الأربعاء ١٥ أيار (مايو) ٢٠٢٤
الأب الياس زحلاوي:
بقلم مريم علي جبة

طوفان الأقصى ملحمةً أسطوريّة، تبشّر بعصر من التحرر العالمي

حين تكون في حضرة الأب الياس زحلاوي لا بد لك أن تكون في غاية الطمأنينة والسلام النفسي والروحي..لتبدأ حديثك معه فيأتي صوته الهادئ بهذا الحوار:

 كانت الولادة في دمشق، ثم سافرت إلى بيروت، ثم القدس… حدثنا عن هذه المرحلة الهامة في حياتك؟

* تريدين لي أن أختزل في سطور، أكثر من ثلاثين سنة كانت التأسيس الحاسم في حياتي، وقد رأيت لزاماً عليّ أن أتحدّث عن هذا التأسيس، على نحو كثيف، في كتاب لي صدر عام (2014)، تحت عنوان "قد يكون لي ما أقوله"! أرجو أن يكون أتيح لك أن تقرئيه، وعندها سيتضح لك عجزي الآن عن الاستجابة لسؤالك هذا. وكلي ثقة بأنك، إذا ما طالعت كتاب سيرتي، ستكتبين أنت ما تودّين لي أن أكتب!

 أنت كاتب ومترجم… وتهوى الكتابة عن المسرح… ماذا أضاف لك الغوص في الترجمة؟

* أعتقد أن كل كاتب يستخدم الكلمة لتبليغ رسالة ما…

وأجزم أن هذه هي أيضاً حال المترجم، إذ هو يسعى لنقل ما يترجم إلى من يتعذّر عليه الاطلاع على النص الأصلي.

ذلك كان شأني في الترجمة، ومن يتاح له أن يقرأ ما ترجمت، سيتضح له أني كنت أبداً أهدف إلى إطلاع القرّاء العرب، على أمور ألمس أهميتها الكبرى، وحاجة مجتمعاتنا العربية إلى التعاطي المباشر معها، من خلال كتّاب عرفوها، ودرسوها، وتحمّلوا عناءً كبيراً للكتابة عنها، والتعريف بها.

تلك كانت حالي مثلاً مع ترجمتي لكتاب "المجتمع والعنف"، فيما مجتمعات الأرض كلها باتت تغوص على نحو متفاقم، في عنف أصبح اليوم يهدّد حتى بقاء كوكبنا الرائع!

وإني لأترك لقرّائي أن يكتشفوا العوالم المختلفة، التي دفعتني لترجمة "تاريخ المسرح" بأجزائه الخمسة، وكتاب "إمبراطورية العار"، وكتاب "الكابوس الأميركي" وسواها من كتب هامة، لا داعي لذكرها في هذه العجالة.

كل ما أرجوه ألا يقلع الإنسان العربي عن عشق الكتاب.

 تكتب في الشأن الفلسطيني… كيف ترى مستقبل القضية الفلسطينية بعد سبعة عقود ونيف من الاحتلال الإسرائيلي؟

*دعيني أقل بإيجاز قاطع: بعد غزة، لن تكون فلسطين، كما قبل غزة!

بل إن استشهاد غزة كان، في نظري، ثمن خلاص العالم..
القضية بعد اليوم، لن تكون قضية فلسطين المحتلة وحسب، بل هي باتت قضية الأرض كلها، وقد احتلّتها قوى المال والظلم والإبادة، في تخطيط أخطبوطي هادئ ومدروس، فكانت غزة الثمن المطلوب من أجل إيقاظ شعوب الأرض المخدّرة!
أجل، الأرض كلّها، بعد غزة، لن تكون كما قبل غزة!

 أطلقت على الأم تيريزا (عطر المحبة) في عالم جهنمي… على من تطلق هذه التسمية الآن ونحن في عالم أكثر جهنمية؟

* يبدو لي أن من يسمّر أنظاره على نماذج أكثر من استثنائية في المحبة الإنسانية، مثل "الأم تيريزا"، قد لا يتسنّى له أن يرى الآلاف من أمثال "الأم تيريزا" يتكاثرون على نحو مدهش، كلما ضاقت الأحوال بالناس، كما هي الحال اليوم في سورية..ولئن كان لي أن أشبّه "الأم تيريزا"، بالشمس، فشمسها، بكل تأكيد، لن تحجب عني مشاهدة "الشموع" الكثيرة، التي تضيء ليالي وأيام الناس، في بعض أحياء دمشق اليوم، الفقيرة، بل الفقيرة جداً!

 ترى أن العالم الآن بدأ يتشكل حسب قولك، تحدثنا عن هذه النقطة لو سمحت؟

جواب: منذ القديم، عرف العالم هيمنة جامحة لقوى على أخرى؛ وكان كل قوي يظن الخلود إلى صفّه؛
وتبخّرت جميع هذه القوى الواحدة تلو الأخرى..

حتى بات الإنسان العادي يردّد قولاً هو أشبه بحكمة خالدة، أن ما من شجرة بلغت ربّها..

وكل ما أرجوه، في ما نراه يرتسم اليوم من بروز قوى، تريد للعالم أن يكون متعدد الأقطاب، كي ينعم بمزيد من التوازن والاستقرار… ألا يفقد سادة هذه الأقطاب، حكمة المرجعية الأولى والكبرى: الله..

 لنعد إلى فلسطين .. لنتحدث عن طوفان الأقصى، عن غزة، ماذا حدث ويحدث في غزة ؟

ما من شكّ أنّ ما جرى في غزّة، منذ السابع من شهر تشرين الأول عام 2023 م، قد فاجأ جميع التوقّعات وتخطّاها، وأنّ هذا الحدث، بعد انطلاقته بأيّامٍ قليلة، قد هزّ العالم كلّه، ولم يكن المحتلّ الإسرائيلي ليتوقّع هذا الحدث بالمطلق، كما أنّ ما يجري في غزّة، هي حرب إفناء، بين عدوَّيْن لدودَيْن، ولكنّهما يمتلكان قوّتَيْن تتفاوتان على نحوٍ كلّيّ.

فمن جهة، هناك المحتلّ الإسرائيليّ. إنّه يتمتّع منذ (75) عاماً، بقوّة غير محدودة، وهو على يقين أيضاً بدعم الغرب كلّه له، دعماً متعدّداً وغير مشروط، وبمساندة خبيثة، ولكن جليّة، من معظم القوى الأخرى، وكذلك على الأخصّ، من غالبيّة الدول العربيّة والإسلاميّة. ولذلك، فهو يدوس في وحشيّة وكراهية، وغطرسة، لا عهد للعالم كلّه بمثلها، ودونما أيّة إدانة، جميع القوانين والمعاهدات الدوليّة.

ومن جهة ثانية، هناك ما تبقّى من الشعب الفلسطينيّ، وقد شُطِر فوق أرضه بالذات إلى ثلاثة. ثمّة أوّلاً من أصبحوا مواطني الدرجة الثانية، في الأراضي الفلسطينيّة التي احتُلّت عام (1948)، والتي أُقيم عليها عنوةً، ما سُمّي “دولة إسرائيل”، والذين ينتصب فوق رؤوسهم، مثل سيف “داموكليس”، تهديد متكرّر بتهجيرهم الجماعيّ، ثمّ هناك سكّان الضفّة الغربيّة، الخاضعين منذ عام (1967) لقمع لا يرحم، هم الذين يشكّل بالنسبة إليهم، منذ معاهدة “أوسلو” المزعومة (1993)، ما يُسمّى بالسلطة الفلسطينيّة، إحدى أدواته الرئيسة. وأخيراً غزّة، غزّة، العرين العصيّ على الترويض، للانتفاضات الكثيرة، وإن كانت قد حُوِّلت، منذ ما لا يقلّ عن سبعة عشر عاماً، تحت سمع وبصر عالم جبانٍ وأعمى، إلى معتقل بشريّ ضخم… غزّة التي كانت جميع حركات المقاومة فيها، لا تزال عصيّة على الاتّفاق فيما بينها، في وجه العدوّ المشترك.

وإذ بغزّة هذه، قد عرفت أن تُعِدّ، فوق الأرض وتحت الأرض، بطريقةٍ وثمنٍ لا يعرفهما سوى الله، هذه الهجمة المفاجئة، المسمّاة “طوفان الأقصى”، التي سوف يُقيَّض لها، كما يبدو لي، أن تتحوّل يوماً بعد يوم، إلى ما يشبه ملحمةً أسطوريّة، تبشّر بعصرٍ من التحرّر العالميّ .

وأريد أن أؤكد أن ما يجري في غزّة، منذ شهر تشرين الأول 2023 ، فوق مساحةٍ لا تتجاوز (365) كم2، ليس في نظري، سوى معجزةٍ تفوق طاقةَ البشر. فخلال ساعات قليلة، انقلبت “إسرائيل” – “إسرائيل” المُحرَّمة” – رأساً على عقب والمقاومون الفلسطينيّون لا شك حقّقوا على نحو خارق، وحدتَهم وتنظيمهم وتسليحهم فوق الأرض وتحت الأرض، اجتاحوا المستوطنات وأسروا العديد من الجنود والمدنيين الإسرائيليين

 طرحت سؤالاً مهماً مفاده: هل ستكون فلسطين، مرّة أخرى، كما كانت لألفَي سنةٍ خلت، بوّابةً لعصر جديد؟ برأيكم هل سيتحقق ذلك؟

منذ أعمال القصف الأولى، كان موقف الغزاويين حيال يقينهم القاطع بموتهم المعمّم والوحشيّ، المتوقّع لكلّ منهم، فقد كان، باستثناء حالات أكثر من نادرة، هو هو، فريداً ويتّسم بنبلٍ مذهل، ولا بدّ للمرء من أن يكون مبتلى بالعمى، حتّى لا يرى بجلاء تام، أنّ هذا الموقف، إنّما هو موقف شعب برمّته، استسلم كلّيّا لله وحده، وإنّه لا يثق على نحو مطلق، إلّا بعدالته وحدها، فاستودعه هو وحدَه، جلّ جلاله، كلّ مُلكٍ لديه، وكلّ حياة، بما فيها حياة أحَبّ أحبّته.

ولذا، كان أهل غزّة، في طريقة وداعهم “لشهدائهم”، ولا سيّما الأطفال منهم، الخالية من كلّ تصنّع، والمتّسمة بكرامة طبيعيّة، وفي إدراجهم في أكفانهم الناصعة البياض، وفي وضعهم على الأرض العارية، وفي الصلاة عليهم في سكينة، قبل أن يواروهم الثرى، في صمت، في المكان المتاح. أقول، إنّهم كانوا في طريقتهم هذه، جديرين بانتزاع الإعجاب لدى أقسى الناس، أوَلَا يتوجّب علينا أيضاً أن نذكر المشهد المثير، للآباء والأمّهات، وهم يكتبون على أذرع أطفالهم هؤلاء، أسماءهم بأحرف كبيرة، من أجل التعرف إليهم بسرعة، في حال انهيار الأبنية فوقهم، كما كانوا يتوقّعون، للعثور عليهم بين الأنقاض؟ وهل يجوز لنا أن ننسى ردود أفعال الأسرى الإسرائيليّين المُفرَج عنهم، وشهاداتهم المدهشة، بشأن التعامل الإنسانيّ الذي حظوا به، لدى “الإرهابيّين” الفلسطينيّين المزعومين؟ والأهمّ من كلّ ذلك، هل يسعنا أن ننسى خصوصاً، اللغة المستخدمة في الإعلان الموحّد عن “مصرع” هؤلاء المدنيّين، وجميع المقاتلين في سبيل العدالة، سواء في غزّة والضفة الغربية، أو في سورية ولبنان والعراق واليمن؟.

قلت أنك ساندت القدس منذ كان عمرك (12) عاماً؟

نعم، والقدس سحر يسكنني لا أستطيع تفسيره، وقلتها سابقاً وأقولها باستمرار أني أحن إلى القدس، ولكنني لن أذهب إليها إلا محررة .

بماذا تختم هذا اللقاء معكم؟

أختم برسالة من رسائل السيدة العذراء: "أبنائي، صلوا من أجل السلام وخصوصاً في الشرق".

ورسالة من رسائل السيد المسيح: "وصيتي الأخيرة لكم: احملوا الشرق في قلوبكم".

..............................................................

الأب الياس زحلاوي في سطور:

ولد الأب إلياس زحلاوي في دمشق عام 1932، درس في سورية ولبنان، وواصل دراسته للفلسفة واللاهوت في القدس، كما أنه درس علم النفس في جامعة ليون بفرنسا.

ومن مؤلفاته: «عرب مسيحيون»- 1969، «حول الإنجيل وإنجيل برنابا»- 1971، «المدينة المصلوبة»- 1973- مسرحية، «الطريق إلى كوجو»- 1976- مسرحية، «تاريخ المسرح» في خمسة أجزاء- 1979، «وجبة الأباطرة»- 1981- مسرحية، «شهود يهوه من أين إلى أين؟»- 1991، «الصوفانية»- 1991، «اذكروا الله»- 1995، «ومن الكلمات بعضها»- 1997.

كما أنه ترجم عدداً من الكتب منها: «المجتمع والعنف»- 1976، «فكر هيغل السياسي»- 1979.

وقد أسس بتكليف رسمي من السلطة الكنسية في العام 1968، أسرة الرعيّة الجامعيّة في كنيسة سيدة دمشق، وأسّس كذلك مع المخرج سمير سلمون في العام 1968 فرقة «هواة المسرح العشرون».

كما أسّس عام 1977، في الكنيسة نفسها، جوقة الفرح، وهو يواصل العمل في مختلف هذه النشاطات إضافة إلى عمله ككاهن رعيّة في كنيسة سيدة دمشق، وقد عُيّن فيها منذ العام 1977.

درَّسَ الأب إلياس زحلاوي اللغة اللاتينية والترجمة في جامعة دمشق بين العام 1975 و1980، ودرّسَ تاريخ المسرح في المعهد العالي للفنون المسرحية في العامين 1978 و1979، وهو أيضاً عضو في اتحاد الكتّاب العرب منذ العام 1973.

وقد اختير عضواً في اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة منذ تأسيسها في شهر أيار 2001، كتب في شؤون كثيرة، منها الشأن الفلسطيني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى