

الحِداد في المسيحية… عبور من الدمع إلى القيامة
في حضرة الموت، تتوقف الكلمات، وتصمت الضوضاء، وتعلو فقط لغة الدموع. هو وجع الفقد، ذاك الذي لا يُشفَى بسهولة، ولا تُخففه المجاملات. لكنه، في قلب الإيمان المسيحي، ليس نهاية، بل بداية أخرى… بداية حياة لا تعرف موتًا، ولقاء مؤجل في حضن النور.
في المسيحية، لا يُنكَر الحزن، بل يُحتضن. لا يُكبت الألم، بل يُضاء برجاء القيامة. حين يرحل عزيز، لا تُغلَق أبواب الرجاء، بل تُفتَح نوافذ السماء، حيث نؤمن أن الحياة لا تُختَزل في سنوات تُعدّ، بل في أبدية لا تنتهي.
دموع المسيح تكفي…
في لحظة إنسانية مؤثرة، حين وقف يسوع عند قبر لعازر، لم يُلقِ فقط عظات، بل بكى. تلك الدموع، كانت أصدق عزاء، وأقدس تأكيد على أن الحزن ليس ضعفًا، بل وجه من وجوه المحبة. لكنها لم تكن النهاية، فبعد الدموع… جاءت القيامة.
هكذا يعلمنا المسيح: نعم، ابكِ، تألم، افتقد… لكن لا تفقد الرجاء. فالذي بكى، هو نفسه الذي أقام لعازر. والدموع التي نذرفها اليوم، تروي بذور القيامة التي ستنبت في الغد.
الموت ليس جدارًا… بل جسر
الموت في المسيحية ليس قطيعة، بل عبور. ليس وداعًا أبديًا، بل غيابًا موقتًا. الجسد يفنى، نعم، لكن الروح لا تنطفئ، بل تعود إلى خالقها، حيث الحب لا يموت. لهذا تُسمي الكنيسة موت المؤمنين بـ”الرقاد”، كما لو أن الراحلين ليسوا إلا نائمين في انتظار فجر القيامة.
وهذا هو سر السلام الذي يسكن قلب المؤمن، حتى وهو في عمق الحِداد.
طقوس لا تُرثي الموتى… بل تحتفل بالحياة
الشموع المضيئة، والبخور الصاعد، وأناشيد الرجاء التي تُتلى في الجنازات المسيحية، ليست طقوسًا باهتة، بل صلوات حيّة، تُحاكي السماء. كل ركن فيها يهمس: “الراحل لم يُهزَم، بل عاد إلى البيت الأبدي”.
تتلو الكنيسة كلمات المسيح:
“أنا هو القيامة والحياة، من آمن بي وإن مات فسيحيا”
(يوحنا 11:25)،
وتُذكّرنا بأننا لا نودّع، بل نرسل رسالة لقاء قريب، حيث لا وجع، ولا دمع، ولا رحيل.
كيف نعيش الحِداد؟
• بالصلاة، لأن المحبة لا تنتهي عند القبر.
• بالرجاء، لأن القيامة ليست وعدًا شعريًا بل حقيقة قام بها المسيح أولاً.
• بالتكافل، لأن الألم المشترك أخفّ وطأة.
• بالحياة، لأن أحبّاءنا الذين رحلوا، يريدون لنا أن نحيا، لا أن نغرق في غيابهم.
الخاتمة: على أعتاب الرجاء
نحن لا نختار الحزن، لكننا نُدعَى أن نختار كيف نعيشه. وفي قلب المسيحية، يتوهّج نور مختلف: نور يقول إن الموت ليس سيدًا، بل العبور إلى حضرة من قال:
“ها أنا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر.”
(متى 28:20)
في حضرته، تبكينا الأيام، لكن لا تنكسر أرواحنا. نُحمَل على جناح الإيمان، ونمضي، حاملين في قلوبنا وجعًا مقدسًا، ورجاءً لا يخيب