

السيف الذهبي
تجمعت السحب وتكاثفت قبل أن ينقض نيزك من السماء على قوات العدو، يكاد يخطف الأبصار؛ لينتشر الفزع والرعب في مدينة القدس، وما هي إلا لحظات حتى برقت السماء، ورعدت وأخذت تقذف بالشهب النارية والصواعق الهائلة،هطل المطر غزيرًا مدرارًا، وهبت الريح عاصفة هوجاء؛ لتظهر في السماء كواكب غريبة تلمع وتختفي، وأخرى ثابتة كأنها تنفث الدخان، وظواهر أخرى من هذا النوع الغير طبيعي،كأنها إنذار إلهي بأن أحداثًا جسامًا ستقع،لم يمض وقت طويل حتى حدثت زلزلة عنيفة؛ لتدمر جزءًا كثيرًا من أسوار مدينة الصلاة العالية؛ ليتيقن الجميع من أن الإله العادل يدير الأمور لصالح المقاومة الفلسطينية.
يمتطى الفارس "يحيي السنوار" صهوة جواده "البراق"؛ ليقف خطيبًا بين جنوده:
أنا كالقيامة ذات يوم آت، أنا مثل عيسي عائد من السماوات لألم الشتات، سأعود بالتوراة والإنجيل والقرآن والتسبيح والصلوات، لن ترقص على رفاتي، لن تمحو تاريخي ومعتقداتي، لن تستولي على ممتلكاتي، لن تتركني للذاريات،بيننا يومًا بإذن الله آت، هذا ما تنبأ به الشاعر،هذا اليوم وبحمد الله قد آتي،استعدوا لصلاة بخمسمائة صلاة، استعدوا لمقابلة الله،لم يكن دائمًا تحرير الأقصى أغلى أمانينا؟
(أرواحنا فداءك يا قدس) هكذا ردد كل أفراد الجيش الفلسطيني الشجاع؛ليلوح السينوار بسيفه المستقيم ذا الحدين عدة مرات،متابعًا:كانت وصية الناصر صلاح الدين رحمة الله عليه، وهو في طريقة إلى هنا، إلى القدس العتيق، أن يدفن سيفه معه إذا رُزق بالشهادة،أ نا أيضًا أطالبكم بذلك،"وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأى أرض تموت،إن الله عليم خبير"صدق الله العظيم.
يصمت قليلًا؛ ليسود صمت جنائزي مهيب،يستعرض جنوده بتمعن، قبل أن يتابع مرة أخري:
ها هي اللحظة التي كان الأجداد والآباء والأمهات والأبناء، بل الأمتين العربية والإسلامية في انتظارها، لا تقتلوا وليدًا،ولا كبيرًا، ولا امرأة، لا تقربوا نخلًا، ولا تقطعوا شجرًا، ولا تهدموا بناءًا، لا تجهزن على جريح، ولا تتبعن مدبرًا، ولا تقتلن أسيرًا، إياكم والنهب والسلب، لا تفعلوا مثلهم، هم أمة ملعونة مغضوب عليها، لقد تعاملت معهم عن قرب، أنتم بالطبع تعرفون أن معظم شبابي قضيته في زنازينهم المظلمة، فلندخلها بإذن الله تعالى ركعًا، متواضعين، شاكرين للمولى عز وجل على نعمة النصر، توكلنا على الله.
يندفع القائد بجواده البراق، وخلفه الجميع، يردد بحماس"الله أكبر، الله أكبر"، لم يتخلف أحد، كيف يتخلف وهو اليوم الذي ترنو إليه الأجفان، الذي تهون من أجله مرارة الأكفان، الذي يُنطق فيه بدون فم ولا لسان ولا أسنان.
بمجرد الوصول إلى حدود عاصمة كل الأديان، يتوقف يحيي ويأمر الجيش بالتخيم، انتظارًا لشروق شمس يوم الفصل،يوم لن ينساه التاريخ، فهو لا يقل روعة عن اليوم الذي حُبست فيه الشمس لنبي الله "يوشع بن نون" عليه السلام.
تبددت السحب من السماء مع انفراجة أسارير الفجر بفضل الشمس التى كانت محتجزة خلف الغمام؛ ليتقابل الحق والباطل وجهًا لوجه، يشتبك الجيشان، يتقاتلًا قتالًا عنيفًا، فكانت معركة النصف الأول من النهار معركة فرسان، فلما أعتدل النهار تزاحف المشاة؛ ليشق البطل السنوار الصفوف باتجاه قائد العدو المتغطرس حتى يخلص إليه؛ ليتبارزا وجهًا لوجه، فيضرب يحيي بسيفه البتار خوذة هذا القائد؛ ليغرسها في رأسه من ثقل السيف العربي؛ ليصرخ المتغطرس,ويولول مثل النساء، يعاوده يحيي بعدة ضربات حاسة لكل أجزاء جسده المكشوفة، كالذراعيين والساقين حتى يجهز عليه، صائحًا في ثبات،
وبأعلى الصوت: الله أكبر.
ليقع نبأ ذهاب هذا القائد إلى الجحيم وقع الصاعقة على رءوس مرتزقة جيشه؛ ليمطروا الجيش الفلسطيني من جميع الجهات بكل أنواع الأسلحة التى زودها بهم أعداء الله في الأرض، مما يؤدى إلى اضطراب صفوف أهل الحق، وانكشافها؛ليحمل عليهم العدو مجددًا، المرة تلو المرة حملة رجل واحد، إلا أن الفارس المحنك، حفيد سيف الله المسلول،
يستطيع أن يثبت بالجيش في الميدان حتى يأتي الليل، وتحت ظلمته، يأمر جنوده بتغير ملابسهم وتبديل أماكنهم، يستبدل ميمنة الجيش بميسرته، مقدمة القلب بالمؤخرة، متعمدًا أن يصنع ضجة صاخبة وجلبة قوية، متأسيًا بأستاذه "خالد بن الوليد"، وما يكاد الخيط الأبيض يتبين من الخيط الأسود من الفجر،حتى يعاجل العدو بهجمات سريعة متتالية وقوية؛ليدخل في روعهم أن هناك إمدادات كثيرة وصلت إليه، ونجحت الخطة؛ إذ بدا لهم صباحًا أن الوجوه التي تواجههم جديدة،لم يروها من قبل،فأيقنوا أن جيشًا جديدًا قد نزل إلى ميدان
القتال؛ ليبداوا في التراجع بعض الشيء؛ ليضغط القائد يحيي بقلب الجيش قليلًا إلى الأمام، في محاولة منه لتخفيف الضغط على طلائع الجيش التي توشك أن تُباد،وأثناء ذلك يبصر سهم يصوب نحوه؛ليشد عنان البراق، يوثب الجواد قائمًا على رجليه، ينشب السهم في صدره،
يتداعى؛ لينزل يحيي، يربت عليه بحب، قائلًا: نعم الصديق الوفي كنت، اسبقني عزيزي في أمان، حتى نلتقي مرة أخرى بإذن الله.
يتأمل عينيي البراق حتى يفارق الحياة، تدمع عينيه، يظل هكذا؛ ليفيق على هجوم كاسح للعدو، فيقاتل راجلًا حتى يجيء له بجواد أخر، حتى انتصف النهار لتلوح بوادر الهزيمة؛ ليتوجه بكل نبضة في قلبه إلى السماء، يرفع أكف الضراعة لأعلى؛ليقول في ذل وانكسار:
يا إلهي، أستحلفك بضعفي وقوتك، أقسم عليك بعجزي واقتدارك، إلا جعلت لي مخرجًا من ظلمتي إلى نورى، ومن نورى إلى نورك، اللهم أنت عضدي، وأنت ناصري، وبك أقاتل.
وأثناء ذلك يأتي المدد العظيم من داخل مدينة القدس، ليتم حصار مرتزقة العدو بين الجبهتين، ليضطربوا، فيأمر السنوار جنوده بإشباعهم ضربًا بالسيوف، وطعنًا بالرماح، حتى امتلأ الطريق إلى المدينة المقدسة بجثثهم وأشلائهم.
كانت ملحمة سجل فيها الجميع بطولة عظيمة، شق الحديد الحديد، وأكلت النار النار،
واشتبكت الرماح بالأضلع، تمرغت الأنوف بالتراب، يا لها من معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، انتهت المعركة، وقد تهللت الوجوه فرحًا واستبشارًا؛ ليخر القائد العظيم ساجدًا للرب،شاكرًا على نصره، قبل أن يعاود رفع هامته، لتغطى الدموع وجهه،بعد أن أطال في السجود،قائلًا بصوت دامع:
إني أنحني أمامكم بقامتي شكرًا وعرفانا، راكعًا للإله الذي منّ علينا بالنصر،الله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، إياكم والزهو بما صنعتم، اسجدوا للإله فهو فقط من يستحق الشكر.
يتوقف قليلًا عن الكلام؛ ليسير بين جيشه، متابعًا: ربوا الناشئة على حب أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، أرض المحشر والمنشر، أزرعوا فيهم بذرة الإخلاص والحب،كما تزرعون شجر الزيتون، لا تسخروا من أحلامهم مهما كانت صغيرة، فإن أحلامهم تكبر كما يكبرون، وعيونهم لها تتسع كاتساع الكون الرحيب، كل ما عليكم هو تذكيرهم من فترة لأخرى، بالصورة القاتمة لأيامنا البائسة في ظل احتلال هؤلاء الملاعين، ذكروهم بالدماء التي سالت، الدور التي خُربت،النساء التي ترملت، الأطفال الذين تيتموا، ذكروهم دائمًا بكل ذلك، حتى لا نغفل ولا نضعف، فأعدائنا لم ولن تخبوا أطماعهم الدنيئة في بلدنا الجميلة.
وإذ بسهم صهيوني غادر، يصيب قلب البطل، كعاداتهم مع الرسل والأنبياء، ما بالكم بباقي البشر؛ لتهتز عينيه، ترتجف مثل كفتى ميزان، يصمت، يبتلع ريقه بصعوبة، بعد أن يحيط به الجميع في لوعة، البعض يصرخ، البعض يبكى، والبعض يبحث عن مسعف أو طبيب، أما هو فقد زين المسجد الأقصى حدقتيه؛ ليشير بيده، فيصمت الجميع؛ ليصيح: يا لها من رحلة طويلة، أعتقد أنني أديت مهمتي فيها على خير وجه،وسلمت الراية لمن يستحق حملها،لكم انتم أبناء شعبي الكرام،ولم يعد هناك مفر من اللقاء المرتقب، أيها الموت، أنت مخلوق مثلي، لا حاجة لي إليك، فما أنا بمتعلق بالحياة حتى أخشاك، وما أن بكارهها حتى أحتاج إلى معونتك، الحياة عندي والموت سواء، ليس هذا تقليل من شأنك فلا أجرؤ، فما حاولت مرة أن أفعل ذلك مع بشر ضعيف، فما بالك بك أنت أقوى المخلوقات، لذا أُعلن استسلامي لك، ها هي روحي،تلك الروح التى حملتها دائمًا على كفى من أجل وطني، رغم عدم وجود هذه الكلمة البغيضة في قاموسي، وقاموس كل أبناء شعبيي الفلسطيني العظيم.
ومع سكرات الموت الأخيرة للبطل السنوار؛ يستعرض أبناء وطنه، جنود جيشه، نبت أرض فلسطين المباركة، ناطقًا بحروفه الأخيرة: أدعوا الله الواحد الصمد، أن أكون جديرًا بالموت كما كنت جديرًا بالحياة، ها قد وصلت إلى نهاية الرحلة الطويلة، الشاقة، ولم يعد لدى أي قدرة على المراوغة.
يمد يده بصعوبة ليتحسس سيفه، قبل أن يتابع بوهن شديد:
لا تنسوا وصيتي، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله.