الخميس ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

الإنسان: آخر البيوت (1)

وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفلا تُبْصِرُونَ "الذاريات/ 21" ..

بين الحقيقة العلمية والخرافة الوهمية يوجد العلم ذو الطابع الخاص، الذي لا يمكن تفسيره علمياً، ولا تعليله منطقياً إنه "علم الوسطية" ..

مدخل:

تلك لحظة سكت التوقيت عنها وتحاشتها صفحات القدر، كانت هي ذرة الرتق واللبنة المفقودة، الصفر الذي يسبق الواحد وبداية التاريخ لنا، تلك كانت هي سدرة منتهى السباق، ونهاية التطواف المرهق لأجنحة الفكر وهو يتصعد علواً لاكتناه سر هذا الخلق، فالإيمان هو مناط قصد النوايا الراغبة، التي لابد من توفرها مع الرفق والحيطة والحذر والإيغال بتأنٍ شديد، فبعض العلوم لا تنال بالاكتساب ولا بالتحصيل، إنما بالتفضل الإلهي والأخذ باليد في هذا الخضم المتلاطم الأمواج والتيارات الظاهرة والباطنة، فالمحيط هنا بلا ساحل، والقاع عميق عميق عميق، بل ومخيف إلى أقصى درجات الخوف.. ومع ذلك فإننا– والحمد لله - ما زلنا نتنفس من داخل هذا القاع بعد أن وجدنا أنفسنا غرقى فيه لنجهر بالقول:

نعم،

"ألف" الإثنين و حرف "النون"

يجدر بنا ونحن في مستهل هذه الرحلة الفكرية أن نتزود بما يجعل تماسكنا الداخلي أقوى وأشد اصراراً على مواصلة هذه الرحلة حتى الموت على أن يكون ذلك عن رضىً وقناعة بأن المعرفة العميقة هي تاج رأس هذا الإنسان.. فهذا الاسم الإنسان- كما نما إلى علمنا – هو: إنس+ إنس = إنسان !!

وقد كانت هذه إشارة منا على أنّ هذا الاسم- كما يقول اللسان العربي - قد جاء على وزن "فعلان" ، ووزن فعلان يفهم في اللسان العربي على أنه وزن ثنائية المتناقضين
والزوجين والضدين، باعتبار أن النون ليست من أصل الكلمة، وعلى هذا يمكن قياس بقية الأسماء المطابقة- أي تلك التي تنتهي بالنون المسبوقة بألف الاثنين، ولعله من المدهش حقاً أن يجيء الاسم "الرحمن" - حين تقييده كتابةً - دون هذه "الألف" ، لأنه- كما نعلم - من الحروف "النارية" – كما يقول أهل القراءات - في حين أنه لابد من كتابته في أسماء كـ: الإنسان، الميزان، البيان، الشيطان، القرآن، الخ.. وهو ما يمكن ملاحظته بكل وضوح في مجمل سورة "الرحمن" تقريباً!! وكل هذا هو ما يمكن أن نطلق عليه اجتماع مجموع "صفات" التناقض والتباين الداخلة في فكر وقول وفعل هذا الإنسان، من حق وباطل، وصدق وكذب، وخير وشر!! وكلها نتاج ذلك "الدافع الباطني" (ساق الشجرة) المنقسم استبطاناً في أعماقه إلى جهتي "اليمين" و "الشمال" !!

بداية الخيط :

ولابد من القول- أيضاً - وبأنه وللحصول على كل الإجابات والحلول لجميع أسئلتنا وقضايانا الاجتماعية- على كر العصور والدهور وتوالي الأجيال - لابد من العودة إلى تلك البدايات التي فيها ومنها بدأت هذه الحقبة البشرية/ الإنسانية، للتعرف أولاً على مدى هذه الفروق الواضحة ما بين "البشرية" في الكائنات السابقة و "الأنسنة" في هذا الإنسان، ولن نجد كل هذا إلا مسطوراً بين دفتي القرآن "الحكيم" ولتكن بداية الخيط لكل ذلك- كما بدا لنا - هي قوله- سبحانه وتعالى -:-

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي "جَاعِلٌ" فِي الأَرْضِ "خَلِيفَةً" ..) "البقرة/30" ..
عسانا نأخذ بيد بعضنا البعض ونغوص أكثر في مجاهل تلك الأعماق التي أشرنا إليها، والتي أول ما يواجهنا منها هي قوله تعالى لذلك "الجان" : (.. " فَاهْبِطْ " مِنْهَا.. ) "الأعراف /13" . فاننا نلاحظ أن الهبوط هنا قد جاء بصيغة الكيان المفرد! .. - أي "الصورة الكلية للاسم" دون "الجزئية" منه والتي هي "الجن" ، وذلك بعد ملاحظة دخول الألف والنون على هذا الاسم!! لأننا في مرحلة تالية نجد أن خطابه– سبحانه وتعالى – في هذا الصدد قد جاء بصيغة:- (.."اهْبِطَا" مِنْهَا..) "طه/123" .. لنلاحظ أن الهبـوط هنا قد جاء بصيغة الكيان المثنى-أي المنقسم - ! ..

وفي المرحلة الأخيرة نجده – سبحانه وتعالى – قد جاء بصيغة أخرى تقول:-

(.. "اهْبِطُواْ" مِنْهَا "جَمِيعاً"..) "البقرة/38" 00 وهي الملاحظة التي تعني بأن الهبوط قد جاء هنا بصيغة الكيان الجمع!! ..

وهذا الجمع في واقع الأمر هو لتلك الجزئية المحصاة- جزئية الاسم الكلي التي جاءت دون "ألف" الاثنين!! – أي لنا "نحن" أكرر : لنا "نحن" ، عموم "الجن"!!

مع ملاحظة أن كلمة "جميعاً" هذه قد وردت في الآية رقم "123" السابقة- المذكورة - بعد (.. اهْبِطَا مِنْهَا "جَمِيعاً"..) !! ونحن نعلم بأنه لو هبط الاثنان فقط فإن كلمة "جميعاً" تصبح بلا معنى!! وحاشا لله.. لأن قوله هو الحق..

التشابه والمثاني:

ولما لاحتواء القرآن على صفة الثبات، وذلك قوله تعالى: ( َبلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ21 فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ 22 ) "البروج" .. نجد أن هذه الصفة هي صفة الشمول لكل قوانين هذا الوجود المنسقة له، ابتداءاً من لحظة الانفجار الكوني الأول، وإلى حين دخول الناس إلى الجنة، وإلى النار!! بل تضمنت كل قوانين التطور والحقائق الموضوعية الموجودة خارج الوعي، والتي لها- بالضرورة - وجوداً مسبقاً عن الإنزال والتنزيل..

كما أننا نجد فيه- أي القرآن - صفتي "التشابه" و"المثاني" ، وذلك في قوله تعالى:- (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً "مُّتَشَابِهاً" "مَّثَانِيَ" ) ، وهما الصفتان الداعيتان إلى التأويل:- (بلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ "تَأْوِيلُهُ" كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) "يونس/39"

أي أن في هذا القرآن– كما أجمع المفكرون الحكماء- معلومات لم يحط الناس علماً بها بعد، لأن أوان تأويلها لم يأت بعد، علماً بأن التأويل لا يكون إلا لـ "المتشابه"!! ، وهذا المتشابه لا يوجد إلا في القرآن، ولا يعمد إلى التأويل إلا إذا منع مانع منه، والقرآن- في الاعتقاد الراسخ- كما ذكرنا - هو مجموعة القوانين المخزنة في "اللوح المحفوظ" قوانين النظم المتحكمة من البداية إلى النهاية ثم قوانين الجزئيات المتصرفة في ظواهر الطبيعة وأحداث الإنسان بعد وقوعها "الإمام المبين" وهذه الأخيرة هي التي لها وجود مسبق قبل إنزالها وتنزيلها، وهي التي جُعِلَتْ عربية، و"التشابه" فيها حركة المحتوى- أي هذا (الواقع المعاش بكل حذافيره) - مع ثبات النص، وهو الذي يُفهم فهماً نسبياً حسب الأرضية المعرفية للعصر، وكذلك فيه "النبوة" و "الحكمة" ، وهي القرآن نفسه لو تدبرنا ما وراء ألفاظه!!

لذلك نجد أن القرآن– كما يقول العلماء - إنما يخاطب العقلاء بما عندهم من عقل، ولا يلجأ إلى العقل إلا فيما خالف الناس فيه مقاصد القرآن، فإذا كانت عبارة القرآن تخالف مقطوعاً به عقلاً وجب "التأويل" ..

ما هو هذا العقل ؟

وقبل أن نتكلم عن التأويل نورد سؤالنا السابق المستفهم عن معنى العقل، ما هو؟ ونترك الإجابة هنا لشيخنا الجليل "الحفيان" الذي يقولف في كتابه "النظرات" : -

(إن العقل في التراث الهيليني- شرقياً كان أم غربياً - ذات من الذوات المدركة وجوهر فرد مستقل بنفسه داخل جسم الإنسان، يفارق به الحيوان، وهذا مفهوم قديم ثبت خطاؤه ومن ثم تجاوزته النظريات الحديثة في مفهوم العقل، باعتبار الزمان الوجودي..

والعقل عند الفلاسفة ينقسم إلى قسمين:

1- عقل مجرد

2- عقل عَمَلي

والعقل بنوعيه عمل من أعمال القلوب، إلا أن العقل المجرد يستخدم من الوسائل الإدراكية ما يتناسب مع مجال حركته وتعقله، ومن أهم الوسائل الإدراكية للعقل:
الجهاز العصبي الذي يأتي المخ في قمته ويتم التعقل تبعاً لحركة مراكز الحواس مع أدواتها في تفاعلها مع الزمان والمكان بأحيائه وأشيائه.

أما العقل الفعَّال عند الفلاسفة، وهو الروح الزكي عندنا، فهو عاقل عالم بطبعه، تتراءى له مرائي الوجود وتجليات الله في مواجهته لعالمه الأسمى، متى كان جاهز الاستقبال، صافياً ومقابلاً للحق في وجهته، فإذا تربد أو ران عليه شيء من درن الاكتساب الآثم فحجب نقاءه وجوهره وصفاءه، أو انحرف عن الوجهة الحق، فإنه سيصاب بالردِّ السفلي متى نأى عن الذكر، فبعُد عن رحمة الله، فقسا قلبه الذي يشكّل عندنا الهيولي العام لهذا الروح أو لهذا العقل في هذا الطور الذي يسمى عندنا: بالعقل المؤيد، أو الروح المُكاشَف، أو القلب المنير، وكلها من وسائل الإدراك فوق الحاسي..

ولمزيد من التعرف على العقل المجرد والعقل المؤيد يمكننا أن نقول: العقل المجرد تلازمه أُطر عامة تشكِّل حدود حركته وأغوار مدركاته، ومن هذه الأُطر:-

1/ الإطار المنطقي

2/ الإطار الفلسفي

3/ الإطار الواقعي

4/ الإطار العلمي

5/ إطار التسديد
الأطر الأربعة الأولى تحمل معنى العموم، فلا تختص بإنسان دون آخر، وبمقدار حركة الفكر وقوته في الفعل والانفعال بواقع الحياة المتجدد يكن مقدار العطاء العلمي، إلا أنه عطاء علمي يُعْنى بظاهر الحياة الدنيا..

أما حركة العقل في الإطار الأخير فهي تشكِّل حركة التفاعل الإيجابي مع الوحي فهماً، وتديناً، يمد التصور البشري بالكمال الرباني خلال ضرورة التصويب حتى يستقيم العقل على منهاج السداد والرشد، وآية ذلك عدم التعارض بين معطيات العقل ومعطيات الوحي..

كما إن من أعماله أن يصل الكشوف العلمية بحقائقها الدينية إنطلاقاً من مفهوم الوحدانية، ولا يشترط في العقل السديد أن يغوص في أعماق مفهوم الوحدانية ودورها في منظومة الحياة الإنسانية والوصول إلى إدراك علاقة كثرة المظاهر بتوحيد الظاهر- عزّ وجلّ- لأن هذا من أعمال العقل في عوالم أخرى، وطور أعلى من أطوار العقل هو:

(عالم الملكوت) : و(الملكوت) صيغة مبالغة من (مَلَك) ، مثل (نَاس) المبالغة منها (ناسوت) ، والإنسان لا يتعامل مع عالم الملكوت بالعقل المجرد، ولا بالعقل التجريبي، ولا بالعقل المسدد، إلا تصوراً وتفكراً وتدبراً، أما تحقيقاً فلا يتأتى للعقل ذلك إلا إذا كان مؤيداً، ذلك لأن العقل بكل درجاته لا يعمل إلا في الزمان والمكان، وعالم الملكوت، عالم لا زمان فيه بمفهومنا الوجودي.. و يبدأ بالسماء الدنيا وينتهي بسدرة المنتهى.

ويختلف العقل المؤيد عن العقل المجرد لأنَّ العقل المجرد قصاراه أن يبحث في ظواهر الأشياء وصفاتها على درجاته.

كما أنه يختلف عن العقل المسدد، إذ قصارى العقل المسدد أن يعرف قوانين الأحياء والأشياء، إلى جانب مقدرته على الربط بين المثال والواقع، أو بين النظرية وتطبيقها خلال السلوك الاجتماعي، كما يشترط ليوصف العقل بالسداد أن يشهد صاحبه (الله الحق) من خلال إدراك الحقائق الدينية وربطها بمنهج الإسلام وشِرْعته..

أما العقل المؤيد:

فهو الذي يعرف حقائق الوجود العليا على ما هي عليه، لا عن طريق الدليل والبرهان والتجريب والملاحظة، وإنما عن طريق الكشف عن هذه الحقائق بنور الله، وأهل العقل المؤيد هم أهل المجاهدة في الله، الذين أظمأوا نهارهم وأسهروا ليلهم حتى كشف الحق عنهم حجاب الحس وأيدهم بنوره فرأوا حقائق الوجود العليا ببصائر لا شوب فيها..

وهنا قد ينشأ سؤال: أين موقع العقل المؤيد من الإنسان؟

ونجيب بأن موقع العقل المؤيد من الإنسان هو (القلب) شريطة أن يكون مؤمناً بالله الواحد الأحد، وفقاً لما جاءت به رسالة الإسلام من شرعة ومنهاج، وبهذا الاعتبار يمكننا أن نقول إنّ العقل فعل من أفعال القلب، وصفة من صفاته، وليس جوهراً مفارقاً كما هو المفهوم الفلسفي القديم، والملاحظ عند دارسي القرآن الكريم، أن كلام الله لم يرد فيه إسم (العقل) كوسيلة من وسائل الإدراك النسبي، وإنما جاءت كلمة (عقل ومشتقاتها لتعطي معنى الفهم والوعي والإدراك) مع إضافة هذه المعاني إلى أداة أخرى هي (القلب) وما يرادفه من مصطلحات مثل (الفؤاد، اللُّب، الصدر) ..

ولعلَّ المَلاَحِظ الدلالية من وراء اختيار لفظ القلب ليكون هو وسيلة التعقل والإدراك والفهم تتمثل في:

1- اعطاء التعقل معنىً عميقاً يتجاوز الظواهر والظاهرات.

2- تجاوز المعنى التجريبي والمنطقي للإدراك العقلي الدارج

3- عدم الوقوف بالمعطيات الوجودية عند مرحلة المعرفة المجردة

4- النفاذ بالإدراك المعرفي إلى طوايا الوجدان وحنايا القلوب لينفعل العاقل بما عقل، ترقية لهذا الوجدان وإنارة للقلب مع الإحساس ببرد اليقين وعاطفة الإنتماء، مع استشعار آصرة الروح ونقاء البصيرة، وكل ذلك يشكِّل مرادات أساسية وسامية متاحة من مقاصد الإسلام، لا يعطيها المعنى الشائع لمفهوم (العقل) ، الذي يجرد المعقولات من دفق المشاعر، وتفصل السلوك عن الدوافع الوجدانية وتنأى بالمعارف عن نور القلب وهدى الإيمان ومدد التقوى..

وفي إطار المنهج الإسلامي يتجاذب هذا القلب عالمان، عالم الملك (العالم المادي) وعالم الملكوت (العالم الروحي) ، فإذا استنار القلب بنور الله فاستقر فيه الإيمان نزع إلى العالم الأسمى فنقل عن الله في عالم الملكوت من حقائق المعارف ما لا يستطيع العقل التجريبي دركه..

أما عالم الجبروت:

ويقصد به عالم تجليات الله بصفات الذات، وهي تجليات نورية محضة ليس فيها من أعيان الأغيار شيء.. وكلما علت درجة القلب في مدارج الرفعة كلما تراحبت سوحه، وانشرحت طواياه بنور الله، حتى تحسن عين الفؤاد رؤية عالم الجبروت، حينما تنعكس تجلياته على مرآة القلب ذات الصفاء والنقاء فيرث من المعارف اليقينية وهباً والتجليات الإلهية كشفاً وشهوداً ما لا يقوى العقل المجرد على تصوره ناهيك عن تعقله..

أما عالم الهاهوت:

فهو الذي يقصد به عالم الذات الإلهية في صرافتها المطلقة وتجردها عن الأسماء والصفات، حيث تنقطع العبارة بالسحق والمحق في عالم العماء وتبقى الإشارة بهاء هوية الذات المقدسة، ولا مقام لسالك في هذا العالم، وإنما هي أحوال في زمان يبلغ من الدقة درجة لا تقاس، وضمير التعريف في هذا العالم (هـو) فإن أشرت قلت: (ها هـو) ، ومن هنا جاءت تسمية هذا العالم، ولا إدراك في هذا العالم إلا العجز عن درك الإدراك

وغاية العلم بالله وأسماه ما كان في عالم الهاهوت بنورية المقام الأقدس، مقام: (قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) وهو علم بالله في حقائق الوجود العليا ولسان حال صاحبه الإشارة به حقاً هو (هو) !! ) انتهى..

علم "التأويل" :

أما عن ذلك التأويل الذي أشرنا إليه ولتمام الفهم يقول الإمام المبارك بن محمد بن الأثير الجزري (544- 606هـ) في كتابه: "جامع الأصول في أحاديث الرسول" ج/2 ما يلي:-

( "من قال في كتاب الله برأيه" : النهي عن تفسير القرآن بالرأي لا يخلو إنما أن يكون المراد به: الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط، أو المراد به: أمرٌ آخر!! وباطلٌ أن يكون المراد به: أن لا يتكلم أحدٌ في القرآن إلا بما سمعه، فإن الصحابة- رضيَّ الله عنهم - قد فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي- صلى الله عليه وسلم - وأن النبي دعا لابن عباس فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل" ، فإذا كان التأويل مسموعاً كالتنزيل، فما فائدة تخصيصه بذلك؟! ) ..

عليه تقررعندنا أن العقل– كما يقول شيخنا الحفيان - : "لا يصلح معياراً إلا للمحسوسات، كجزء ضئيل من كتاب الدين الشامل، وهو بذلك يكون قد حصر انطلاقته بين أفقين لا يتعداهما، الأشياء، ووضع نصوصها الظاهرة" ، الأمر الذي يؤدي إلى الجهل التام بما يكمن وراء الألفاظ من معاني روحية0 فالألفاظ – كما قيل - هي خدم المعاني، بل ويؤدي إلى إنكار الكثير من المجازات والدلالات وإلى رفضها 0مما سيؤدي إلى الحيلولة بيننا وبين الوصول إلى تلك "الكلمات" العالية من المعارف الربانية، في تلك "الصحف" الإلهية الأولى، التي وصل إليها كل من جعل من هذا "القلب" مدركاً لها تفسيراً وتأويلاً، من خلال إبصاره الدائم في هذا القرآن العظيم!! وتأملوا قوله – سبحانه وتعالى – على لسان سيدنا يوسف:

 (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ"عَلَّمْتَنِي" مِن "تَأْوِيل" ِ الأَحَادِيثِ.. )

 (هَـذَا "تَأْوِيلُ" رُؤْيَايَ.. )

 ( ذَلِكَ "تَأْوِيلُ" مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً.. )

 ( .. و"َيُعَلِّمُكَ" مِن "تَأْوِيل"ِ الأَحَادِيثِ )

 ( و"َلِنُعَلِّمَهُ" مِن "تَأْوِيلِ" الأَحَادِيثِ.. )

 ( .. سَأُنَبِّئُكَ بـ "ِتَأْوِيلِ" .. )

 ( نَبِّئْنَا بِـ "تَأْوِيلِهِ" .. )

 ( .. أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بـ "ِتَأْوِيلِهِ" .. )

 (َ بلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ "تَأْوِيلُهُ" .. )

 ( .. َفأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء "تَأْوِيلِه"..)

أي آمنَّا بكنه جوهر هذا التأويل لِما منه فاضت على الكون أنهار "الحكمة" حاملةً لدقائق تفاصيل الخلق!! فالتأويل إذن علم قائم بذاته يفيضه الله على من يشاء من عباده!!

وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: "أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله" - أي "القرآن" - ..
وعنه عن مجاهد قال: "والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنّا به" 0 وكذا قال الربيع بن أنس..

ومن العلماء من فصل هذا المقام بقوله:- (التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان:-
أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى:- ( وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا " تَأْوِيلُ " رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ ) وقوله : ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ "تَأْوِيلَهُ" يَوْمَ يَأْتِي "تَأْوِيلُهُ" يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ.. ) أي حقيقة ما أُخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا، فالوقف على الجلالة، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عزّ وجلّ، ويكون قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مبتدأ، و(يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) خبره.

وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله (نَبِّئْنَا بِـ "تَأْوِيلِهِ" ..) أي بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى فالوقف على (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) حال منهم، وساغ هذا، وأن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه0 " ..

ثم ألا يوجب قوله- سبحانه وتعالى-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) "الأنبياء/47" .. تأويلاً، طالما أننا نعلم تمام العلم بأن الأعمال عرض لا يوزن، كما تساءل شيخنا حجة الإسلام الامام الغزالي؟!! فهو يقول:

( .. نعم، بين المعقول والمنقول تصادم في أول النظر وظاهر الفكر، والخائضون فيه

-أي في التأويل - تحزبوا إلى مفرطٍ بتجريد النظر إلى المنقول، وإلى مفرط بتجريد النظر إلى المعقول، وإلى متوسطٍ طمع في الجمع والتلفيق

والمتوسطون انقسموا إلى من جعل المعقول أصلاً، والمنقول تابعاً، فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه، وإلى من جعل المنقول أصلاً، والمعقول تابعاً، فلم تشتد عنايتهم بالبحث عنه، وإلى من جعل كل واحـد أصلاً ويسعى في التأليف والتوفيق بينهما فهم إذن خمس فرق..
الفرقة الأولى: هم الذين جردوا النظر إلى المنقول، وهم الواقفون على المنزل الأول من منازل الطريق، القانعون بما سبق إلى أفهامهم من ظاهر المسموع، فهؤلاء صدّقوا بما جاء به النقل تفصيلاً وتأصيلاً، وإذا شُوفهوا بإظهار تناقض في ظاهر المنقول وكُلِـفوا تأويلاً امتنعوا وقالوا: إن الله قادر على كل شيء فإذا قيل لهم مثلاً: كيف يرى شخص الشيطان في حالة واحدة في مكانين، وعلى صورتين مختلفتين؟ قالوا: إن ذلك ليس عجباً في قدرة الله، فإن الله قادر على كل شيء وربما لم يتحاشوا أن يقولوا: إن كون الشخص الواحد في مكانين في حالة واحدة مقدور لله تعالى

الفرقة الثانية: تباعدوا عن هؤلاء إلى الطرف الأقصى المقابل لهم، وجردوا النظر إلى المعقول، ولم يكترثوا بالنقل، فإن سمعوا ما يخالف عقولهم زعموا أن ذلك صوَّره الأنبياء، وأنه يجب عليهم النزول إلى حد العوام، وربما يحتاج أن يذكر الشيء على خلاف ما هو عليه. فكل ما لم يوافق عقولهم حملوه على هذا المحمل، فهؤلاء غلوا في المعقول حتى كفروا، إذ نسبوا الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام - إلى الكذب لأجل المصلحة

ولا خلاف بين الأمة أن من جوَّز ذلك على الأنبياء- صلوات الله عليهم - يجب حـز رقبته، وأما الأولون فإنهم قصروا طلباً للسلامة من خطر التأويل والبحث، فنزلوا بساحة الجهل، واطمأنوا بها0 إلا أن حال هؤلاء أقرب من حال أولئك، فإن تخلص هؤلاء عن المضايق بقولهم: إن الله على كل شيء قدير، ونحن لا نقف على كنه عجائب أمر الله. ومخلص أولئك بأن قالوا: إن النبي إنما ذكر ما ذكره على خلاف ما علمه، للمصلحة، ولا يخفى ما بين المخلصين من الفرق في الخطر والسلامة.

الفرقة الثالثة: جعلوا المعقول أصلاً فطال بحثهم عنه، وضعف عنايتهم بالمنقول، فلم تجتمع عندهم الظواهر المتعارضة المتصادمة في باديء الرأي، وأول الفكر المخالفة للمعقول، فلم يقعوا في غمرة الإشكال، لكن ما سمعوه من الظواهر المخالفة للمعقول جحدوه، وأنكروه، وكذبوا راويه، إلا ما يتواتر عندهم كالقرآن، أو ما قرُب تأويله من ألفاظ الأحاديث، وما شقّ عليهم تأويله جحدوه حذراً من الإبعاد في التأويل، فرأوا التوقف عن القبول أولى من الإبعاد في التأويل، ولا يخفى ما في هذا الرأي من الخطر في رد الأحاديث الصحيحة المنقولة عن الثقات الذين بهم وصل الشرع إلينا

الفرقة الرابعـة: جعلوا المنقول أصلاً وطالت ممارستهم له فاجتمع عندهم الظواهر الكثيرة، وتطرفوا من المعقول ولم يغوصوا فيه، فظهر لهم التصادم بين المنقول والظواهر في بعض أطراف المعقولات، ولكن لما لم يكثر خوضهم في المعقول، ولم يغوصوا فيه، لم يتبين عندهم المحالات العقلية، لأن المحالات بعضها يُدرك بدقيق النظر وطويله الذي ينبني على مقدمات كثيرة متوالية ثم انضاف إليه أمر آخر، وهو أن كل ما لم يُعلم استحالته حكموا بإمكانه0 ولم يعلموا أن الأقسام ثلاثة:

قسم عُلِم استحالته بالدليل، وعلم علم إمكانه بالدليل، وقسم لم يُعلم استحالته ولا إمكانه0 وهذا القسم الثالث جرت عادتهم بالحكم بإمكانه إذ لم يظهر لهم استحالته0وهذا خطأ كمن يحكم باستحالته إذا لم يظهر إمكانه0 بل من الأقسام ما لم يُعلم إمكانه ولا استحالته0إما لأنه موقف العقل وليس في القوة البشرية الإحاطة به، وإما لقصور هذا الناظر خاصة وعدم عثوره على دليله بنفسه وفقده لمن ينبهه عليه

ومثال الأول: من حس البصر قصور الحس البصري عن أن يعرف عدد الكواكب أنه زوج أو فرد، وأن يدرك عِظَم الكواكب مع بعدها على ما هي عليه

ومثال الثاني: وهو القصور الخاص، قصور حس بعض الناس عن أن يدرك منازل القمر، وظهور أربع عشرة منها في كل حال، وخفاء أربع عشرة مقابل درج المنازل في الغروب والشروق، وغير ذلك مما وقف عليه بعض الناس بحس البصر دون بعض، كذلك يتطرق إلى إدراك العقل مثل هذا النوع من التفاوت

وهؤلاء لما قلَّ خوضهم في المعقولات لم يكثر عندهم المحالات فكفوا مؤنة عظيمة في أكثر التأويلات إذ لم ينتبهوا للحاجة إلى التأويل، كالذي لم يظهر له أن كون الله بجهة محال إذ استغنى عن تأويل الفوق والاستواء وكل ما يشير إلى الجهة

والفرقة الخامسة: هي الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول الجاعلة كل واحد منهما أصلاً مهماً ، المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقاً، ومن كذّب العقل فقد كذّب الشرع، إذ بالعقل عُرِف صدق الشرع0 ولولا صدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي، والصادق والكاذب0 وكيف يُكذَّبُ العقل بالشرع، وما ثبت الشرع إلا بالعقل.
وهؤلاء هم الفرقة المحقة، وقد نهجوا منهجاً قويماً0 إلا أنهم ارتقوا مرتقىً صعباً، وطلبوا مطلباً عظيماً، وسلكوا سبيلاً شاقاً، فلقد تشوقوا إلى مطمعٍ ما أعصاه، وانتهجوا مسلكاً ما أوعره، ولعمري أن ذلك سهل يسير في بعض الأمور، ولكن شاقٌ وعسير في الأكثر

نعم، من طالت ممارسته للعلوم، وكثُر خوضه فيها، يقدر على التلفيق بين المعقول والمنقول في الأكثر بتأويلات قريبة، ويبقى لا محالة عليه موضعان: موضع يُضطر فيه إلى تأويلات بعيدة تكاد تنبو الأفهام عنها، وموضع آخر لا يتبين له فيه وجه التأويل أصلاً فيكون ذلك مشكلاً عليه من جنس الحروف المذكورة في أول السور إذا لم يصح فيها معنى بالنقل ومن ظن انه سَـلِمَ عن هذين الأمرين فهو إما لقصوره في المعقول وتباعده عن معرفة المحالات النظرية فيرى ما لا يعرف استحالته ممكناً0 وإما لقصوره عن مطالعة الأخبار ليجتمع له من مفرداتها ما يكثر مباينتها للمعقول فالذي أوصيه به ثلاثة أمور:

أحدها: أن لا يطمع في الاطلاع على جميع ذلك وإلى هذا الغرض كنت أسوق الكلام0 فإن ذلك في غير مطمع وليتل قوله تعالى: "وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" 0
ولا ينبغي أن يستبعد استتار بعض هذه الأمور على أكابر العلماء فضلاً عن المتوسطين، وليعلم أن العالِم الذي يدعي الاطلاع على مراد النبي- صلى الله عليه وسلم - في جميع ذلك فدعواه لقصور عقله لا لوفوره

الوصية الثانية: أن لا يكذب برهان العقل أصلاً0 فإن العقل لا يكذب، ولو كذب العقل فلعله كذب في إثبات الشرع0 فكيف يعرف صدق الشاهد بتزكية المزكي الكاذب0 والشرع شاهد بالتفاصيل0 والعقل مزكى الشرع

وإذا لم يكن بد من تصديق العقل لم يمكنك أن تتمارى في نفي الجهة عن الله، ونفي الصـورة، وإذا قيل لك: "إنّ الأعمال توزن" علمت أن الأعمال عرضٌ لا يوزن، فلا بد من تأويل، وإذا سمعت: "أن الموت يؤتى به في صورة كبش أملح فيذبح" علمت أنه مـؤول، إذ الموت عرض لا يؤتى به، إذ الإتيان إنتقال ولا يجوز على العرض ولا يكون له صورة كصورة كبش أملح، إذ الأعراض لا تنقلب أجساماً ولا يذبح الموت، إذ الذبح فصل الرقبة عن البدن، والموت ما له رقبة ولا بدن فإنه عرض أو عدم، عرض عند من يرى أنه عدم الحياة، فإذاً لا بد من التأويل!!

الوصية الثالثة: أن يكف عن تعيين التأويل عند تعارض الاحتمالات فإن الحكم على مراد الله سبحانه، ومراد رسوله- صلى الله عليه وسلم - بالظن والتخمين خطر، فإنما تعلم مراد المتكلم بإظهار مراده، فإذا لم يظهر فمن أين تعلم مراده إلا أن تنحصر وجوه الاحتمالات ويبطل الجميع إلا واحداً فيتعين الواحد بالبرهان

ولكن وجوه الاحتمالات في كلام العرب، وطرق التوسع فيها كثيرة، فمتى ينحصر ذلك؟ فالتوقف في التأويل أسلم، مثاله: إذا بان لك أن الأعمال لا توزن، وورد الحديث بوزن الأعمال، ومعك لفظ الوزن، ولفظ العمل، وأمكن أن المجاز لفظ العمل، وقد كنى به عن صحيفة العمل التي هي محله حتى توزن صحائف الأعمال، واحتمل أن يكون المجاز هو لفظ الوزن، وقد كنى به عن ثمرته، وهو تعريف مقدار العمل إذ هو فائدة الوزن، والوزن الكيل أحد طرق التعريف0 فحكمك الآن بأن المؤول لفظ العمل دون الوزن، أو الوزن دون العمل من غير استرواح فيه إلى عقل أو نقل# حكم على الله وعلى مراده بالتخمين

والتخمين والظن جهل، وقد رخص فيه لضرورة العبادات والأعمال والتعبدات التي تدرك بالاجتهاد0 وما لا يرتبط به عمل إنما هو من قبيل العلوم المجردة والاعتقادات، فمن أين يتجاسر فيها على الحكم بالظن؟ وأكثر ما قيل في التأويلات ظنون وتخمينات، والعاقل فيه بين أن يحكم بالظن، وبين أن يقول: أعلم أن ظاهره غير مراد فلا أدري ولا حاجة إلى أن أدري0إذ لا يتعلق به عمل ولا سبيل فيه إلى حقيقة الكشف واليقين ولست أرى أن أحكم بالتخمين وهذا أصوب وأسلم عند كل عاقل، وأقرب إلى الأمن في القيامة إذ لا يبعد أن يسأل في القيامة ويطالب ويقال: حكمت علينا بالظن، ولا يقال له لِمَ لَمْ تستنبط مرادنا الخفي الغامض الذي لم يؤمر فيه بعمل؟ وليس عليك فيه من الاعتقاد إلا الإيمان المطلق، والتصديق المجمل. وهو أن يقول: "آمنّا به كل من عند ربنا" .

فهذه المطالبة في القيامة بعيدة وإن كانت فالجواب عنها أسهل ولأجله قال الإمام مالك - رضيّ الله عنه - لما سُئل عن الاستواء: "الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" .

وبهذه الوصايا يستبين عذري في كراهيتي للجواب عن مثل هذه الأسئلة. لكن مع هذا أوثر مساعدته في بعض ما أورده فأقول: (أما قوله- صلى الله عليه وسلم - : "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" فإشارة إلى سريان أثره في جميع باطن الإنسان كما تجري أجزاء الدم وتسري في جميع باطنه، وليس المراد أن جسمه يمازج جسم الإنسان ممازجة الماء للماء. وهذا قول عن تحقيق يطول شرح مقدماته وأدلتها عقلية. وأما كيفية مباشرته للقلوب فليس بتخايل يظهره الحس، فإني أصادف الوساوس في قلبي، ولست أتخيل شيئاً ولا أشاهده بعينيَّ عند اختلاج الوساوس. وهذا الحكم مقدمات دليله أكثرها حسية. بل الوسواس من الشيطان كالإلهام من الملك. ونحن نصادف في قلوبنا خواطر مختلفة. إذ يدعو بعضها إلى اتباع الهوى، وبعضها إلى مخالفته، وهذه خواطر مختلفة بدليل اختلاف مقتضياتها وهي مفترقة إلى أسباب لأنها حادثة، والمختلفات أسبابها مختلفة فسمى الشرع السبب الذي يحصل منه إلهام ملكاً، والذي منه يحصل الوسواس شيطاناً، والإلهام عبارة عن الخاطر الباعث على الخير، والوسواس عبارة عن الباعث على الشر، والملك والشيطان عبارة عن أسبابهما. وكما أن النار يستنير بها جوانب البيت، فكذلك- أيضاً - يسود بها سقفه، فنعلم أن النور يخالط السواد، ونعلم أن سببه مخالط لسببه، وإن سبب النور ضوء النار، وسبب السواد دخانه، فبذلك يُعلم أن سبب الوسواس غير سبب الإلهام، نعم، يبقى النظر في أن ذلك السبب عرض أو جوهر قائم بنفسه ، وقد ظهر أنه ليس بعرض بل هو جوهر، فيبقى النظر في أنه حي أو ليس بحي؟ وظهر أيضاً أنه حي بأدلة شرعية، وللعقل أيضاً فيه مدخل ما.

فأما قول الفلاسفة والطبيعيين أنه الأخلاط فهو جهل محض، لأن تأثير الأخلاط لا يعدو مقتضى الطبائع الأربع من الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة. والخواطر، والاعتقادات، والعلوم لا يجوز أن تكون من آثار الطبائع التي هي أعراض جمادات، بل هي نازلة من فوق الأرضيات بالرتبة، فينتج أنه جوهر غير متحيز، أو هو جسم متحيز، ويمنع أن يوجد غيره بحيث هو لطيف كالهواء، وكثيف كجسم آخر، وهذا النظر في الملك، والجن، والشيطان، فذهبت طائفة إلى أن كل ما هو قائم بنفسه جسم، ووصفوا به الخالق. تعالى الله عن قولهم، إذ لم يعقلوا إلا جسماً.
وقالت طائفة: كل قائم بنفسه جسم إلا الله تعالى، وأحالوا أن يكون في الوجود سواه جوهر قائم بنفسه لا يتخيل.

وقال قوم: إن الملك، والجن، والشيطان كل هؤلاء جواهر حسية قائمة بنفسها وليست بأجسام ولا متحركات، وإنما استعمال النزول، والانتقال، والمجيء، والذهاب عليها استعارة كما في حق الله. بل ثار هذا الخلاف بينهم أيضاً في الجوهر العالم المدرك من الإنسان.

فقال قوم: هو جزء لا يتجزى، ولا يتحيز، فلا هو داخل البدن، ولا هو خارجه، ولا هو متصل، ولا هو منفصل: بل لا يجوز عليه هذه الصفات. ولست أذكر ما انكشف لي فيه فإن الصورة المجملة لا تفيد كشفاً بل تقليداً، ولست بالتقليد أولى من غيري، ولا منفعة في التقليد في المعقولات، وأما كشفه ففيه طول، ولو لم يطل أيضاً لكان الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الكف عن ذكره أولى، وإنه لم يذكر سر الروح وهذا بحث عنه، فلا ينبغي أن يزاد عليه في الإيضاح.

وأما ما شاهده الأنبياء، والأولياء من صور الملائكة، والشياطين فهي في الأكثر أمثلة تنافي معانيها وتقوم مقام مشاهدة عين المعاني كما يُرى الأنبياء في المنام ويُستفاد منهم، وإنما المشاهد في المنام مَثَلهم، فأما أشخاصهم فلم تنتقل عن مواضعهم.

فذكرت تفصيل ذلك في كتاب "عجائب القلب" وكذلك القول في الجن، ولذلك ترى صوراً مختلفة إذ التمثيلات لا تنحصر وجوهها، كما أن من يرى النبي- صلى الله عليه وسلم - لا يراه على صورة واحدة. إلا أن هذه التمثيلات تكون للأنبياء والأولياء في اليقظة. ولغيرهم تكون في المنام فقط. وفي الصحيح أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لم ير جبريل على صورته عدا مرتين مع كثرة رؤيته له في كل حين.

وأما الكلام المسموع من المصروع فهو كلامه. وقول القائل تكلم الجني بلسانه كلام غير معقول. نعم، الجن سبب لوقوع خواطر، وتمثيلات، وخيالات في قلبه تنبعث بسببه داعية الكلام والحركة، وكلامه مثل كلام النائم، والنائم هو المتكلم لا غيره. وأما إخبار المصروع بالغيب فسببه أن جميع ما كان وما يكون مسطور ثابت في شيء خلقه الله، تارة يسمى لوحاً، وتارة إماماً، وتارة كتاباً. كما قال الله تعالى: "في كتاب مبين" و "في إمام مبين" . وثبوت الأشياء فيه كثبوت القرآن في دماغ الحافظ للقرآن، وليس مثل الرقوم المكتوبة المرتبة في جسم متناهٍ، لأن غير المتناهي لا يمكن أن يكتب في المتناهي كهذه الكتب الظاهرة، والقلب مثل مرآة، واللوح مثل مرآة ولكن بينهما حجاب فإذا ارتفع ترآى في القلب الصور التي في اللوح، والحجاب هو الشاغل، والقلب في الدنيا مشغول، وأكثر اشتغاله التفكر فيما يورده الحس عليه. فإنه من الحواس في شغل دائم. فإذا ركدت الحواس بالنوم، أو الصرع ولم يكن من فساد الأخلاط شاغل آخر في الباطن ربما يرى القلب بعض تلك الصور المكتوبة في اللوح، وتحقيق هذا يطول وقد أشرت إلى ملامح منه في كتاب "عجائب القلب" ، وكذلك ما يظهر عند سكرات الموت حتى ينكشف للإنسان موضعه من الجنة فيكون بشرى، أو من النار- والعياذ بالله - فيكون نذيراً، لأن الحواس تركد في مقدمات الموت قبل زهوق الروح.

وأما حديث غذاء الشيطان من العظم، وحصاصه، وحديث الحوض، والبرزخ فما عندي في تفصيل المراد به تحقيق. بل بعض ذلك مما أوصي بالكف فيه عن التأويل، وبعضه مدركه النقل المحض، وبضاعتي في علم الحديث مزجاة، فموضع الحوض لا يُعرف إلا بمجرد النقل فليرجع فيه إلى الأحاديث، والبرزخ يمكن أن يكون المراد به مرتبة بين الجنة والنار لمن ليست له حسنة ولا سيئة. كالمجنون، والذي لم تبلغه الدعوة. والحكم بأن المراد إحداهما دون الأخرى تخمين إلا أن يدل عليه النقل، والله- سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب. ) .. انتهى– من كتاب: "معارج القدس في معرفة النفس" للإمام الغزالي-

وحقاً إن الكثير من المعارف لا تفهم- كما أشرنا - إلا بضرب المثل لذلك الشيء الغيبي بهذا الشيء المادي المحسوس، المألوف والمعروف لكل الناس كـ "حسٍ مشترك" مشابه له!! ..
فكما أننا علمنا بأن في الجنان هواء، وماء، ولبن، وعسل، وفاكهة، ولحم، وخمر، ونساء، وأشجار، وظلال، وخلايا، وحركة، وانفعال، وتغذية، وهضم، وإخراج، وتنفس، وأنسجة، وحواس، فكذلك كل هذا يوجد عندنا- الآن - !!

ولكن!!

هل ماؤنا هذا هو عين ماء الجنان؟!! بالطبع لا..

وعلى ضوء هذا تقاس بقية الأشياء!!

ذلك لأن عناصر النشأة الآخرة- لأيٍ من الدارين - تختلف تمام الاختلاف عن عناصرنا التي تقوم عليها أجسادنا اليوم في هذه الدار!! فعنصر "التراب" لا صلة له أصلاً بجوهر"الروح" ، لكنهما في واقعنا المحسوس متلازمان كتلازم النور والظل، ولا أحد ينكر ذلك!! وهذا ما سنلتقيه- إن شاء الله – حينما نتكلم عن (الجنة والنار) !!

وحقاً، مَنْ يُؤتَ الحكمة فقد أُوتيَّ خيراً عميماً، وما يذكر إلا أُولو الألباب!!

فأولئك- كما يقول شيخنا الحفيان - هم "عقلاء العلماء" وهؤلاء هم "حكماء العلماء" ، ونحن نعي وندرك تماماً بأن عصارة جميع ما جاءنا به نبيُنا الكريم إنما هو"الحكمة" ، في أعلى مراقي معانيها، فهي الاستجابة العليا لتلك الدعوة النبوية التي أرسلها أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم- عليه السلام - ولا شيء سواها!! لأنها لا تعني سوى "الفهم" لما أنزل الله!!
(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوعَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَ"الْحِكْمَةَ" وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) "البقرة129" ..

أفلا يحق لنا بعد هذا أن نتساءل كما تساءل غيرنا ونقول: هل كل ما تنفر منه العقول هو أمرٌ باطل لا وزن له ولا قيمة؟!

إن الإجابة على مثل هذا السؤال تفرض علينا- وبالقوة - وجود أداة أخرى لابد منها للتلقى والفهم غيرهذا العقل، تستدعي أن نلتفت إليها وأن نقف عندها طويلاً، وأن نسمع لما تقول، وأن نفسح لها المجال لتأتينا بأحلى الثمار وأنفعها وأدومها، حتى نستطيع أن نشكل أهم العناصر المفيدة بحق لغذائنا الروحي، ألا وهي أداة "القلب" المستمد لأنـوار هذه الحكمة من نور ذلك "الروح القدس" !! - الذي هو كالشمس - ذلك (الروح الأمري) !! – (رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا) !!

"الفهم" والماء العميق

بل إن الحاجة إلى ردم هذه الهوة القائمة ما بين العقل والقلب تدعو كل من له إبحار وغوص عميق طويل في هذا المحيط الواسع اللامتناهي- أي القرآن - أن يدلي بدلوه، مهما كانت الدهشة وفغر الأفواه، حتى تعم "المعرفة" المنشودة سروراً تحت ظلال الفرح السرمدي الحق.. ولو لإنسانٍ واحد!!

*هذا وقد جاء في صحيح البخاري- تعضيداً لما نقول- أن أبا جحيفة- رضيَّ الله عنه - سأل سيدنا علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه - قائلاً:- "هل عندكم شيء من الوحي ليس في كتاب الله" ؟! فقال:- "لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهماً يعطيه الله "رجلاً" في القرآن" !! ..

نعم، (فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن !!!) ..

فالقرآن إذن لا يتغير ولا يتبدل من أجل مخلوق- بل هو من ناحية هذا "الثبات" كالفك الأعلى من الإنسان- بل هو الجزء الخاص بـ: (لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) "الكهف /27" .. - أي القديم - وهو جزء مطلق لا يمكن اقتحامه أبداً إلا عن طريق "الحكمة" - أي الفلسفة في معناها الإلهي العظيم- والتي هي - كما قيل - أم العلوم، المُعرِّفة للإنسان بكل هذه القوانين الناظمة للوجود، وهو أمر- كما ذكرنا - لا ينال بالاكتساب ولا بالتحصيل، إنما بالتفضل والأخذ باليد، وإلا لما قال ذلك العالم الإنجليزي- بل وأحد كبار علماء الانجليز- "إنّ نزعات العلم الحديث قد رفعتنا إلى ذروة نشرف منها على ذلك اللج الواسع، لج الفلسفة، أمّا إذا جازفت بأن أنغمر فيه، فليس ذلك عن إيمان بقدراتي على السبح، بل ابتغاء أن أُظهِر كم هو عميق ذلك الماء !! " ..

والفلسفة عندنا تعني "الحكمة" - أي الخير الكثير- !!

الغوص

فهيا بنا الآن- متابعةً متأنية دقيقة - إلى هذا اللج الواسع "القرآن الحكيم" عسانا نلتقط من قاعه الأعمق جوهرهذه "الحكمة" لنهديها لأنفسنا أولاً، ثم لهذا العالم الحائر ثانياً، مثلما سبق أن قدمنا له وسائل تنقله على هذا السطح الساخن، لأن رسولنا الكريم وصحابته الكرام لم يوصونا بالسباحة رغبة في السباحة فقط، إنما لنتعلم من خلالها الغوص، وفنون الغوص، إذ لا يعقل أن نكون إلى الآن لم نتعلمها وحبل "الوتين" ما زال موصولا!! ..

فإلى سكنى البيت، والغاية، ومحاولات الإبصار النفسي، والله على ما نقول شهيد..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى