الروائي الأميركي فيليب روث: النسيان وحده يخيفني
أجرى الصحافي الدنماركي مارتن كراسنيك هذه المقابلة النادرة مع الروائي الأميركي فيليب روث بمناسبة صدور روايته السابعة والعشرين التي تحمل عنوان «إيفريمان»، وقد بادرت صحيفة «الجارديان» اللندنية بنشرها.
حيث يتحدث فيها الروائي الأميركي عن هذه الرواية وعما يعنيه الموت، الذي يلعب دور البطولة في العمل كله، وعما يخاف منه ويرغب فيه، وعما يعتقد أنه جوهر الأدب، بعد أن أفنى عمره في الإبداع الأدبي وتدريس الكتابة الإبداعية في كبرى الجامعات الأميركية. وفيما يلي نص المقابلة:
نادراً ما يسمح فيليب روث بإجراء مقابلات معه، وقد اكتشف السر في ذلك سريعاً، وليس مرد صعوبة إجراء المقابلات معه إلى فظاظته أو كآبته، فكل ما في الأمر أنه لا يطيق الإجابة عن الأسئلة ذاتها مراراً وتكراراً، حيث يستهل اللقاء معه بالتساؤل: «ما الذي تريد أن تسأل عنه؟». وعلى الفور ينتقل الإحساس إلى من يجري الحوار معه بأن الأمر لن يكون سهلاً بحال.
ويكفي المرء أن يتذكر أنه قبل عدة شهور أجرت صحيفة «نيويورك تايمز» مقابلة مع روث بمناسبة قيام «مكتبة أميركا» بطبع أعماله في إطار إصداراتها، حيث أصبح مع كاتبين آخرين، هما إيودورا ويلي وسول بيلو، الكتاب الوحيدين الذين نالوا هذا الشرف وهم لا يزالون على قيد الحياة، ولكن روث لم يقل شيئاً، من الناحية العملية، لمحرر «نيويورك تايمز» الذي تفاقم شعوره باليأس.
هكذا فإن الأمر اقتضى مني جهداً كبيراً لطرح الاسئلة ـ ومواصلة طرحها ـ حول روث والواقع أنه يظهر في العديد من كتبه سواء في مرحلة الشباب، أو النضج، ثم هناك ذاته البديلة، أي المؤلف ناتان زكرمان الذي يظهر في العديد من كتبه. إذن أين ينتهي الأمر بفيليب روث الحقيقي وأين يبدأ الأدب؟ يتطلع إليَّ فيليب روث الحقيقي بصبر نافذ، كما لو أنني شخص غبي أو سخيف.
يقول: «إنني لا أفهم هذا السؤال فحسب. ولست أقرأ الكتب أو استوعبها على هذا النحو. فأنا أهتم بالموضوع، بالشيء، بالقصة، بالصدمة الجمالية التي تتلقاها من كونك داخل هذا الشيء. هل أنا روث أم زكرمان؟ الأمر كله يدور حولي. ذلك هو ما أقوله عاده. الأمر كله يدور حولي. ولا شيء هو أنا.
عندئذ ينكسر حاجز الجليد بيني وبينه، وكنت قد أحضرت معي إلى حيث نجري الحوار نسخاً من «الحيوان المحتضر» و»اللطخة البشرية»، وهما كتابان يدوران حول العلاقة بين رجل أكبر سناً وامرأة في مقتبل العمر. ترى لماذا يهمه هذا الأمر؟ يقول: «لانه موجود».
أصارحه بأن إجراء حوار معه يمكن أن يكون أمراً بالغ الصعوبة، مثل قيام المرء بتسلق جبل جليد عارياً.
يقول: «طيب، إنني لست موجوداً على ظهر هذه الأرض لأجعل حياتك سهلة». يضحك فتبدو ضحكته كإعلان عن الضحك أو إشعار به، فهو لا يبتسم، وإنما تنطلق ضحكته قوية: «ها.ها».
أقول: «ربما لا ينبغي أن نتحدث عن الأدب على الإطلاق».يقول: «ها.ها. هذا هو الحديث حقاً. لسوف أشعر بأنني في حالة رائعة إذا صدر إعلان بحظر الحديث عن الأدب مئة عام كاملة، إذا أُغلقت كل أقسام الأدب في كل الجامعات، إذا فُرض حظر على حديث النقاد. إن القراء ينبغي أن يكونوا وحدهم مع الكتب.
وإذا جرؤ أحد على أن يقول شيئاً عن الكتب فينبغي القيام بإطلاق النار عليه أو إيداعه السجن في التو. نعم، إطلاق النار عليه. حظر يدوم مئة عام على الأحاديث الأدبية المضجرة.
ينبغي ترك الناس يصارعون الكتب بطريقتهم الخاصة، ويكتشفون بأنفسهم جوهر هذه الكتب وما الذي لاتعنيه. وأي شيء بخلاف ذلك لا يعد إلا ثرثرة خالصة، ثرثرة حكايات خرافية، فما أن تبدأ في التعميم حتى تعد في كون مختلف تمام الاختلاف عن الأدب.
ولا وجود لجسر يصل بين الكونين».يمضي روث خطوات ويحضر «كليشيه» صغيراً أسود، هو الذي استخدم في طباعة غلاف روايته السابعة والعشرين «إيفريمان». ويقول: «ما رأيك فيها؟» أقول: «إنها تبدو كما لو كانت تدور حول الموت، فهي عبارة عن لوحة سوداء تماماً مع خط أحمر رفيع يشكل إطاراً للعنوان المؤلف من كلمة واحدة».يقول روث:
«نعم، أصبت كبد الحقيقة، ذلك أن «إيفريمان» هو اسم بطل سلسلة من المسرحيات الانجليزية التي تعود في الزمن إلى القرن الخامس عشر. وهي مسرحيات رمزية، تنتمي إلى المسرح الأخلاقي، وكانت عروضها تقدم في المقابر، والموضوع الذي تدور حوله هو على الدوام الخلاص. والكلاسيكي منها يقال له «إيفريمان».
ويعود على وجه الدقة إلى عام 1485 ومؤلفها مجهول الهوية، وقد كانت في منتصف المسافة بالضبط بين تشوسر وميلاد شكسبير. وكان الدرس الأخلاقي المتضمن فيها هو «اعمل بجد وانطلق إلى الفردوس» و»كن إنساناً طيباً وإلا فاذهب إلى الجحيم» و«إيفريمان» هو الشخصية الرئيسية.
وهو يتلقى زيارة من ملاك الموت، فيحدث نفسه بأن هذا الملاك هو مبعوث من نوع ما، ولكن ملاك الموت يقول له: «إنني ملاك الموت» ورد أيفريمان هو السطر العظيم الأول في الدراما الانجليزية، حيث يقول: «أوه، يا ملاك الموت، إنك تجييء في أقل الأوقات التي استحضرك فيها إلى ذهني. في أقل الأوقات التي أفكر فيها فيك». وكتابي الجديد هو عن الموت وعن الاحتضار. طيب ما رأيك؟».
أقول: «إن الكليشيه عبارة عن لوحة سوداء». وأتساءل عما إذا لم يكن الناشر قد ساوره الشعور بالقلق حول أن الناس قد لا ترغب في شراء الكتاب بسبب لون غلافه»، فيقول: «لا يعنيني هذا، فأنا أريده على هذه الشاكلة».
أقول له إن الكتاب يبدو من الخارج كما لو كان نسخة من الكتاب المقدس، فيرد: «ها.ها. مدهش. عظيم. أعتقد أنه يبدو مثل شاهد قبر». وينتظر أن أطرح السؤال التالي.أسأله: «هل تخاف الموت؟».
يفكر طويلاً قبل أن يرد، وربما كان يفكر في شيء آخر، ويضيف: «نعم، إنني أخشى أن الموت فظيع. ما ذا عساني أقول خلاف ذلك، إنه يكسر الفؤاد، ويستعصى على التفكير، يستعصى على التصديق. إنه مستحيل.
أسأله: «هل تفكر كثيراً في الموت؟»
يقول: «أجبرت على التفكير فيه طوال الوقت عندما كنت عاكفا على تأليف هذا الكتاب. وأمضيت يومين بكاملهما في مقبرة لأرى كيف يحفرون المدافن. وكنت على امتداد سنوات قد قررت ألا أفكر في الموت أبداً.
لقد رأيت الناس وهم يموتون، بالطبع، رأيت أبواي يموتان، ولكنني لم أعايش الموت باعتباره شيئاً محزناً ومدمراً بلا حدود إلا بعد أن مات صديق طيب لي في ابريل الماضي. وقد كان من أبناء جيلي، ولم يكن في الاتفاق الذي بيني وبينه أنه سيرحل قبلي على هذا النحو، ولم أر الصفحة التي تتضمن ذلك في الاتفاق والأمر كما يقول هنري جيمس على فراش موته: «آه، هو ذا يجيئ ، الأمر الجلل».
أتساءل: «هل أنت راض عن حياتك؟».
يقول: «قبل ثماني سنوات حضرت حفلاً لتكريم ذكرى مؤلف راحل. وكان رجلاً مدهشاً مليئاً بالحياة، بالمرح، بالفضول. وكان يعمل في مجلة في نيويورك، ويعيش قصة حب مع امرأة رائعة. وخلال ذلك الحفل كانت هنا نساء، من كل الأعمار، وقد انخرطن في البكاء جميعهن ، وغادرن القاعة، لانهن لم يستطعن مواجهة الموقف، وقد كانت تلك أفضل إشادة به على الإطلاق..».
اسأله: «ماذا ستفعل النسوة في جنازتك؟»
ينظر إلى خارج النافذة عبر مبان وسط نيويورك، ويقول: «إذا حضرن أصلاً..فربما سيصرخن أمام الجثمان. لعلك تعرف أن العاطفة المفعمة بالشغف لا يغيرها الزمن، ولكنك أنت تتغير، تصبح أكثر تقدماً في العمر، يصبح الظمأ إلى النساء أكثر إيلاماً، وهناك قوة هائلة في أوجاع الحب لم تكن هناك من قبل. والشغف بالحب عميق دائماً، ولكنه يغدو أكثر عمقاً».
أسأله: «قلت إنك تخشى الموت. وأنت في الثانية والسبعين من العمر. مم تخاف؟».ينظر إليّ: النسيان.
أخاف من ألا أكون مفعماً بالحياة، ببساطة بالغة أخاف من ألا أشعر بالحياة، من ألا أشمها. ولكن الفارق بين اليوم وبين الخوف من الموت الذي كان لديَّ عندما كنت في الثانية عشرة من العمر هو أنني الآن لديَّ نوع من السكينة حيال الواقع، فلم أعد أشعر بأن من الظلم البالغ أن أرغم على الموت ارغاماً.
محطات في مسيرة روث
ولد الروائي الأميركي فيليب ميلتون روث في عام 1933 في نيو آرك بولاية نيوجيرسي، وتلقى تعليمه في مدارس نيو آرك العامة وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة باكنيل وعلى الماجستير من جامعة شيكاغو ولم يكمل دراسته لنيل درجة الدكتوراه وعمل بتدريس اللغة الانجليزية وفي وقت لاحق بتدريس الكتابة الإبداعية في جامعي أيوا وبرنستون وتقاعد من مهنة التدريس في 1992 ليتفرغ نهائياً للكتابة.
– كان أول كتاب أصدره روث هو «وداعاً كولومبوس»
– تزوج روث في 1990 من الممثلة كلير بلوم التي تخصصت في أداء الأدوار الشكسبيرية .
– يعد روث الروائي الأميركي الذي حصد أكبر قدر من الجوائز وألوان التكريم والتقدير في تاريخ الأدب الأميركي الحديث، ابتداء من جائزة آغا خان في 1958 مروراً بزمالة جوجنهايم في 1960 وجائزة فوكنر في 1992 وجائزة كارل كابيك في 1994 وجائزة بوليتزر لأعمال القص في 1997 وليس انتهاء بجائزة فرانز كافكا في 2001 وجائزة مديتشي الفرنسية في 2002 وميدالية مؤسسة الكتاب الوطنية في العام نفسه وجائزة سايدوايز في 2005 .