الأحد ٢١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
بقلم أمينة شرادي

الجـســر

كانت تتسابق كل صباح، مع نسمات الريح التي تتماوج مع خصلات شعرها، وتراقب طلوع الشمس الذي يبدو لها كحدث كبير يحدث فرحا غير مفهوم بداخلها. كانت أمنيتها أن تظل للحظات تحت أشعة الشمس الوهاجة حتى تستطيع أن تستقبل اليوم بنفس جديد. لكن ظروف عملها كانت كالسيف على رقبتها. التوقيت مهم في عملها. أصحاب البيت الذي تشتغل عندهم يرفضون أي تأخير أو تهاون مهما كان السبب.

من أحب اللحظات الى قلبها، ان تمشي والشمس ماتزال تستيقظ من سباتها الليلي. وتعشق تلك اللحظة التي تقف فيها عند الجسر وتهيم مع رائحة الشجر وصوت المياه ونور الشمس. كانت كعاشق ينتظر حبيبته. وتبتسم وتحضن كل الأشعة التي تخترق جسدها النحيل وتعيد اليه توازنه وحيويته. بديعة، هذا هو اسمها. فهي بديعة في التعامل مع الآخرين. هي من أسرة فقيرة، عملت كمساعدة بالبيت المتواجد في الطرف الآخر من المدينة. لكي تساعد عائلتها التي تتكون من أخ صغير وأب مقعد وأم تعبت من الخدمة في البيوت. كأنها تعيد حياة أمها رغما عنها. فتضطر عند كل صباح، أن تقطع الجسر من أوله الى آخره، لكي تصل الى مكان عملها.

كان صباحا ليس ككل الصباحات، وصلت عند الجسر واستقبلتها الشمس كاستقبال الضيف بعد سفر طويل. عادة، يكون الجسر صامتا الا من خرير المياه، وحفيف الأشجار. لا أثر لقدم بشري في تلك الساعة المبكرة. لكن هذا الصباح، رأت شابا، طويل القامة وقوي البنية. يخترق صمت المكان. واقفا لا يتكلم ولا يحرك ساكنا. كأنه يحمل سرا خطيرا.. في لحظة، بدأ يقترب من النهر دون أن ينتبه اليها. فتقدمت بديعة بشكل تلقائي نحوه وسألته:

 ممكن أسألك؟

التفت اليها ولم يجب. بل استمر ينظر الى المياه التي تجري من تحت قدميه. اقتربت منه رغم الخوف الذي يستوطنها وقالت له:

 لماذا تقترب من النهر؟ هل تريد السباحة؟

صمته أصابها بالتوتر والاضطراب. اقتربت منه أكثر وقالت له:

 السباحة ممنوعة هنا، فهي خطيرة جدا.

كأنها شجعته على الاستمرار في تنفيذ ما ينوي القيام به. وهنا حاول أن يتجاوز السياج بكل هدوء. وكانت بديعة، في حالة ذهول، لا تفهم ما يجب أن تقوم به. تحركت دون تفكير مسبق ومنعته من تجاوز السياج بكل قوتها حتى سقطا معا على الأرض.

امتلكها خوف شديد من نظراته، ووقفت بسرعة وابتعدت كأنها أدركت أنها تدخلت في شيء لا يعنيها. قالت له وهي تتأبط حقيبتها كتلميذة ذاهبة الى المدرسة وقالت له بصوت مضطرب:

 لا شيء يستحق. الانتحار ما هو الا وسيلة الضعفاء.

وتراجعت الى الوراء. تنتظر ردة فعله. وأخيرا انتبه الى وجودها ونظر اليها بنفس الهدوء وقال لها:

 من أنت؟

ابتسمت ثم أخفت ابتسامتها خوفا منه. وقالت له:

 اسمي بديعة، وأشتغل في أحد البيوت في الطرف الآخر من المدينة.

وهنا استغلت الفرصة وتشجعت وسألته:

 لماذا تريد أن تموت؟

وقف بشكل آلي، واتكأ على السياج.. وقال لها:

 الفقر. ثم تابع بعنف:

 من سمح لك بالتدخل؟

ارتكبت وغاب عنها الكلام. فهي لم تتعود على هذا النوع من الجدال. لا تعرف من الدنيا سوى البيت ومكان العمل. وطيبتها الزائدة جعلتها تحب مساعدة كل الناس. شعر بخوفها وقلقها. فتدارك الأمر وقال لها بصوت هادئ ويائس:

يبدو أنك طيبة، سأحكي لك قصتي.

"كنت عاملا في أحد المصانع بأجر يومي، ومن أجري الزهيد، كنت أبعث مبلغا منه الى أمي التي تعيش في بلدة بعيدة. وفي يوم، حاولت أن أفهم باقي العمال ان مالك المصنع يستغلنا بالعمل لساعات طوال دون الرفع من الأجر. فانقلبت الأمور علي، حيث وشى بي أحد العاملين وتم طردي. وظلت أمي تنتظر ذلك المبلغ الزهيد، حتى ماتت من الجوع والمرض. فاعتبرت نفسي المسئول عما حصل لها".

اقتربت منه وهي تحاول أن تساعده وتنزع عنه الحزن واليأس وقالت له:

 ليس الحل في الموت.

نظر اليها كأنه كان يريد ان يقول شيئا آخر، أو كان يحتاج الى من يكلمه حتى ينصرف عما في دماغه. وتابع وهو يرسم على شفتيه ابتسامة ساخرة:

 وهل تعتقدين أننا أحياء؟ هل تعتقدين أن الفقراء مثلنا أحياء؟

وهنا انتبهت الى الوقت الذي سرق منها دون أن تدري. تركته دون أن تكمل الحديث معه وأطلقت الريح لساقيها حتى لا تصل متأخرة.

حل الليل ونشر عباءته السوداء على المكان. لم يعد للجسر وجود، كان الليل ابتلعه. كانت هي هناك، بديعة، آتية من الطرف الآخر للجسر، متأخرة على غير عادتها. لا تهاب الليل ولا سواده. فهي تحفظ تضاريس الجسر كما تحفظ تضاريس جسدها. مشت مثقلة بما حصل لها. كأنها تحمل جبالا على كتفيها. كانت تبحث عن ذلك الشاب لكي تروي له قصتها أيضا. اعتقدت أنه مازال هناك. ولكي تقول له أنه ليس الوحيد الذي طرد من عمله. أو ربما لتحمله مسئولية طردها .لأنه لولا وجوده ذلك الصباح عند ذلك التوقيت، لما تأخرت وطردت. لم يتوقف دماغها عن التفكير، اقتربت من الجسر كما فعل ذلك الشاب، و جلست الليل كله عند حافته، كأنها تناجيه وتشكو اليه مصيبتها.

أشرقت شمس الصباح من جديد، انتشر النور في كل مكان. لمعان النهر وهو يتبع طريقه ولا يلتفت الى أحد. كان كل شيء يوحي بجمال وهدوء اللحظة. ظهر في الأفق، شاب طويل القامة وقوي البنية، يحمل كيسا وبعض الأمل في ابتسامته. جاء يشكرها على تواجدها في تلك اللحظة التي جعلته يفسح بابا للأمل. طال انتظاره، استقرت الشمس في كبد السماء، وبديعة غائبة، لا أثر لها. جلس عند حافة الجسر، وأخرج خبزا وحليبا من الكيس. في لحظة، توقف عن الأكل، وأثار انتباه قميصا يعرفه معلقا على السياج الذي كان سيتسلقه بالأمس. لم يفهم. ظل تائها وصامتا وشاردا، ويرفض أن يستمع الى صوت بداخله ينذر بمصيبة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى