الاثنين ٢٧ حزيران (يونيو) ٢٠١١
بقلم أحمد نور الدين

السعي نحو الغروب

أيها الساعي في الضياء... لهاثك خلف الأمنيات سراب.

كما أن الحياة التي لم تعشها، وتحن إليها بألم وحرقة، هي كذلك سراب. بوسعك أن تعرف هذه الحقيقة وتصدقها فترتاح من عناء السعي وتخلد إلى الأعماق. وبوسعك، إن شئت، أن تعرف الحقيقة وتتجاهلها، كأنها شعار جميل ملون في لوحة إعلان. وتمضي ساعياً إلى الأمام نحو ذلك الضوء الذي يلوح في آخر الظلمة. كم هو مغر ذلك الضوء وكم هو جذاب!

ليت النوم كان موتاً مؤقتاً، فيه السكون مطلق ولا أضغاث. لقد بات النوم أكثر ضجيجاً من قاع الحياة نفسها. بات أكثر جفاء ووعورة. أين تفر حين يكون الجلاد نهاراً والقبر فراش؟! لعل البعض ينظر إليك بقرف حين يسمع هذا الكلام. أليس في العالم بؤس كاف لا يترك متسعاً لهذا الترف من الشكوى؟ صحيح... سينظرون إليك بقرف، وقد يسمعونك بعض الكلام. وسوف يكونون دائماً على حق. أليس الحق في هذا العالم حليف الأكثريات؟!

حين ترفع الشمس غطاء الظلمة عن جسمك لا بد أن تنهض من السرير بعد عناء الليل. لا تستطيع أن تستسلم لإغراء النوم مهما كان قوياً. العالم في الخارج متسعجل ولن ينتظرك. الناس مسرعون في سعيهم خلف الأمنيات وليسوا مستعدين لانتظار أحد. لكن الرحمة تكمن في أن القطار يتسع للجميع ولا يوصد في وجه أحد. قطار الأحلام هذا رحب لدرجة أن كل الناس يحلمون، بقوة وعنف، أحلاماً جبارة ضخمة ومع ذلك لا يتذمر عمال القطار من ضخامة الأحلام، بل يشجعون على تكبيرها أكثر وأكثر.

وأنت شخصياً لست مختلفاً لدرجة أنك لا تملك أحلاماً كالآخرين. بل على العكس، لعلك تسبقهم جميعاً في هذا المجال. ألم تقض عمرك كله حالماً؟ ولم تكن تكتف فيما ما مضى بأن تحلم بل كنت تخرج أحلامك إلى النور من خلال رسمها وإبرازها لكل عين بصيرة. كنت في أيامك الأولى ترسم على جدران البيت خطوطاً وأشباح. كنت ترسم رؤوساً وسكاكين. أنفاً يقطر دماً، وامتداد طويل يشبه شراع قارب. كنت ترسم بيد صغيرة بعض ملامح المستقبل. تحفر في صفحات القدر، دون أن تدر، شيفرة العذاب. وكانت أمك تصاب بالجنون حين ترى ما تقترفه يداك بحق البيت وجدرانه، فتهرع خلفك بالمكنسة تريد ضربك. لكنك كنت سريعاً في الجري حينها وكنت تنجو بجلدك كل مرة.

أما اليوم وبعد مرور السنين، فإنك تنظر بحيرة إلى ما مضى وقلبك يخفق خفقة الخوف دون أن تجرأ على التحديق بقوة وتركيز. لعل ما تذكره من تلك المخطوطات هو القليل، أما الباقي فقد طوته غياهب الذاكرة، ولعل ذلك خير. لا تريد أن تطلع على كامل ما يحويه القدر من خرائط الغربة. لكنك نادم على إلقاء القلم منذ زمن والعزوف عن صنع المخطوطات. فقد أصبحت كملاح يشق البحر الهائج دون شراع، دون دليل أو مجذاف. وفوق ذلك كله، دون مرساة نجاة.
حين يتكاثف الظلام فيصد بصرك عن جوف الخابية ترفع رأسك بما يشبه الشموخ وتأخذ نفساً عميقاً يسمعه من حولك، ويظن بعضهم أنك مغرور. لكنهم حمقى! لا يعلمون أن ما يبدو عليك من شموخ هو في الواقع توق إلى الهواء، ونزوع لاهف نحو السطح بعد أن طال التخبط في الأعماق.

تلتمع في قلب الظلمة حروف وأسماء، فتهرع نحو القراءة كملاذ رحيم. هلمَّ... أمامك المعارف واسعة والعلوم كثيرة لا حصر لها، وكذلك القصص والروايات. لكن الحقيقة هي الحقيقة. والحقيقة تقول أن كل ما تفعله هباء في هباء. فلن تنفعك كل معارف البشر، ولن ينتشلك العلم من قاع الجحيم. كل نظريات الطب، والفلسفة، وعلم النفس. كل قوانين الكيمياء وتفاعلاتها لن تجد معك نفعاً. لن تستطيع أن تقلب التراب ذهباً، لن تحول الوحشة إلى نور وأنس. عب من بحار العلوم ما وسعت. هاهي الصحف منشورة والمكتبات فاغرات. وبعد كل ذلك التثقف والتعلم، سل نفسك في ظلام غرفتك بعد أن يخلد الجميع إلى النوم:" كيف فعلت في ضوء النهار؟!" ستجد أن الجواب هو نفسه كما كان في القديم. قبل أن تكتشف الكلمة المطبوعة، وحين كنت تخترع كتابتك الخاصة وتنشرها على صفحات جدران الطفولة. هو نفسه الجواب الذي يحمل في قلبه نار الحزن، ويلتحف حسرة الوجود.

وحين تأخذ من الكتب كفايتك اذهب إلى الموسيقى. تعلم العزف على العود، واعزف في آخر النهار لحناً يلامس وحشة الغروب. لعل الوتر يحاكي رعشة الحياة في قلبك. ألست تعتقد أن الحياة مجرد فورة وعي يسبقها صمت العدم ويتبعها صمت المجهول؟ إذن فاجلس في الكنبة البالية في غرفة الجلوس، حيث تخترق دموع الشمس الآفلة زجاج الشرفة، واعزف بريشة الألم لحناً يشبه ارتعاش الحياة، لعل الوعي الجامح ينصهر في بوتقة النغم ويغيب في قعر العود. هناك... حيث الظلام مؤنس، تخرج منه آهات مألوفة كأنها تأتي من قلب الذاكرة، لتعيد رسم قصص الماضي التي عشت بعضها وأجلت بعضها الآخر.

وبعد أن تفرغ من القراءة والعزف، سيبقى الصمت، مهداً لاشتعالات الصور. سيزحف الظلام ليخضع العالم في الخارج، وحين ينهي جريمته هناك سيتسلل إلى عالمك الصغير، فيطبق عليك الصمت والظلام، وهذه المرة لا مفر. لن تستطيع الجري كما كنت تفعل في الماضي البعيد لتهرب من أمك الغاضبة. ليس أمامك الآن إلا أن ترقد في صمت ووداعة، تاركاً لمشرط الذاكرة أن يعمل فيك من الداخل ما يشاء. وسوف تتحمل الألم بنفس صاغرة. ثم يذكو النعاس في تلك المساحة البعيدة في عمق الروح. وتجد نفسك تتهاوى إليها بلذة غريبة ككل لذات الأرض: بتبعها على الفور ألم محتوم! وفي داخل النوم، بدل أن تغمرك الراحة والسلام، تجد أنك قد هويت إلى قاع موحش الرؤية فيه غير واضحة تماماً، لكن المشاعر عنيفة لدرجة لا تصدق، وبما لا يقارن مع مشاعر الصحو التي تعانيها في حياتك الحقيقية. هناك الندم حارق يتفشى في أعماق الروح، وما يزيد الأمر حرقة هو أنك في الغالب تجهل سر الندم، فقط تشعر به دون مبررات.

وفي عصر يوم آخر، تقف أمام المرآة في الرواق. لقد تعودت أن تزورها من حين إلى آخر. تنظر في صحفتها فترى حزناً وشيباً وأشياء كثيرة. تتلفت فيما حولك، ثم تعيد النظر من جديد. تود فجأة أن تحطم الصورة تماماً، فلا يبقى منها أثر لعين. لكنك تعرف في قرارتك أن ذلك، ككل الأشياء الأخرى التي تفعلها كل يوم، لا يجد نفعاً... الشيب يعني الزمن، والزمن هو الوحشة بعينها. الوحشة الحقيقية هي الزمن الذي يواظب على السير غير عابئ بألم أو خوف أو حيرة. لا يهم أن تفهم نفسك، أو تفهم العالم من حولك. لا يهم أن تكون قادراً على مجابهة المصاعب التي يبدو أكثرها فوق الاحتمال. لا يهم أن تمتلك أبسط أدوات العيش. لا شيء من ذلك يهم. فالزمن يسير دون توقف، ولا معنى لشيء غير ذلك.

تجد نفسك بعد كل ذلك، ووسط كل ذلك، مدفوعاً بقوة جامحة نحو الغياب والاندثار. ترى الخمر إكسيراً والموت رخاء. لكن ذلك أيضاً لا يهم. المهم أنك موجود، وأنك متألم ما وجدت. الذين لا يشعرون بنار جحيمك اليومي تجدهم أبرع الناس في قذف النصائح الكريهة، يسدونها يميناً وشمالاً كأنها حكم خليقة بإنقاذ الخلائق من شرور مكتوبة. لكنك لا تلتفت إليهم كثيراً، تشعر بكلماتهم تحف بك كحفيف نسائم العصر، ثم تسير وئيداً في شارع هادئ مقفر يتأهب لجنازة النهار. يبلغك وأنت في سيرك الواني نثارضحكات تجهل مصدرها. قد تكون آتية من شرفة مطلة أو شارع مجاور، لكن لا فرق. لقد سمعت الضحكات، وهذا يكفي لتعلم بوجود من يضحكون.
تتابع سيرك المحاذي لسير الزمن، متجهاً نحو غروب جديد، وترفع رأسك في شموخ لتأخذ نفساً عميقاً...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى