الصورة الشعرية وخصوصيتها في شعر فاروق جويدة
تعتبر الصورة الشعرية من أهم مقومات فن العربية الأول إلي جانب اللغة والإيقاع فهي التي تميز بين الشعر الحقيقي و بين النظم المصمت.. فاللغة والإيقاع ليسا كافيين لإنتاج شعر جيد، وإنما يجب تضفيرهما بالصور الشعرية الطازجة لكي يرتقي الإفراز الإبداعي إلي لغة الشعر الحقيقية، وسوف ينصب اهتمامنا في هذا المبحث حول الصورة الشعرية وخصوصيتها في شعر شاعرنا الكبير فاروق جويدة تاركين اللغة والإيقاع لمناطق بحثية أخرى.
مما لا شك فيه أن الخيال هو التربة الخصبة لكل إبداع شعري مدهش، وإذا أوغلنا في شعر الشاعر الكبير فاروق جويدة نجد أن صوره الشعرية تمزج بين البساطة والتكثيف، وبين الإطلاق والتحديد في توافق رائع جعل من شعره الملاذ الجميل لجمهور عريض من عشاق الشعر.
و لنقرأ معا بعضاً من الصور الشعرية الرائعة من خلال قصيدته (لا تنتظر أحداً.. فلن يأتي أحد..) حيث يقول معبراً عن الواقع المؤلم لحال أمتنا:
لا تنتظر أحدا / فلن يأتي أحد..لم يبق شئ غير صوت الريحو السيف الكسيح / ووجه حلم يرتعد..الفارس المخدوع ألقى تاجهوسط الرياح وعاد يجري خائفاًالفارس المخدوع في ليل الشتاءيدور مذعوراً يفتش عن سندفي ليلة شتوية الأشباحعاد الفارس المخدوع منكسراًيجر جواده / جثث الليالي حولهغير الندامة ما حصدترك الخيول تفر من فرسانهاكانت خيولك ذات يومكالنجوم بلا عددإلى أن يقول:الفارس المخدوع ألقى رأسهفوق الجداروكل شئ في جوانحه همدلا شئ للفرسان يبقىحين تنكسر الخيولسوى البريق المرتعدوعلى امتداد الأفق تنتحب المآذنو الكنائس.. و القبابو صوت مسجون سجدهذا الزمان تعفنت فيه الرؤوسو كل شئ ضمائرها فسدوفي نهاية القصيدة يقول الشاعر فاروق جويدة:الفارس المكسورينتظر النهاية في جلدعينان زائغتان / وجه شاحبوبريق حلم في مآقيه جمدلا تنتظر أحدا / فلن يأتي أحدفالآن حاصرك الجليد / إلى الأبدوإذا تأملنا قول شاعرنا:لم يبق شئ غير صوت الريحو السيف الكسيح / ووجه حلم يرتعد
نجده قد عبر عن واقع أمتنا المؤلم في صورة شعرية رائعة عبر فيها عن الفراغ المؤلم، وعن السيف الخشبي الذي لا جدوى منه، وعن الحلم الذي يرتعد من قسوة هذا الواقع المؤلم الذي تعيش فيه هذه الأمة.
وقد جاءت هذه الصورة الشعرية معبرة تماماً فلم يعد هناك ما تنتظره.. ولن يأتي أحد.. كما قال شاعرنا في بداية قصيدته وفي نهايتها.
و الصورة الشعرية إما مطلقة وإما محدودة وهي إذا جاءت مطلقة فإنها تعطي الفرصة للمتلقى لكي يتفاعل معها ويُعمل فكره في التجربة الإنسانية التي يطرحها الشاعر وخير مثال علي هذه الصورة المطلقة ما طرحناه من قبل في صدر هذا المبحث حيث يقول شاعرنا (لم يبق شئ غير صوت الريح) وأيضا حين يقول (ماذا سيبقى للجواد إذا تهاوى) ؟
إلي هنا تعتبر هذه الصورة الشعرية مطلقة، ولو أن شاعرنا ترك هذه الصورة كما هي ولم يضف عليها شيئا لكانت من أروع الصور الشعرية في هذه القصيدة لأنه طرح استفهاماً للمتلقى وكان يجب علي شاعرنا أن ينتظر الإجابة.. كل حسب ثقافته ومخزونه الفكري والمعرفي والتاريخي ولكن شاعرنا حدد هذه الصورة و قلل من طازجتها حين قال:
غير أن يرتاح في كفن.. ولحد
فهنا تم الحكم علي الجواد بالموت وبالتالي حرم المتلقي من متعة التفكير في مصير هذا الجواد.. وللوصول إلي حل من وجهة نظر شاعرنا أو بمعني آخر فقد وضع شاعرنا النهاية للمشهد الدرامي ولم يترك النهاية مفتوحة للجميع، ومن هنا نعرف الفرق بين الصورة المطلقة التي يترك فيها المبدع المشهد النهائي للمتلقي و بين الصورة المحددة التي يحدد فيها نهاية المشهد.
وصورة أخرى من نفس القصيدة نجد شاعرنا قد قال:
لا شئ للفرسان يبقىحين تنكسر الخيول
ولو أن شاعرنا اكتفى بهذا المقطع لظلت الصورة مطلقة ولكنه حددها حين أكملها بقوله:
سوى البريق المرتعد
وننتقل من الصورة المطلقة والصورة المحددة إلي الصورة القصيرة، والصورة المركبة ولنقرأ ونتأمل ما يقوله شاعرنا الكبير فاروق جويدة في نفس القصيدة:
الفارس المكسور ينتظر النهاية في جلد
وهي تمثل صورة شعرية قصيرة، ولكن عندما قال شاعرنا:
عينان زائغتان / وجه شاحبوبريق حلم في مآقيه جمد
هنا انتقل من الصورة القصيرة إلي الصورة المركبة حيث العينان الزائغتان، والوجه الشاحب، وبريق الحلم الذي تجمد في المآقى، وهذه الصورة الشعرية المركبة إنما تعطي مساحة تصويرية أوسع.. تجعل المتلقي يتعامل مع التجربة الإبداعية الشعرية علي طريقة فن السينما حيث المشاهد المتتالية التي تُعمّق المعنى وتوضح الفكرة في عين وعقل المشاهد.
ويختتم الشاعر القصيدة كما بدأها بقوله:
لا تنتظر أحداً / فلن يأتي احدفالآن حاصرك الجليد / إلي الأبد
وهذه نظرة مُعتمة للقضية لأن هذه الصورة قد قضت علي بقايا الأمل المتبقي لهذه الأمة مع أن شاعرنا بطبيعته من المتفائلين والمؤمنين بانتصار الحق و بانحصار الظلم مهما طال ونلمحه يؤكد هذا المعني في قوله:
لا تحزني أم المدائن لا تخافيسوف يولد من رماد اليوم غدفغدا ستنبت بين أطلال الحطامظلال بستان.. ووردو غدا سيخرج من لظى هذا الركامصهيل فرسان.. ومجد
فهذا المقطع الشعري تفيض صوره الشعرية أملاً وإيماناً بالنصر والتحرير، وسوف يزول هذا الحزن مهما طال، وسوف يخرج من رماد هذا اليوم غد مشرق، وسوف ينطلق من ركام هذا اليأس الصهيل والمد.
وفي قصيدة أخرى في حب الوطن بعنوان (حتي الحجارة..أعلنت عصيانها) و التي استوحاها شاعرنا الكبير فاروق جويدة أثناء عملية الهدم لكوبري أبو العلا حيث توقفت أدوات الهدم فجأة أمام حجر ضخم في قلب النيل.. قال:
حجر عتيق فوق صدر النيل / يصرخ في العراءوقف الحزين علي ضفاف النهريبكي في أسى و يدور في فزعو يشكو حزنه للماءيبكي علي زمن تولىكانت الأحجار تيجانا وأوسمةتزين قامة الشرفاءيترنح المسكين بين الخوف والإعياءويعود يسأل:أين العصافير التي ارتحلتوكانت كلما هاجت بها الذكرى تحن إلي الغناء ؟أين النخيل يعانق السحب البعيدةكلما عبرت علي وجه الفضاءأين الشراع علي جناح الضوءو السفر الطويل ووحشة الغرباء ؟؟أين المواويل الجميلةفوق وجه النيل تشهد عرسهوالكون يرسم للضفاف ثيابها الخضراء ؟حجر عتيق فوق صدر النيل يبكي في العراءحجر.. ولكن من جمود الصخر ينبت كبرياءحجر.. ولكن في سواد الصخر قنديل أضاءحجر يعلمنا مع الأيام درسا في الوفاء
فهنا أتى الشاعر فاروق جويدة بالعديد من الصور الشعرية الاستفهامية المتتالية وصاغها علي لسان الحجر المشار إليه، وهذه الصور الشعرية المتتالية التي بدأت بأداة الاستفهام (أين) تبحث عن أشياء مفقودة فتارة يسأل عن العصافير التي رحلت، وتارة يسأل عن النخيل الذي كان يعانق السحب البعيدة، وتارة يسأل عن الشراع المسافرة علي جناح الضوء، وتارة أخرى يسال عن الدموع التي تطل من مآقيها، وأخيراً نجده يسأل عن المواويل الجميلة التي كان يشهدها وجه النيل الرائع في زمنه الجميل.. هذه الصور الشعرية الاستفهامية المتتالية تعتبر من خصائص الصورة الشعرية لدي شاعرنا الكبير فاروق جويدة وهي تنتمي للصور الشعرية المركبة والمطلقة في آنٍ واحد.
وتعالوا نتأمل هذا البناء الشعري الرائع في قصيدة بعنوان (وكانت بيننا ليله) حيث يقول:
وكانت بيننا ليلهنثرنا الحب فوق ربوعهاالعذراء فانتفضتوصار الكون بستاناسبحت العمر بين مياهها الزرقاءثم رجعت ظمآناوكان الموج في صمت يبعثرناعلي الآفاق شطآناووجه الليلفوق الغيمة البيضاء يحملناوكانت فرحة الأيامفي عينيك تنثرنيعلي الطرقات ألحاناوفوق ضفافك الخضراءنام الدهر نشواناًوكانت بيننا ليلهوكان الليل كالقناص يرصدناويسخر من حكاياناتعانقناوصوت الريح في فزع يزلزلناويلقي في رماد الضوءيا عمري بقاياناوسافرنا.. وظلت بيننا ذكرىنراها نجمة بيضاءتخبو حين نذكرهاوتهرب حين تلقاناوتحكي كل ما كاناوكانت.. بيننا ليله
إذا نظرنا إلي البناء الشعري في هذه القصيدة التي اجتزعنا منها المقطع السابق نجده يتميز بالبساطة والخصوصية والرومانسية، وهذه الصفات إنما هي من أهم مميزات شعر الحب الإنساني لدى شاعرنا فاروق جويدة ربما هذا يفسر لنا أيضا سر جماهيريته، إذ أن تجاربه الشعرية تنأى عن التعقيد وتتوسط المسافة بين الغموض والمباشرة مما يجذب إليه شرائح كثيرة من القراء فلنتأمل قوله في بداية القصيدة:
نثرنا الحب فوق ربوعهاالعذراء فانتفضتوصار الكون بستانا
هذه الصورة الشعرية تنتمي إلي الصور الشعرية المركبة التي امتدت لمسافة إيقاعية طويلة مما عمّق الصورة لدى المتلقي.. فما أروع هذه الجذور التي نثرها شاعرنا فانتفضت وصار الكون منها بستانا
ثم يختتم شاعرنا هذه القصيدة بأروع ما يكون الختام حيث قال:
وسافرنا.. وظلت بيننا ذكرىنراها نجمة بيضاءتخبو حين نذكرهاوتهرب حين تلقاناتطوف العمر في خجلوتحكي كل ما كاناوكانت.. بيننا ليله
هذه الصورة الشعرية المركبة تجمع صوراً متلاحقة تمثل عدة مشاهد سينمائية توضح المعنى وترتقي به إلي سماوات الإبداع.
ومن أروع ما طرحه شاعرنا الكبير فاروق جويدة في هذه القصيدة التكرار الذي أضاف للمعنى وأثرى موسيقى هذه القصيدة فقد كرر جملة (وكانت بيننا ليله) علي مسافات مناسبة في القصيدة والتي تحمل نفس العنوان(وكانت بيننا ليله) وهذا التكرار لم يخل بالبناء الشعري للقصيدة بل أعطاها أبعاداً تأثيرية وموسيقية جيدة.
وإذا انتقلنا إلي قصيدة أخرى بعنوان (ألف وجه للقمر) نجد شاعرنا الكبير فاروق جويدة يقول:
في كل عام..تشرقين علي ضفاف العمرتنبت في ظلام الكون شمسيحتويني ألف وجه للقمرفي كل عام..تشرقين فراشة بيضاءفوق براعم الأيامتلهو فوق أجنحة الزهرفي كل عام..أمضي إليك علي جناح الريحيسكرني عبيركثم يتركني وحيداً في متاهات السفرفي كل عام..كنت أنتظر المواسمقد تجئ.. وقد تسافر بعدماتلقي فؤادي للحنين..وللظنون.. وللضَّجرْفي كل عامكان يحملني الحنين إليكأغفو في عيونك ساعةوتطل أشباح الوداعنقوم في فزع..وفي صمت التوحد ننشطر
وهكذا تنساب الرومانسية في كل شرايين وأوردة شاعرنا فاروق جويدة فالمدرسة الرومانسية هي أهم المدارس الفنية التي يعتنقها شاعرنا وربما يكمن هنا أيضا أحد أسباب جماهيريته العريضة فالرومانسية هي الفطرة التي فُطِر عليها الإنسان وبالتالي فإن الإنسان مهما اختلفت معاييره الثقافية تكمن بداخله روح الرومانسية التي تجد صداها فتنطلق كلما ارتوت بمياه الشعر الرومانسى المدهش، وهذا ما يفعله شعر فاروق جويدة في نفوس الجماهير العريضة من القراء فيشعرون وكأنه يكتب عنهم ولهم في نفس الوقت.
وما أروع الصور الشعرية وأعمقها في القصيدة السابقة حيث تمتد هذه الصور لمسافات طويلة فمثلا: الصورة الأولي تبدأ من (في كل عام) وهو السطر الأول من القصيدة حتي السطر الرابع الذي يقول (يحتويني ألف وجه للقمر)
والصورة الشعرية الثانية تبدأ من السطر الخامس (في كل عام) وتنتهي بنهاية السطر التاسع الذي يقول (ويغزل شوقنا المجنون أوراق الشجر)
والصورة الشعرية الثالثة تبدأ من السطر السابع عشر (في كل عام) وتنتهي بنهاية السطر الحادي والعشرين (ثم يتركني وحيداً في متاهات السفر)
والصورة الشعرية الأخيرة تبدأ من السطر قبل الأخير في صفحة 132 (في كل عام) وتنتهي في السطر الرابع في صفحة 133 وفي صمت التوحد ننشطر..) في (مختارات من شعر فاروق جويدة ـ قصائد للحب) والصادر عن مكتبة الأسرة عام 2003
وهذا ما يميز شعر شاعرنا الكبير (فاروق جويدة) حيث الصورة الشعرية المركبة والممتدة والبسيطة والرومانسية، ولأنه أحد أبناء هذا الشعب الطيب فقد عبر بصدق عن هموم الإنسان والوطن.
أهم المراجع:
– مختارات من شعر فاروق جويدة - قصائد حب- مكتبة الأسرة 2003 – رقم الإيداع بدار الكتب والوثائق القومية المصرية 13268/2003
– مختارات من شعر فاروق جويدة - قصائد للوطن- مكتبة الأسرة 2003 - رقم الإيداع بدار الكتب والوثائق القومية المصرية 13281/2003