الأحد ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٩
بقلم حنين استيتية

الجوكر

اشتريت ساعة جديدة، ذهبت إلى المنزل وانا أتأمل عقاربها الذهبية تتحرك برزانة تشبه رزانة المبلغ الذي دفعته فيها، وضعتها في علبتها بعناية بجانب أخواتها القدامى اللواتي لم ألتفت لهن وأنا أغمزها بابتسامة وحب كبير فقد أضحت بلحظة محظيتي.

كل جديد له سحره الخاص، قلادتي الجديدة لها لمعة خاصة، اصدقائي الجدد نكهة حضورهم مختلفة، ترن ضحكتي لتنطلق بالآفاق دون صدى كنوع من الردود اللاإرادية على خفة دمهم المطلقة، بعض الكلمات تخرج منهم متميزة لا لشيء وإنما بسبب اتكائهم العفوي على بعض الحروف، سريري الخشبي المحفور يزين غرفتي بطرازه الجديد ولونه الخشبي، أناظر النافذة عن يميني فأجد إطلالة البيت تسحر عيني فلا أريد أن أبرح مكاني، مما يدفعني لأن أدير جهازي لأسمع أغنيتي المفضلة التي أرددها دوما عند تذوقي للجمال الهادئ.

ثم تمر عشرة أعوام أعيشها بكافة تفاصيلها.

الساعة اشتريت غيرها، والقلادة لم تعد تلمع كالسابق كما أنني أقتنيت كثيرا غيرها، سريري لا زال في مكانه لكنني أسدلت الستائر على نافذتي ولم أعد أفتحها الا نادرا، أما الأصدقاء فلم نعد نضحك كما كنا أول مرة ولم نعد نلتق الا قليلا، لكنني أصبحت أثق بهم بشكل مطلق بعد أن خرج من محطات حياتي الكثيرون وبقي الأصدق.

تمر الأيام بطيئة رتيبة في حياتنا فتكسب كل الأشياء وزنا أثقل، ويحط الملل رحاله كضيف إلزامي معها، فكما يخط الزمن تجاعيده علينا، يلون كذلك مقتنياتنا، وحتى انه يطال الشخوص بألوانه فلا نعود نشعر بوجود البعض أو حتى لا نكاد نبصر.

وكما كل شيء في الحياة يجب أن تكتمل دائرته، تمر عشرون عاما أخرى فوق سابقتها، فهذا آخر ما كان ينقصنا!.

تنكسر ساعتي القديمة صدفة فأفجع لفقدانها، يغمض بعض الأحباء أعينهم ليناموا بهدوء تحت التراب ويطوون معهم ما تبقى من الأمان.
ترافقني قلادتي القديمة في رحلة حياتي لتصعد دون أن أشعر إلى المرتبة الأولى بين القلائد وتصبح فجأة الأعز على قلبي فلا هي تهدى ولا تباع، سريري الخشبي المحفور أصبح ذا قيمة أكبر من الأثاث الحديث، وأثبتت الاغاني القديمة نفسها بأنها الأصيلة كما البدلة السوداء التي نعود لارتدائها بعد كل الألوان.

أسائل نفسي اذا كنت أفجع لفقدان الأحباء والأشياء فرادى، فكيف بمن يفقدها جميعا بين ليلة وضحاها، من يخسرون منازلهم وكافة تفاصيل حياتهم جراء الحروب، من تجبرهم الظروف على بيع أشيائهم، ومن يفارقون أحباءهم دون وداع، كلها رأس لهرم ارتفع بناؤه على أنقاض السنين، ويبقى الصرح الأكبر منقوشا على شكل ذكريات في القلب تتمدد داخل أصحابها.

الأشخاص والأشياء من حولنا يقتاتون على الأيام ويكبرون معها لتحتل مساحات ودهاليز إضافية في قلوبنا التي ظلت صغيرة على مر الزمن ولم تكبر، وبقيت تفرحها أبسط الأشياء كما تحزنها أصغرها.

الزمن ذا الوزن المتوسط، كما البهار الخفيف على الطعام، يتعذر بسببه تمييز حدة النكهات، لكنه كلما تراكم، كلما وضع علاماته الفارقة، كورقة الجوكر الأخيرة تلقى نفسها بقوة عند نهايات اللعب لتذهلنا بالنتائج الغير متوقعة.

تنخفض قيمة الأشياء من حولنا مع مرور ضيفنا العزيز - الزمن-لكنها تعود إلى الصعود بقوة أكبر بعد أن تدخل التصفيات النهائية كما المباريات العالمية، ليسقط الكثير في الطريق ويبقى فقط نخبة النخبة كما يسميه أجدادنا (الذهب العتيق).

لتتجلى الآية الكريمة (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى