الطبيعة في «أنشودة القسام» لناهض الريس
تمثل الطبيعة رافداً مهماً من روافد التجربة الشعرية، فهي الملهم الأول للشعراء، يصدرون عنها في إبداعاتهم.
ويعد الشاعر ناهض الريس [1]
واحداً من الشعراء الفلسطينيين الذين التفتوا في شعرهم إلى الطبيعة ومشاهده، فالدارس لكثير من دواوينه يكتشف أن للطبيعة فى شعره حضوراً متميزاً، ولعل سر ذلك يعود إلى معايشته الكاملة لها منذ طفولته الباكرة، فقد عاشت الطبيعة فى دمه، وسكنت قلبه وعقله، وحركت ذكرياتها أشجانه وألهبت خياله، فهو يكتب عن معايشه ومعاناة؛ لذا جاءت مستقاة من الواقع الذي عايشه وتأثر به حيث الطبيعة العامرة، والريف الجميل الخلاب والبيارات والكروم المثمرة، والبحر وشواطئه ورماله الناعمة.
لقد ربط الشاعر موقفه من الطبيعة ومشاهدها بالواقع السياسي الذي مر به وطنه من معاناة لظلم الاحتلال،وقسوة الجلاد، عاش التشريد والقتل والتهجير، عاش الثورة والانتفاضة والجهاد والمقاومة ضد المحتل الغاصب، وقد انعكس هذا الإحساس في نظرته إلى الطبيعة وعناصرها ومفرداتها.
تطمح هذه الدراسة إلى الكشف عن موقف الشاعر من الطبيعة، وبيان طرق توظيفه لعناصرها فى التعبير عن تجربة الذاتية، ورؤيته الإنسانية؛ بقصد تجلية أهم السمات الموضوعية والفكرية التي تبدت فى أثناء تعامله مع الطبيعة وملامحها، وستقف الدراسة عند أربع من تلك الظواهر تتمثل في: بناء القصيدة، وصورة الأرض، وتوظيف الرمز، وأنسنة الطبيعة.
أ ـ بناء القصيدة
المتأمل في البناء الفني للقصيدة عند الشاعر يجده بناءً متماسكاً قائماً على توظيف العناصر الفنية المتلاحمة، لخلق لوحات شعرية ومشاهد كلية موحدة.
فالمتلقي يلتقي عدداً من عناوين القصائد قد استلهمت من مشاهد الطبيعة وعناصرها، فالعنوان هو المفتاح الذهبي الذي يلج المتلقي من خلاله إلى عالم النص، وهو الذي يقدم له دلالات موحية، مثيرة، وتأخذ بيده نحو هاجس التوغل في كنفه العمل الأدبي.
ففي قصيدة «كل نهر يعود إلى البحر» يتجاوز العنوان مفرداته المستقاة من عناصر الطبيعة (النهر والبحر)؛ ليعبر عن المغزى الكامن من وجود الانسان ذاته، ويجسد في الوقت نفسه، ثنائية الميلاد والموت.
فمن خلال العنوان يكشف النص من مغزاه وأبعاده الحقيقة، حيث اتخذ الشاعر من وفاة الأديب الفلسطيني عبد الكريم السبعاوي معادلاً يعكس تجربة الذات الشاعرة المهمومة المسكونة بهاجس قضايا الإنسان الفلسطيني وقضايا الوجود والموت والمصير يقول:
كل نهر يعود إلى البحربعد السواقي وزقزقة الطيربعد المسافات تعد المحطاتيرجع للبحر ، يرجع للبحر، يرجع للبحروأنت فلسطينموجك قبلي وبعديوطنك مهدي ولحديولست أطيق، ولست تطيقينأن لا أعود إلى البحرأن لا أعود إلى الطين
وظف الشاعر مشاهد الطبيعة وعناصرها من بحر ونهر وطين فى تصوير مشاعره ونقل تجربته الشعورية التي انطلقت من الخاص لتستغرق العام، من خلال الصور الشعرية الجزئية التي تصب في صورة كلية ممتدة، فتغدو القصيدة كلها لوحة شعرية واحدة.
وثمة مظهر آخر يتصل ببناء القصيدة اللوحة أو المشهد المتكامل عند الشاعر يتمثل فى الاتكاء على عناصر الطبيعة في بناء مقدمات بعض القصائد، فمقدمه بعض القصائد جاءت مؤسسة على عناصر الطبيعة ومشاهدها، يقول فى قصيدة له بعنوان " الميلاد":
في مدن البحر المتوسط يسمع صوت الموج دعاءيرفعه العمق اللجي الى الشمس هتافا يصرخ فيهأو يهمسه حتي يصبح تهويم حنينالدفء وطين الأرض اللازب والماءوالروح التائه يبحث عن جسد يؤويه
وظف الشاعر عناصر الطبيعة وكائناتها في تجسيد رؤيته التي اندغم فيها الذاتي بالموضوع من خلال صور شعرية تعاضدت فيما بينهما لترسم لوحة كلية ممتدة.
ويحق للمتلقي أن يتساءل هل فى هذا عودة إلى الوراء إلى المرحلة التي كانت فيها الطبيعية مقدمة للقصيدة أو صوراً يتكئ عليها الشاعر في رسم الموضوعات الشعرية؟
قد يكون هذا صحيحاً وليس العودة إلى الأشكال السابقة مما يعيب مسيرة الشاعر، ولكن الذي لاشك فيه أن هذه العودة لم تكن سوى تشابه ظاهري.
إذ يظل لكل شاعر أسلوبه الخاص ونهجه المميز الذي يعكس تجربته الشعرية ورؤيته الذاتية.
وثمة مظهر ثالث من مظاهر استثمار مشاهد الطبيعة في البناء الفني للقصيدة يتجلى في توظيف عناصر الطبيعة في المشهد الدرامي العام للقصيدة، فالطبيعة لا تكون إطاراً لحركة درامية فحسب، وإنما تشكل جزءاً لا يتجزأ من ذلك المشهد، وفي هذا تماهٍ واندغام بين ما هو غنائي، وما هو درامي، يقول الشاعر محاوراً شيخ المجاهدين عز الدين القسام في قصيدة له بعنوان «القسام يصعد إلى أحراش يعبد» .
هذي خيل المعتصم تحمحم في يعبدأترى يا شيخسيوف صلاح الدينأترى حطينْالشيخ يقول: أرى شجراًوأرى مطراًوأرى شلالاً منهمراًوأرى تاريخاً منتصراًيأتي من خلل ضباب وركاموتمزق أعلامتأتيك ينابيع الجبلوأشجار التينتأتيك مغارات الجبلونبت اليقطينيأتيك زبيب الجبلويأتيك الصوان
وعلى الرغم من أن الشاعر أكثر من الرموز اللغوية: ينابيع الجبل ، أشجار التين، نبت اليقطين، زبيب الجبل ومغاراته، الصوان وغيرها، وكلها رموز تصب فى مجري واحد، إذ تكوّن إحساساً بتعاطف الطبيعة مع الثوار واحتضانها لهم، فإن الصورة صورة الحركة المستمدة من صور الطبيعة ومشاهدها قد تضافرت فيما بينهما،وتلاحمت، وهذا التلاحم أفضى إلى استشفاف المرموز إليه، كما أن بعض عناصر الصورة كانت أكثر ارتباطاً بالتراث سواء بالتراث الديني في قول الشاعر(يأتوك رجالاً) المستوحاة من النص القرآني، والتي توحي بسرعة التلبية وصدقها أم بأوجه البلاغة المعروفة من استعارة وتشبيه أو كناية.
وتغدو العلاقة بين الأرض / الوطن والإنسان في شعر الشاعر ناهض الريس علاقةً حميمية ومشيمية، فالأرض تشارك الانسان الفلسطيني أحزانه وتسنده، تتضامن معه، وتحنو عليه شهيداً، وتقسو على عدوه الغاصب، وتلعنه فحين يتحدث عن الثوار والمقاومين يقول:
رجعوا في فلوات الليل جياداخلع الليل سواداضحك النجموجاء البدر، ليغسل فى المتوسطجسم شهيد كفنه اللهبجلال ثم استدناهوالشمس تعود كما كانت بيضاءتحمر على الغاصبلكن تحنو للطفل المنتظر أباهما بين الشاطئ والنبعوالصخر يلين لمرآهالصخر يلينْ...
ولا يكتفي الشاعر بالالتحام بالأرض والاندغام بها والغناء لها، وإنما يستمد منها البقاء، ومن جذورها التشبث والإصرار، فيغدو حيالها كالطفل الرضيع يتغني بحبها وجمالها ويقف منها موقف العاشق يقول:
يا وطنييا ثدياً أرضعنيورفيقا لاعبني،وحبيبا عانقنييا روحي... يا بدنييا وطني... يا وطنيدع من أزهارك زهراً مياساًيتخلل وجهي في لحظات الخطرحتي أضحك بحنان من هذا الطفل اللاهيدع من يحرك موجاً وشواشاًينشد أهزوجته الأبدية في ساعة نوميحتي أحلم أني والشمس أنام على مهدِ
ب - الرمز
استثمر الشاعر إمكاناته الفنية من أجل أن يجعل كل عنصر من عناصر الطبيعة بحر أو زيتونة رمزاً وقيمة فنية.
فهو لا ينظر إلى تلك العناصر على أنها قيم مجردة فى الطبيعة، وإنما استولد منها قيماً فذة جديدة، تمثل الأصالة والعراقة والشموخ والالتحام الأوثق والأبقي الذي يجسد الأرض /الوطن عبر ألوف السنين. ومن رموز الطبيعة التى ترددت فى قصائد الديوان، وكان لها حضور متميز رمزُ البحر ورمز الزيتون.
رمز البحر:
يمثل البحر بكل ما يشتمل عليه من شواطئ وصخور ورمال وأمواج ومراكب وموانئ بعداً رمزياً يعكس واقعاً نفسياً، ويحق للمتلقي أن يتساءل ما رمز البحر لدى الشاعر؟ هل هو رمز للوطن ولغزة؟ هل هو رمز للعطاء والثورة؟ هل هو رمز الرحيل والهجرة والطغيان؟ أم هل هو رمز لهذه جميعها؟
الناظر إلى رمز البحر بوصفه أحد عناصر الطبيعة، يجده يؤدي دوراً حاسماً في بناء كثير من قصائد الشاعر، فالعلاقة بين الشاعر والبحر علاقة جدلية حميمية، ولا غرابة في ذلك.
فارتباط الفلسطيني بالبحر ارتباط أصيل، يضرب فى أعماق التاريخ، وغزة إحدى المدن المطلة على البحر الأبيض المتوسط، فالبحر يشكل جزءاً من حياة أهلها ووجودهم، إنهم يعشقون البحر ويرتادونه، والذي لا يعيش فيهم بجوار البحر يكون قريباً منه، من هنا، فإن الفلسطيني عندما يتذكر البحر أو يراه، فإنما يتذكر جزءاً عزيزاً من الوطن. يقول الشاعر مخاطباً اللاجئ الفلسطيني الذي تحول إلى مقاوم ثائر:
البحر هو البحروهذا الميناء الثغرثغر محموم فيه نشاطثغر يسهر فيه رباطلم تبق نفور إلا في قبضة أعداء.
وبقدر ما كان الشاعر منفعلاً بواقع أمته، بقدر ما كان متشبثاً بتراثه العربي الإسلامي يستلهم منه رموزاً إنسانية؛ الأمر الذي حقق عنده إغناء الرمز الطبيعي بالرمز الديني، يقول مخاطباً شيخ المجاهدين عز الدين القسام:
فاضرب يا شيخ وشد زناداًأشعل في شجر الزيتون سراجاً وقاداًخل الساري يبصرمن سهل الساحل حتى غور الداخلخل التأمل مشاعلْأنك يا شيخي زيت القنديلِ
الشاعر في هذا المقطع لا يعتمد على الطبيعة وحدها في رسم لوحته الشعرية، وإنما يضيف إليها رمزاً من الطبيعة من التراث الديني الإسلامي متمثلاً فى شجرة الزيتون وزيتها، فشجرة الزيتون تحمل دلالات رمزية عميقة تاريخياً ودينياً إنها رمز للنقاء والطهر والسلام والمحبة.شجرة الزيتون وما تعطي من زيت مبارك هي رمز لصمود الشعب الفلسطيني وتجذره بأرضه .
ج - أنسنة الطبيعة:
إن تعلق الشاعر بأرضه وطبيعة وطنه تعلقاً وجدانياً، جعل نفسه تتوحد مع الطبيعة توحداً ثابتاً، فباتت مشاهدها أشخاصاً حية تتمتع بميزات إنسانية أنطقها وطبع عليها صفات حية، ومنحها حواساً بشرية، فإذا هي تري وتسمع وتشم وهي تضحك وتبكي وتتألم وتفرح، يقول مخاطباً مدينة غزة :
يا بنت البحر يكحلها زيت الزيتون، تنجب ذكراًبشراب التوت لك الأكواب امتلأتبشراب الورد لك الأكوابرن الخلخال بصحن الداروانعتق من الظلمات نهارقومي يا أم الفارس نسرج ظهر حصان أبيضقومي لنعد له زاداً وحساماً.ها قد ناداه الأصحابفيهم خالد وعلى وسعد وأسامةمن مسك الصحراء لهم ريح
حاول الشاعر في هذا المقطع من القصيدة أن يرسم لوحة متكاملة للعلاقة المتميزة بين الأرض/غزة وبين الإنسان الفلسطيني المقاوم الثائر، وهي علاقة خاصة متميزة، استعان في ذلك بالصور الجزئية الحية الصور التي تضفي صفات الكائن الحي على عناصر الطبيعية الصامتة، تخلع الصفات الإنسانية على مظاهر العالم الخارجي فتبث الحياة فيها.
واستطاع الشاعر عن طريق التفاعل مع المظاهر الخارجية من خلال رؤيته الفنية أن يستغل تلك العناصر؛ ليوصل تجربته الشعورية الى المتلقين توصيلاً جيداً.
من خلال هذا التشخيص لعناصر الطبيعة ومظاهرها الذي صبه الشاعر في الاستعارات تمكن من أن يرسم الجو الشعوري الذي تعيشه غزة التي تتلاحم مع أبنائها الثوار، فكأنها تشارك إنسانها الثائر المظلوم غضبه وثورته على ظالميه.
وقد كان هدف الشاعر أن تتآزر هذه الصور الجزئية وتتعاون لترسم مشهداً أو لوحة فنية متكاملة العناصر أسهمت فيها الألوان والظلال والرموز والصور الجزئية؛ لتعبر عن رؤية الشاعر ومضمونه الفكري والشعوري.
د - صورة الأرض، الوطن:
المتأمل في ديوان أنشودة القسام يكتشف أن للأرض/الوطن حضوراً كثيفاً فى عدد غير قليل من قصائده. فالشاعر في تعامله مع الأرض / الوطن لا يقصد دلالتها الجغرافية المحدودة المرتبطة بمساحة محددة فى منطقة ما، وإنما يُراد بها دلالتها الرحبة التي تتسع لتشمل الأرض وناستها وأحداثها وهمومها وتطلعاتها وتقليدها وقيمتها، والأرض /الوطن بهذا المفهوم كيان زاخر بالحياة والحركة يؤثر ويتأثر.
عُني الشاعر عناية فائقة بالأرض الفلسطينية ومفرداتها إدراكاً منه أن جوهر الصراع العربي الصهيوني هو صراع على الأرض، لذلك أصبح الوطن لديه هو الشعر كله.
تعلق الشاعر بأرضه / وطنه، وعشق ترابه فسكن قلبه وجرى حبه فيه مجري الدم في جسده، وظل هذا الحب للأرض يزداد تجذراً وعمقا كلما تعرضت الأرض /الوطن للخطر أو الضياع أو الاندثار، يقول مخاطباً الثوار معبراً عن تعاطفاً الأرض معهم :
واقرع لهنانو طبل الساحليأتوك رجالاًلا يألون نضالاً
وصفوة القول في تعامل الشاعر مع مظاهر الطبيعية وعناصرها أنه لم يقف عند المشاهدات الخارجية والمرئيات الحسية، وإنما اندمج فيها اندماجاً تاماً واتخذ من عناصرها رموزاً تعبر عن رؤيته الإنسانية وتجربته الشعورية. وأنه تمكن من توظيف مشاهد الطبيعة وكائناتها في تصويره لمشاعره ورؤيته الداخلية من خلال الصور الجزئية والكلية الممتدة حتي أصبحت القصيدة كلها لوحة شعرية واحدة.
وحاول الشاعر أيضاً أن يجسد طبيعة فلسطين، وأن يرابطها بالظروف السياسية والوطنية التي مرت بالقضية الفلسطينية، وقد استلهم من عناصرها الطبيعية معاني الثبات والتجذر في الأرض والمقاومة والرسوخ.
تبقي معالم فنية كثيرة يمكن أن تستقل بها دراسات فنية أخري تحاول سبر أغوار التجربة الشعرية الشاملة لدى الشاعر ناهض الريس مثل: البنية الإيقاعية، والصور الشعرية والمفارقات اللغوية والشعورية، والظواهر الأسلوبية.
شارك الباحث بهذه الدراسة في اليوم الدراسي المعنون «ناهض الريس... أديباً وناقداً» الذي أقامه قسم اللغة العربية بكلية الآداب بالجامعة الإسلامية صباح يوم الأربعاء الموافق 26 أيار/مايو 2010م.
مشاركة منتدى
13 كانون الثاني (يناير) 2013, 04:09, بقلم روان عبدالله
جزاك الله خير على هذا الجهد فقد كنت أبحث فلم أجد ظالت إلا في كتابات التي هي بالنسبي لي الضوء الذي استنير به دائما