الثلاثاء ١٩ آذار (مارس) ٢٠١٩
بقلم جورج سلوم

الجريمة... والرجيمة

(الأمسُ صفحة طُويَت وما فات َ مات).

خسئ من قال ذلك ... فما فات لم يمُتْ بعد... والصفحة التي قُلِبَت امتدّت ذيولها إلى صفحة جديدة كأذرع الأخطبوط الهلامية تحاصرك وتخنقك..

أو كصفحات الديون المستحقّة مهما تقلّبت أو دُفِنَت في الأدراج ، فمستوجبٌ سَدادُها مع فوائدها وتراكماتها.. والحكاية مازالت بلا خاتمة

مازال جرحُ الأمس ينزفُ حتى اليوم بين الفينة والأخرى.. ينزف دمعاً ولو جفّ دمه... وألماً دفيناً ولو اندمل ظاهرياً.

الأمس جريمة وتستوجب القَصاص... إن لم يكن اليوم فغداً... وخطيئة الأمس تستدعي الإصلاح.. والجنين الذي زرعتَه في تلك الصفحة وقلبتها، حبِلتْ به الصفحات التالية وستستثقل قلبها.

لا تشِحْ بوجهكَ عني.. لا تتجاهلْني.. لا تغلقْ نداء هاتفي إذا ما داهمَكَ رنينهُ.. أو نشيجه... أرني عينيك يا هذا... لأستطلعَ فيهما ماذا يخبّئ لي غدُكَ بعد جريمة الأمس.

بالأمس كنتُ جريحة... وتركتَني فوق فراشكَ طريحة. معروكة بالدم.. مشتتة الأوصال.. مقطّعة وذبيحة... واليوم يجثمُ أمسُكَ أمامي.. ويكبرُ همّك في بطني... ثقيلاً وثقيلا وفضيحة.

ارب ..اغفر لي أمسي.. أو أسكنّي رمسي.

يارب.. كنتُ طيّعةً بين يديك.. فكيف أصبحتُ مطواعةً بين يديه؟

كيف أنصَتُّ إليه.. وسكنتُ بين يديه.. وحملتُ فوق شفتيّ عار شاربيه؟

كيف لم ينصِتْ لتوسّلاتي... وصمّ أذنيه عن كلماتي؟

كيف حوّلني من عذراءَ مقدّسة إلى امرأة مدنّسة؟

أعترفُ أنني سُحِرْت بكلماته.. أحلامه.. وخيالاته.. لمساته وحنانه..

كان مختلفاً عمّن صادفت و صادقت من الرّجال.. لذلك سمحْتُ له بالدّخول من بابيَ الضيق..
أعترف بأنه لم يسرقني خلسة.. بل طرق الباب.. وفتحتْ.

ورحّبت به ضيفاً ونزيلاً ..لكنه كان كنزيل الفندق ينام على سريره الفسيح بشراشفَ نظيفة، ولا يسأل عمّن كان نائماً قبله في الليلة الماضية؟..ومن سينام بعده؟..

ونزيل الفندق تهمّه ليلته فقط ، وقد يترك سريره معروكاً وشراشفه ملوّثة بعرقه ومرحاضه ملطخٌ بروثه .. لا بل قد يسرق صابونة صغيرة للذكرى.. وقد يأتي على ما في برّاده الصغير من عصائر وزجاجات كحولية مع أنه ما شرب الكحول في بيته.. تهمّه ليلته فقط وفاتورته التي سيدفعها.. ولو أعفته صاحبة الفندق من الدّفع لن يقول لها إلا شكراً..

ولو عزَمَت عليه بأن يعيد الإقامة عندها.. فلن يدفع..فقد اعتاد على عروضها المجانية.. اعتاد أن يلوّث شراشفها فقط ويستحمّ طويلاً في حمّامها ويرحل غير آسفٍ على شيء..

كان معي كنزيلٍ في فندقي.. أكل من مطعمي وشرب من كأسي.. حتى أتى على نجوميَ الخمس فأطفأها!

لماذا أشعر الآن بالحاجة إليه... هل لأنني مكسورة الخاطر؟.. أم ليحتويني بين جنبيه؟... أنا المكشوفة والمكسوفة... أنا الضعيفة والمستضعفة... أنا الوحيدة إلا من جنينٍ يحتركُ في بطني.

أربعة أشهرٍ خَلَتْ كنتُ له فيها سيدة ثم شريكة ثم مملوكة وجارية وسارية وأخيراً مجرّد غانية ..الآن فقط استيقظتُ على حراكِ جنيني.. الآن فقط جاءتني صحوة الزواج... الآن فقط أطالبُ بالإصلاح ناسية أخطاءَ الماضي ..الآن فقط أنا بحاجةٍ إلى وجهه بعد أن أراني ظهره.. أصبحتُ ممهورةً بختمه.

تبّاً لي..ضعفٌ وتراخٍ.. عهرٌ وذلٌّ.. وتباكٍ ودموعْ ...

التقيتهُ.. مهموماً ..أوخجِلاً.. أو وجِلاً .. قلت: (وكانت عيناي تحاول الالتقاء بعينيه):

 لقد ارتكبنا الفاحشة.. تزوّجني

 لا يجوز ليَ الزواج بحامل

 ألا تعترف؟

 أعترف أنني دخلتُ عليكِ لكن لا أعترف بأبوّتي لساكنِ رحمك..

 أتشكّ بأنني أسلمتُ نفسي لغيرك؟

 الله أعلم.. قد أكون ممّن وطئوا حقلك وأشكّ أنني زارعه

 أين كلماتكَ الجميلة وأشعارك وهمساتك؟.. أصبحتْ أقوالُكَ مقتضبة..أين أحلامك تسوقني بها نحو خيالات الخصب؟.. ومحراثك يحفر أرضيَ البكر جيئة وذهاباً وبذورك تنثرها في تربتي.. تلقّحها.. فأضمّها وأحضنها منتظرة ربيعنا الموعود.

لم يُجِبْ... يدخّن وينفث دخانه.. ومصرٌّ أن يريني ظهره فقط.. فقلت:

 والحلّ يا رعاك الله؟

قال بعصبيّةٍ واضحة:

 أمّا الإجهاض فحرامٌ لأنّ الله نفخ الروح فيه... أو تلدين وبعدها قد أتزوّج بكِ شرعاً... ولكن كيف تسجّلين المولود؟

 ألا يوجد حكمٌ لما اقترفنا..أنا مؤمنة وأرضى بحكم الله... ألا يوجد قصاصٌ شرعيّ... فعذاب الدنيا – مهما بلغ- أقلّ إيلاماً من عذاب الآخرة.

رمى عقب سيجارته وداسها بقسوةٍ بالغة... وتحسّس ذقنه التي طالت وتأكّد من حدودها الحليقة.. ثم قال:

 الجَلدْ أو الرّجمْ.

قلت وقد سلّمت أمري إلى المولى:

 تذكّر يا هذا... أنا جسدٌ فيه نفحاتٌ من روحك.... أنا ورقة ممهورةٌ بختمك ...
إذا حُكمَ عليّ ... فهل ستشارك في رجمِ الرّجيمة .. أم سيُطلق عليّ أهلي رصاصةً رحيمة..؟

عندها في ساحة الرجم العلنية سيحيطون بي كالدائرة القاتلة.. ويتردّدون من سيرمي الحجر الأول.. عندها سأنظر في وجوههم وأنا المجرمة، وهم سيخجلون وهم الأبرار القتلة.. وقد يتراجع البعض إلى الصفوف الخلفية .. حتى يأتيهم الإيعاز من الشيخ الآمر مكررّاً ومحذّراً من التباطؤ لأنه أمر الله ..

ليفتتح الشيخ الرئيس مسرحيته بحصاة كانت في يده.. ثم يأتيني الحجر الأول من الخلف ليدقّ على ظهري.. فألتفت لأبحث عن الرامي فيتخفّى وكأنه ارتكب معصية.. ثم ستنهالُ عليّ الأحجار الكريمة.. النظيفة.. الطاهرة والمطهِّرة من الإثم ..

ثم يأتيني وابلٌ من أحجارالشامتين والحاقدين... وتضيق دائرة الراجمين من حولي وأنا أسمع شتائمهم ونعوتهم.. فأغمض عيناي وأتكوّر متّقية المزيد.. والدم الذي يسيل من رأسي يجلّلني ويغسلني.. هه هه.. ويطهّرني!

وأحاول أن أخفي بطنيَ المنتفخ وأبلعه ..حتى تخور قواي وأفقد رشدي ..فأنبطح أو أضطجع وعيوني ودّعت النور ولعقت التراب المجبول بالدم ..وأتذكّر أمي وأتمنى أن تكون مشاركة لهم في غسل العار لأنها بعد ذلك لن تبكي عليّ ..بل ستفخر وتزغرد

كم يعزّ عليّ بكاؤك يا أمي؟.. سأرقد مرتاحة في قبري وأنا أراك توزّعين الحلوى على المباركين.. وسأكون سعيدة عندما تجمعين بقايا ثيابي التي تحمل رائحتي وتحرقينها على باب البيت.. فلا يبقى أثر من بقاياي يذكّرك بابنة عاقّة.. ساقطة!

ما الحجر الذي سيشجّ رأسي.. ويزهق روحي... فسيكون قطعاً من أبي أو أخي... هذا حجرُ المحبّين الثقيل الذي سينهي عذابي.

لا تخجل.. فلن أبحث عنك في دائرتهم الرجيمية التي حاصرتني.. إذ أنني رأيتك ببصيرتي تحرّضهم وتناولهم مزيداً من الأحجار.. ولا تنسَ أنك أول من رجمتني.

قد يتساءل ابننا وهو بين أحشائي ويرجموننا سوية ... ماذا يجري في الخارج يا أمي؟.. ولماذا يجتمعون عليّ وما اقترفتُ ذنباً؟.. ولماذا يقتلونني قبل أن أرى النور؟.. لكن تراكم الكدمات سيسكته الى الابد.

خنقتني الكلمات.. وفاضت عيناي بالعبرات... لم أعُد أرى.. مددتُ يدي أبحث عن شيء أمسكُ به تحاشياً للسقوط.

فتحتُ عيوني فوجدتُ نفسي في حضنه وتحت ظلالِ شاربيه... مسحَ دموعي وقال:

 نعم أيتها الرجيمة.. سأرجمكِ أنا بالورد وأقصفكِ بمدافع الحب...

أنا سأقيم عليك الحدّ في محكمتي الروحية، وسأحكمُ بأن تعيشي معي إلى الأبد.. زوجة.. وأمّاً... بشرع الله.

لستِ جارية ولا مملوكة.. بل أنتِ الملكةُ التي بايعتُها منذ زمن.. وأسجدُ عند قدميها الطاهرتين..

سأفتخرُ بكِ.. وبأمسكِ الجميل... نعم ما فات لم يمُتْ بعد.. فلن يموتَ حبّكِ في قلبي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى