الاثنين ١٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٩
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

التسجيل والتخييل في رواية «عبدو هيبا»لمحمد نصار

توطئة:

في إطار سعي الكاتب محمد نصار؛ لمواكبة التطور الكبير الحاصل في المجتمعات، ومسايرة سرعة التحولات والتغيرات في المجتمع، فقد وظَّف أسلوب التسجيل والتخييل في البنية الفنية السردية لأعماله الروائية؛ لأن الرواية هي الجنس الأدبي الوحيد الذي في قدرته مسايرة الواقع؛ ذلك أنها تعكس بعمق وحساسيةٍ أكبرَ تطورٍ الواقع نفسه.

فما المقصود بكلٍ من أسلوب التسجيل والتخييل؟؟

التسجيل: هو ذكر الوقائع، والأحداث، والتدوين، والتوثيق والإخبار، إنه النقل الواقعي المجرد للأحداث، ومعاينة الراهن السياسي والاجتماعي والثقافي أي: إنه عمل غير متخيل.
أما التخييل، فهو إضفاء الخيال والصور الفنية، والعاطفة على الأحداث والوقائع، أي: الاتكاء على الخيال في رسم الشخصيات، وبناء الأحداث في صور متعددة، وفيه تنقطع مادة الأحداث عن وظيفتها التوثيقية، وتصبح تؤدي وظيفة جمالية ورمزية؛

فالرواية تضفي علي التسجيل وعناصره صفة الخيال، ويغدو التخييل عملاً متخيلاً. ويصبح التسجيل ثمرة للبنية الواقعية: السياسية والاجتماعية والثقافية السائدة في المجتمع، ليس بلغة النقل الآلي الفوتوغرافي، لغة الانعكاس المباشر، وإنما بلغة التخييل. فالرواية فن مراوغ، لا تعرف قواعد ثابتة وقاطعة، وأصولها غائمة، وهي مثار جدل عند النقاد.

ومهما يكن من أمر التسجيلية, وإمكانية هيمنتها على الجانب الفني في الرواية؛ فإن الأمر يظل منوطاً بالكاتب وفي قدرته على جعل التسجيلية مجرد خلفية؛ الأمر الذي تصبح فيه الركن الذي يشكل الجزء فيه مقابل الكل.

التسجيل والتخييل في رواية عبدو هيبا:

صدرت رواية"عبدو هيبا"عن مكتبة منصور للطباعة والنشر والتوزيع بغزة، للكاتب الروائي محمد نصار بعنوان:"عبدو هيبا"، بلغت (128) صفحة من الحجم المتوسط، لسنة 2019 م. وهي رواية تاريخية واقعية في آن معاً، تجمع أحداثها التاريخ الفلسطيني القديم والتاريخ الراهن، وتدور أحداثها في إحدى البلدات الفلسطينية الأثرية، وهي بلدة"بيت حانون".

1 - التسجيل والتخييل في العتبات النصية:

أ - التسجيل والتخييل في العنوان:

يُحدث عنوانُ الرواية للوهلة الأولى للمتلقي الدهشةَ والمفاجأة، ذلك أنه بعد قراءته للرواية، يكتشف أن هذه الشخصية تمثل الشخصية المركزية في البناء الفني للرواية، وهي شخصية تاريخية لأحد ملوك مدينة القدس أور سالم في فلسطين، كما ورد في إحدى الرسائل التي بعث بها هذا الملك الى ملك مصر آنذاك.

يتبين أن اسم"عبدو: يعني: عبد أي: (خادم)، واسم (هيبا)يعني: الإلة، أي خادم الآلة، وقد عاش هذا الملك في الربع الأخير القرن الرابع عشر قبل الميلاد (1370) ق.م.

ب – غلاف الرواية يوحي الغلاف بالتراث القديم: بيوت عتيقة، وبائعون، وأشجار، وطرق ترابية، ويوحي اللون الأخضر الفاتح إلى سمة التراثية والأشياء العتيقة ذات الطابع الأثري، فضلًا عن الحياة والنمو والحياة الرغدة التي كان يعيشها الفلسطينيون في أرضهم، وربما كان ثمة اتفاق بين الكاتب والمصمم على تصميم هذا المشهد على الغلاف بهذا المشهد الموجود، وعليه يندرج الغلاف ضمن إبداع الروائي والمصمم معاً.

2 – الأحداث: تحمل أحداث الرواية ملامح التسجيل والتخييل، ذلك أن أصل الأحداث في الرواية هو العثور على وثائق ولفائف ورسائل في أحد المساجد الأثرية لقديمة التي هدمها الاحتلال الصهيوني في اجتياحاته المتكررة لقرية بيت حانون.

ترك هذا الملك (عبدو هيبا) حاكم أورسالم عدداً من الرسائل تقدر بأربع رسائل..بعث بها إلى فرعون ملك مصر آنذاك(أخناتون)، الذي امتدت مملكته حتى حدود فلسطين، يحذره فيها من فقدانه السيطرة على أرض مملكته حول أور سالم، وبالتالي سيطرة العبيرو، وهم جماعات خارجة عن النظام السياسي والاجتماعي، وترتبط بأعمال السرقة، وقطع الطرق، والنهب، والفوضى.

لقد قضى الملك"عبدو هيبا"فترة حكمه يحارب العبيرو، ويساند إخوانه الملوك المجاورين لمملكته، ومنهم ملك غزة حانون الأول - في محاربه هؤلاء المفسدين في الأرض.

تعد الحقبة الزمنية التي جرى قسط وافر من أحداثها جزءاً مهماً من تاريخنا الفلسطيني الذي ظل ردحاً من الزمن يكاد يكون منسياً، والذي لم تتم مقاربته من الكتاب والأدباء في نتاجاتهم الروائية؛ وعليه فإن مقاربة الروائي لهذه الحقبة من الزمن يكون قد أزاح الستار عنها، وسلَّط عليها الضوء، فغدت حقبة تاريخية خصبة ومضيئة في تاريخنا الفلسطيني القديم.

لجأ الكاتب في النص الروائي الراهن إلى التاريخ وإلى الوثائق والرسائل، غير أن هذا لا يعني أنه تحول إلى مؤرخ؛ لأن الأمر مجرد استعارة فضاءات التاريخ وأحداثه؛ لابتداع شخوص روائية- مهما اسْتُمِّت من الواقع، فإنها تتعالى على سياقها وزمنيتها؛ لتتيح للمتلقي أن يعيد تأويل التاريخ، على ضوء الرؤية التي تتكون لدى الروائي.

ولعل هذا يجعل المتلقي يطرح سؤالا مهما عن الواقعية في الفن, هل الواقعية هي النقل الفوتوغرافي, أم هي إعادة خلقه وتقنينه جمالياً، بحيث يبدو أنه ممكن الحدوث، فيأخذ مُصَادقة المتلقي.

ومن القضايا التي عالجتها الرواية قضية التمسك بالأرض، وعدم التخلي والرحيل عنها، ومن ذلك أن ملك أورسالم عبدو هيبا كان دائماً ما يوصي الملوك أن يبقوا في أماكنهم في ممالكهم لا يغادرونها؛ حتى لا يستولي عليها العيبرو من بعدهم، وكان لا يفتر عن طلب العون والحماية والمساندة والدعم والمساعدة من ملك مصر آنذاك، ليستمر في مقاومة العيبرو والحفاظ على الأرض.. تقول الرواية:

 لم يبق ثمة أرضٌ للملك، فلقد سلبها العبيرو كلَّها.
 إذا لم يأت الرُّماة، فلن يكون للملك أرضٍ ولا حكام.
 عليَّ أن أبقى، ولا أترك المكان.

لقد عمل الروائي جاهداً على تلاقح التسجيل مع التخييل، وصهرهما في بوتقة الإبداع، بحيث لا يتعارض ذلك مع خصوصيات الرواية، ولا يتداخل مع مقوماتها، ولا ينفي بنيتها ما دامت عملية اختيار النصوص ترد وَفْقَا لمشيئة المبدع. إن عمله هذا يحقق تداخلاً بين التسجيلي والتخييلي.

الرؤية النقدية للتاريخ القديم في الرواية:

تتجلى الرؤية النقدية في الرواية بوضوح وجلاء عندما يصور الكاتب ظاهرة استغلال العدو لبعض النفوس الضعيفة، فيأخذ في استخلاص العملاء والعيون والجواسيس؛ لينفذ مخططاته ويتعرف إلى اسرارهم، مستغلاً عنصر المرأة، وما تمتلكه من عوامل الجنس والإثارة الجسدية في إسقاط الآخرين.

ومن نماذج الرؤية النقدية في الرواية، النقد الذي قدمته الرواية للعاملين في دائرة الآثار في تاريخنا المعاصر، والكشف عن مدى تقصيرهم بحق هذه الآثار؛ بوصفها المرآة التي ينعكس في صفحتها هذا التاريخ الناصع، فقد ورد في الرواية هذا المشهد الحواري:

سأل السارد العليم الشخص الذي عثر علي الأوراق واللفائف مستفسراً عن حقيقة تلك:

 من أين حصلت على كل هذا؟
 في أثناء تجريف الركام، ورفعه من المسجد، وجدتها داخل وِعاءِ فخارٍ كبير.
 هذا كنز ثمين، كان الأجدر أن تعطيه لدائرة الآثار؛ لكي تتولى أمرها.
 أي آثار؟ وأي تخريف؟ لقد وجدنا الكثير من الأواني والجرار، تم رفعها مع الركام، ولولا أني أعرف اهتمامك بالتاريخ، لما رأيْتَهَا الآن بين يديك".

وجَّه النص الروائي انتقاداً لاذعاً صيغ في أسلوب من السخرية الواضحة، والتهكم المرِّ للجهات المسئولة عن الحافظ على التراث والآثار الفلسطينية التي لم تُبد اهتماماً وعناية بهذا الجانب المهم من الهوية الفلسطينية.

وفي موضع آخر يحاول الروائي تصويب معلومات تاريخية كانت رسخت - وما زالت - في أذهان كثير من الناس في زماننا الحاضر.. عن سبب تسمية قرية بيت حانون بهذا الاسم يقول في حوار بين شخصين:

 لقد قال إنه من خدم النبي حانون.
 ليس هناك نبي اسمه حانون.!!
–يا رجل، هذا ما قاله لي، وهذه البلدة ما زالت تحمل اسمه.
 هناك ملك اسمه حانون، كان يحكم غزة، ويتخذ من البلدة مصيفا له (ص ١٧).

وفي موضع ثالث يقول السارد العليم بعد ما اطلع على ما قامت به جماعات العيبرو من استباحةٍ لأراضي أهل تلك المملكة، وسلبٍ لخيراتها، وسطوٍ وتخريب وإغارة، وقطعٍ لطرق التجارة:

"طوى الألواح وزفر قائلا:

يا إلهي كأن التاريخ يعيد نفسه.. لا أكاد أصدق ما أرى.
ولو لم أطلع بنفسي على ما هو مخطوط هنا لما صدقت!!
أي بشرٍ هؤلاء الذين يتوارثون المكر والخديعة جيلاً بعد جيل؟؟
وتسري الجريمة في دمائهم كما تسري الحياة..

أي خَلْقٍ نحن، وقد مررنا بكل هذه التجارب، ولم نتعظ؟؟ لُدغنا من ذات الْجُحْر ألفَ مرة، وعدنا إليه من جديد!! (ص ٤٩).

لم يختر الأديب محمد نصار في تعامله مع أحداث التاريخ أن يُحضر التاريخَ إلى الحاضر.. وإنما اختار بدلاً من ذلك الذهاب بالحاضر إلى الماضي، وإحضاره، إسقاط التاريخ المعاصر عليه.

وذلك من خلال استعادة فترات تاريخية زاهية، وشخصيات تاريخية معروفة، وجعل من التسجيل / التاريخ عنصراً جوهرياً في بناء رواياته التي تسعى إلى استيعاب التحولات والتغيرات التي طرأت على الواقع الفلسطيني المعيش.

أما عن تقنية التسجيل الذي يمتاح عناصره ومادته من التاريخ الفلسطيني المعاصر لا سيما تعرض دور العبادة المساجد للتدمير والتجريف والتخريب يقول السارد:

"في الصباح تدافع الناس صوب المسجد الذي دُمِّر عن آخره، كانت الشوارع التي جرفتها الدبابات شاهدة على فداحة الجرم الذي حلَّ بها، وهول الدمار الذي طال الكثير من مكوناتها.. عند المسجد كان الأمر مختلفاً، تلالٌ من حجارة وركام حطَّت في المكان.. مصاحفُ تناثرت أوراقها وتطايرت، فاجتهد البعض بجمعها وحفظها، داخل أكياس أُحضرت من أحد البيوت القريبة، مؤذنُ المسجد كاد يجن، وهو يصرخ بملء فيه مفجوعاً:

الله أكبر عليهم!! مسجد عمره سبعة قرون يصبح في لحظة كومة تراب.. ربنا ينتقم منهم!!
ومن هنا عمل الكاتب بجهد صادق على تطوير آلياته وأدواته التعبيرية والجمالية؛ بقصد معالجة ظواهر المجتمع وصهرها في نسيج أعماله الروائية؛ لكي ينجز أعمالاً فنية ترتسم فيها ملامح الواقع المتغيرة في الزمان والمكان. ومن هذه الآليات:

الإفادة من تقنيات الفن المسرحي والسينمائي مثل: أساليب التقطيع، والحوار بنوعيه، وعين الكاميرا والاسترجاع وغيرها.

الإفادة من جماليات الأجناس الأدبية الأخرى من شعر ورسائل ومقامات وخطب وغيرها من فنون أدبية.

توظيف الحكايات والأساطير التراثية.

توظيف الرموز الموحية والأحلام وغيرها من تقنيات سردية حديثة.

توظيف اللغة التصويرية الشعرية الموحية.

النتائج:

توصلت الدراسة إلى جملة من النتائج من أهمها:

إن الرؤية السردية المسيطرة على الرواية تتجه نحو إعادة قراءة التاريخ والوقائع السياسية قراءة شمولية بعيدا عن التعصب لثقافي.

إن هذه الرواية بتوظيفها أحداث التاريخ ووقائعه ترمي إلى تأكيد حقيقة أن فلسطين التراثية هي أرض الفلسطينيين، لا ينازعهم أحد في تملكها،
وأن الرواية تدق جدران الخزان بقوة عسى أن يأخذ الشعب العربي الفلسطيني حذره، ولا يلدغ من الجحر الواحد مرتين من خلال العيبرو!!

كشفت الرواية أن هؤلاء العبيرو وأحفادهم الصهاينة بشر يتوارثون المكر والخديعة جيلا بعد جيل؟ وتسري الجريمة في عروقهم كما تسري الحياة؟

إن الرواية عبَّرت عن تلك القضايا بأسلوب فني موحٍ، مستخدمةً التقنيات السردية الحديثة التي جاءت ثمرة تطور الرواية على أيدي جيل من كُتاب الرواية الفلسطينية المبدعين من أمثال: الروائي غريب عسقلاني، وعبد الله تايه، محمد نصار كاتب هذه الرواية وغيرهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى