتعة والبلوغ الراقي في التعامل مع الشأن الثقافي الذي تميّزت به حيفا في فترة الانتداب البريطاني.
أما في القسم الثاني فتعكس صورة النزوح من حيفا إلى نابلس، حيث نزح عشرات الآلاف من الفلسطينيين من أهالي حيفا والقرى المحيطة بها هربًا من المجازر والقتل والعنف الذي مارسته العصابات الصهيونية المسلحة ثم الجيش الاسرائيلي بحق الفلسطينيين. وهنا في هذا القسم تتعرّض إلى كيفية تصرف العائلة النازحة وإعادة بناء ذاتها مجبولة باليأس أحيانًا، وبالأمل أحيانًا أخرى. تعرّضت العائلات الفلسطينية في حيفا وفي مدن أخرى كيافا واللد والرملة إلى عمليات ارهابية في الحد الأدنى من تعريفها، إن لم ترقَ إلى مستوى الجرائم بحق الانسانية، وأُرغمت على ترك ديارها وممتلكاتها لتصبح في عداد الغائبين كما يُعرّفها القانون الاسرائيلي الغريب والعجيب، والذي لا شبيه له في كل العالم، وما يؤكد انه مبرمج مائة بالمائة لسلب الأرض والعقارات والاملاك على مختلف أنواعها، بعد طرد أصحابها الشرعيين.
وتُقدّم لنا وصفًا دقيقًا لكل حركة أو موقف حصل مع العائلة ومع النازحين في محاولتهم للحفاظ على الحد الأدنى من كرامة الانسان بعد أن جرحت هذه الكرامة على يد الآلة الاستعمارية الباطشة ممثلة بالعصابات الصهيونية. والأبرز كيفية التعاون بين العائلات على إعادة بناء ذواتها والنهوض من النكوص.
في حين أن القسم الثالث يُبين لنا كيفية وصول العائلة إلى قرية من قرى نابلس. والمعروف بناء على ما أطلعتُ عليه شخصيًا في وثائق ومستندات أرشيف بلدية نابلس أن البلدية ممثلة برئيسها عبد الفتاح طوقان وطواقمها قد شكلت لجنة لرعاية ومتابعة قضايا النازحين الذين وصلوا بالآلاف إلى نابلس وقراها قبل أن تتولى منظمة الاونروا هذه المهمة. بمعنى آخر تولت بلدية نابلس أصعب وأقسى مهمة لمدة سنتين في رعائة النازحين ومتابعة قضاياهم، وأبرزها توفير المأكل والمشرب والملبس والمدرسة والمأوى... وهكذا توزع النازحون على عدد كبير من قرى نابلس، وبطبيعة الحال منهم من وصل إلى قرى طولكرم وقلقيلية، ولكن بأعداد أقل من تلك التي وصلت إلى نابلس وقراها. بمعنى آخر فإنّ حصة الأسد كانت من نصيب مدينة نابلس. وحياة القرية لعائلة مدنية غريبة في معظم مركباتها، ولكن العائلة بنت أسس حياتها وفق ما هو متفق ومتبع في القرية، مع الاحتفاظ بعدد من المكونات التي لا يمكن التخلي عنها.
أما القسم الأخير فهو انتقال العائلة كمئات بل آلاف العائلات الفلسطينية من القرى التي نزحوا إليها إلى مخيمات اللاجئين أو إلى المدن والعواصم في الدول العربية المجاورة، ومنهم من وصل إلى المنافي في الشتات طلبًا للرزق والعمل والتعليم.
وتصوير الكاتبة لحالة الفلسطيني العامة في هذه المرحلة في غاية الدقة، إذ بدأ يدرك هذا الفلسطيني ما حل به، ويفهم أن للحياة والبقاء معنى عميق ومهم. وبدأ يدرك ما يجري من حواليه، وما هو دور الحكومات العربية في معالجة القضية الفلسطينية. ولا توفر الكاتبة قلمها في توجيه نقد لاذع للأنظمة العربية عبر الزمن وحتى يومنا هذا. كما أنها توجه نقدًا شديدًا إلى القيادة الفلسطينية التي فقدت بوصلتها في معالجة القضية وتنازلت عن اهم وأبرز مقومات الثورة الفلسطينية وهي المقاومة، والأنكى من هذا غرق القيادة الفلسطينية على مختلف توجهاتها في إبراز الانقسام كأنه حالة طبيعية للشعب الفلسطيني.
وتستعرض الكاتبة النقاش العام الدائر في الشارع الفلسطيني حول افضل السبل والطرق لمعالجة القضية الفلسطينية وكيفية مواجهة اسرائيل. هل بالقتال والكفاح المسلح، أم بالمفاوضات، أم بالطرق السلمية كما اتبعها مانديلا؟ أم أي طريق آخر؟ نقاش صحي وصحيح أن يكون في اوساط الفلسطينيين، لكن الأهم هو عدم ترك أي طريقة إلا بضمان طريقة أخرى.
ولا غرو في أن كاتبة فلسطينية بقامة رئيفة شبلاق، وإن كانت تعيش في المنفى إلا أنها عارفة لمجريات القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية التي تجري في داخل الوطن فلسطين. فحتى قضية القتل على ما يُعرف خطأ بـ "شرف العائلة" تتطرق إليه، وتدعو إلى نبذه كليًّا والتخلُّص من هذا الموروث السيء السمعة والذي يضفي أجواء من التوتر والعنف والوجع والكراهية والانقسام المجتمعي.
إن هذه الرواية، وإن كانت خطوطها التاريخية والسياسية واضحة المعالم في عدد كبير من المواقف والصفحات، إلا أنّها تُضيف دعامة قوية على فهم الصراع وإدراك حاجة الفلسطيني إلى أن يستمرَ في نضاله إلى أن يحقق مراده ويصل إلى الحرية التي يصبو إليها.
إنها حكاية الوجع الفلسطيني عبر الزمن، وإنها أيضًا رواية مليئة بالحب والأمل ونفثات من نسائم الحرية التي تشجع وتدفع إلى الأمام دونما يأس أو تراجع.