العولمة والعولمة الثقافية
برز، منذ فجر التاريخ، واستمر على الدوام، نوع من الانتقال والتواصل، بين الجماعات البشرية، سواء، كان ذلك عن طريق التجارة أو الهجرات أو الحروب .. الخ. بيد أن العلاقات بين شعوب العالم القديم، (نظرا للمستوى البدائي لوسائل المواصلات وأدوات التواصل فى ذلك الزمن الباكر)، كانت محدودة، للغاية. وكان الاتصال بين جهات هذا العالم ضعيفا جدا. مما جعل من الممكن القول بأن هذا العالم القديم انما كان يمثل، فى الحقيقة، عدة (عوالم)، متباينة ومتغايرة فيما بينها، الى حد مذهل. وهو التباين والاختلاف اللذان يمكن أن نلحظهما فى ضعف أوجه التشابه بين السمات المميزة لمكونات الحضارات القديمة، سواء من حيث المظاهر الخارجية، مثل الملابس والعمارة وأنماط الحياة اليومية، وصولا الى مجمل المنجزات والآثار الحضارية. (وان كنا، بالطبع، لا نقول بوجود انقطاع تام للصلات بينها، كما أسلفنا).
بل، يمكن ملاحظة هذا التباين الثقافى بين مناطق الاقليم الواحد. حيث لاتزال درجات من آثاره، باقية حتى أيامنا الراهنة، (وان كان على نحو رمزى بالطبع). فاذا أخذنا الاقليم المصرى، مثالا على ذلك، (على الرغم من أنه يعد من أكثر الأقاليم اندماجا وتوحدا، من الناحية الثقافية (الحضارية)، على مدار التاريخ، فسوف نشهد وجود بعض من الفوارق والتمايزات (النسبية) بين سكان كل من: الدلتا، والصعيد، والسواحل، والواحات .. الخ. سواء، فى اللباس أو العادات والتقاليد أو حتى فى بعض المعتقدات.
ويعود هذا التباين بين أبناء الحضارات القديمة الى أن "الآخر"، فى تلك العصور الأولى، كان مجهولا، (نظرا لتباعد المسافات، على النحو الذى تم توضيحه)، ولذا فقد اختلطت أفكار وتصورات الجماعات البشرية، عن بعضها البعض، بنوع من الأفكار والتصورات الأسطورية التى تنتمى الى عالم الخيال، بأكثر مما تنتمى الى عالم الواقع. فاليونانيون اعتبروا أنهم وحدهم (البشر)، أما غيرهم فلايمكن أن يكونوا سوى "برابرة". واليهود اعتبروا أنهم هم وحدهم "شعب الله"، أما غيرهم فليسوا أكثر من "أمميين"، (أى أقوام أدنى وأقل، فى الدرجة، لأنهم خارج مظلة رعاية اله اليهود)، والعرب وصفوا غيرهم ب"الأعاجم" و"العلوج"، واعتبروا أن لغتهم أعظم اللغات .. الخ.
هذه التصورات (العجائبية) "للآخر" عبرت عنه كثير من آداب العصور القديمة: مثلما نجد فى مسرحية الفرس لاسخيلوس وملحمتى "الالياذة" و"الأوديسا"، وطريقة تصويرهم للمغايرين والمختلفين. فالفرس، بحسب اسخيلوس، ليسوا أكثر من عبيد. والطرواديون، بحسب هوميروس، ليسوا أكثر من برابرة. وسكان الجزر البعيدة والتى وصلها أوديسيوس بعد أن ضل الطريق أثناء عودته، ليسوا أكثر من أشباه بشر. و كذلك الأمر فى "حكايات ألف ليلة وليلة"، التى تحكى عن بلاد العجائب والغرائب التى وصل اليها السندباد البحرى .. وصولا الى "الكوميديا الالهية" لدانتى اليجيرى، ابان العصور الوسطى، حيث جعل من كل من يخالف معتقده، من غير الأوربيين، انما يقبع فى الدرجات السفلى من النار (الجحيم)، وبخاصة نبى المسلمين (محمد "ص"). لقد كان "الآخر" في هذه الملاحم والحكايات، جميعا، أقرب الى الكائن الأدنى، غريب الأطوار، ان لم يكن فى مرتبة المتوحش الذميم.
لقد كان التصور السائد لدى كل الشعوب فى الحضارات القديمة، وصولا الى العصور الوسطى، تلك الحضارات التى وصفها جيرار ليكليرك ب"المغلقة"، (انظر: جيرار ليكليرك، العولمة الثقافية، الحضارات على المحك، ترجمة د. جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، 2004، ص27) أن هذه الشعوب تمثل، وحدها، "مركز" العالم، بل هى العالم، بحد ذاته. ويمكن أن نعزو هذا الاحساس ب"المركزية"، (القديمة) الى نوع من بقايا التفكير "الطوطمى" الأسطورى، الذى ظهر فى الجماعات البدائية، والذى يقوم على الاعلاء من شأن الذات الجمعية، الأقرب فى تكوينها الى العشيرة والقبيلة، ليصل بها الى مرتبة الأفضلية والمثالية، قياسا بباقى الجماعات الأخرى. من خلال الوصول بنسبها الى طائر جارح أو حيوان مفترس.
مفهوم "العالم"
مع ظهور النتائج الباهرة "للكشوف الجغرافية"، ابان القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وتزايد حجم التجارة والتنقل والترحال الى "العوالم الجديدة"، قام عصر النهضة فى حوالى القرن السادس عشر. حيث شرعت أوربا فى الخروج من ظلمات العصور الوسطى. ثم أعقب ذلك، بعدة قرون، دخولها الى عصر الرأسمالية الصناعية فى القرنين: الثامن عشر والتاسع عشر، ونجم، عن ذلك بروز الظاهرة الاستعمارية.
كل ذلك أدى، تدريجيا، الى ظهور مفهوم "العالم" Universality ، بالمعنى المعروف، لدينا،الآن. حيث تبلور هذا المفهوم بوضوح ملموس فى القرن التاسع عشر. وذلك، حيث يكاد يجمع الباحثون على أن حجر الزاوية، فى ظهور مفهوم "العالم"، انما يكمن فى تكون وبروز "المركز" الغربى الرأسمالى ذى النزوع الاستعمارى، على وجه التحديد. فللمرة الأولى فى التاريخ، أخذ هذا المركز فى الاهتمام بالبلدان والشعوب الأخرى، ليس بوصفهم برابرة أو عجما أو أنصاف بشر. بل باعتبارها مجالا حيويا لمصالحه الآخذة فى التنامى من الناحيتين:
الاقتصادية والسياسية. أى أنها تعد من الملحقات ومناطق النفوذ بالنسبة للغرب، فهى تمثل، على نحو محدد، "محيطا"، أو "أطرافا"، (بالنسبة له)، حسب مصطلح سمير أمين، الذى يقول:
"وهكذا قدر لنمط الانتاج الرأسمالى أن يجتاح العالم، لكن فتح المعمورة هذا لم يتحقق فى صورة توسع جغرافى للنموذج الأوربى. لقد خلق مركزا ومحيطا، والتناقضات الداخلية الخاصة بالنمط الرأسمالى أخذت منذئذ النظام العالمى اطارا" (التشديد من عند الباحث). (التطور اللا متكافئ – دراسة فى التشكيلات الاجتماعية للرأسمالية المحيطية، ترجمة برهان غليون، دار الطليعة، بيروت، ط4، 1985، ص 7).
فتحولت الرأسمالية، ذات النزعة الاستعمارية، الى "نظام عالمى"، بمعنى أن تأثرها ونفوذها لم يقتصر على البلدان التى ظهرت فيها بل شمل معظم بلدان العالم، التى شكلت "محيطا"، أو مجالا حيويا، لهذا المركز الرأسمالى، عبر شبكة من المنظومات الاقتصادية والسياسية، قوامها وجوهرها التبعية للغرب والاذعان لمصالحه وتوجهاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وهو ما يعنى أن مفهوم "العالم" يرتبط ارتباطا مباشرا بظهور نظام سياسى واقتصادى (وبالتالى) قانونى، يشمل كل بلدان العالم. بما يعنيه ذلك من قيام منظمات ذات صفة عالمية وتمتلك تأثيرا وقدرة معينة على الالزام لدى معظم، ان لم يكن كل، بلدان العالم. وتكاد هذه المنظمات أن تغطى وتشمل كافة مجالات الحياة تقريبا، من الزراعة الى الصحة الى الثقافة الى كرة القدم .. الخ
ويؤكد ذلك محمود أمين العالم، حيث يرى أن مفهوم "العالم"، أو "العالمية"، (كما يطلق عليه)، انما هو مجموعة من العلاقات التى تشكل نسقا أو منظومة متكاملة من الترابطات، تشمل دول العالم أو مجموعة كبيرة منها، بحيث تتعدى مجرد العلاقة المحدودة بين دولتين، أو أكثر .. يقول:
"أما العالمية فهى صفة هذه العلاقات عندما لاتقتصر على علاقة ثنائية أو أكثر، وانما تشكل نسقا من العلاقات بين دول العالم أو معظمها فى مرحلة من مراحل التاريخ عبر مساحة ممتدة نسبيا مكانيا وزمنيا." (محمود أمين العالم، مرجع سابق، ص 10)
وهو يقصد ما أشرت اليه، آنفا، من ظهور المركز الرأسمالى الذى أخذ فى ترتيب العلاقات الدولية بما يتلاءم مع مصالحه وتوجهاته، عبر اقامة نظام عالمى. ويفصل محمود العالم قوله، بعد ذلك، شارحا تجليات هذه العالمية، بدءا من بواكيرها الأولى فى العالم القديم، متمثلة فى العلاقات والصراعات والحروب الكبرى، وأظنه يقصد العلاقة المتوترة بين امبراطوريات الفرس واليونان والروم والعرب .. الخ .. وصولا الى "الحملات العسكرية والاستيطانية طوال القرن التاسع عشر"، على حد قوله.
ومن ثم، فان محمود العالم يعتبر أن الحربين العالميتين: الأولى والثانية، يمكن أن تمثلا أكثر أشكال هذه "العالمية" توسعا، حتى هذا الزمان. ويرى أن صفة "العالمية" تتجلى بوضوح، كذلك، فى ظهور الشركات متعددة الجنسية أو العابرة للحدود الوطنية، وكذلك فى المعاهدات الدولية: التجارية والقانونية والثقافية .. الخ. معتبرا ان تشكيل المنظمات الدولية وعلى رأسها عصبة الأمم بعد الحرب الأولى وهيئة الأمم المتحدة بعد الحرب الثانية والمنظمات الدولية النوعية التى انبثقت عن الأخيرة، من أبرز أشكال هذه "العالمية" توسعا وشمولا. سواء، أكان ذلك من الناحية الجغرافية أو السياسية، ثم كانت الحرب الباردة التى نشبت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تجليا لنسق ملتبس من هذه العلاقات ذات الطابع العالمي. (انظر: محمود العالم، مرجع سابق، ص10)
وبذلك، يمكن القول أن مفهوم "العالم" بالمعنى الحديث للكلمة قد ولد مع اللحظة التى أصبحت فيها الرأسمالية نظاما عالميا، يقوده مركز محدد، يتحكم فى باقى أصقاع العالم أو يؤثر فيها، بصورة فعالة، كل بحسب درجة تبعيته وأهميته لهذا النظام العالمى. فالى جانب التأثير الرأسمالى فى الجوانب الاقتصادية، بهدف الحصول على المواد الخام وفتح الأسواق واستجلاب العبيد من أفريقيا باعتبارهم قوة عمل مجانية (خصوصا ما قامت به الولايات المتحدة فيما قبل الحرب الأهلية الأمريكية 1861 – 1865)، فلقد قامت حكومات الغرب بارسال البعثات العلمية والرحالة والمستكشفين والمبشرين والفرق العسكرية، الرامية لاكتشاف كل ما يتعلق بهذه الشعوب: من ثقافة واقتصاد وعادات ومعتقدات، حتى انماط الحياة اليومية .. الخ. سواء، بهدف بهدف الهيمنة وتحقيق السيطرة الاستعمارية، أو بهدف تعميق المعرفة العلمية الأكاديمية المجردة. وحتى هذا الهدف الأخير لم يكن بمنأى عن استخدام جهوده فى تحقيق مرامى الهدف الأول، ألا وهو تحقيق الهيمنة والسيطرة الاستعمارية، كما هو معلوم.
ومن هنا تم تسخير علوم: "الانثروبولوجيا" و"الاستشراق" و"الآثار" و"الفولكلور" .. الخ، فى غالب الأحيان، لخدمة الأنشطة الاستعمارية، فضلا عما ارتبط بها أو استقل عنها، من جهود علمية، مثل علوم : الأدب المقارن، واللغات المقارنة، والفلكلور .. الخ.
ومن البدهى أن ذلك ماكان له أن يتاح لولا وصول النظام الرأسمالى الى الطور الاستعمارى، الذى ارتبط بالثورة العلمية الأولى، فتمكن من تحقيق منجزات تكنولوجية وتصنيعية هائلة، سواء أكان ذلك على مستوى الانتاج السلعى أو على مستوى أدوات الاتصال ووسائل المواصلات.
ويعتبر المفكر الفرنسى جيرار ليكليرك أن تطور تكنولوجيا "المواصلات والاتصالات"، على التحديد، هى المسئولة عن ظهور مفهوم "العالمية"، فيقول:
"تمثل "العالمية"، بشكل ما، ثورة فى الاتصالات، ثورة فى نقل الرسائل (ظهور الكهرباء منذ العام 1890، ثم انتشارها بشكل أليكترونى منذالعام 1960)، ثورة فى انتقال البشر (الطائرة منذ العام 1900 وبخاصة منذ دخول الطيران النفاث عام 1960)". (جيرار ليكليرك، العولمة الثقافية – الحضارات على المحك، مرجع سابق، ص 20)
وأعتقد أنه لايمكن تصور وجود هذه التطورات فى مجال تكنولوجيا الاتصال بدون وجود الثورة الصناعية التى قادتها الطبقة الرأسمالية الأوربية ذات النزوع الاستعمارى، كما أسلفت. كما أن لايمكن الفصل بين تكنولوجيا الانتاج وتكنولوجيا الاتصال، فلا يمكن للانتاج أن ينتقل الا بالمواصلات والاتصالات، وعلى أى حال، فهما، معا، من نواتج الثورة العلمية والتكنولوجية الأولى، وهى ثورة شملت التأثير فى جميع مجالات الحياة.
فلقد قامت الهيئات العلمية الغربية، مستفيدة من كل تلك الامكانيات المتطورة، بنشر الأبحاث والكتابات المختصة بشأن حياة هذه الشعوب وتلك البلدان فى كتب ودوريات. فتم الكشف عن أصول الحضارات الكبرى القديمة، كحضارات الهند والصين ومصر والرافدين .. الخ، حتى الثقافات البدائية لدى القبائل المعزولة فى غابات أفريقيا وأمريكا اللاتينية. كما قامت، فى الآن نفسه، بمحاولات عديد لنشر ثقافة الغرب وأنماط حياته، فنجحت فى بعضها وأخفقت فى بعضها الآخر. فازداد التعارف بين الشعوب وزالت تدريجيا، والى حد كبير، التصورات الغرائبية المتكونة عبر الحقب التاريخية عن هذا "الآخر"، الذى لم يعد غامضا، بالقدر الذى كان عليه فى السابق. لتحل محلها تصورات أقرب الى الموضوعية.
ومن هنا، حققت هذه التطورات ما يسميه ليكليرك ب"ظاهرة التوسع والانقباض" ويقصد ب"التوسع" الانتشار على المستوى المكانى من حيث السيطرة على بقاع لم تكن معروفة من قبل، بالنسبة للانسان الأوربى، وما صاحب ذلك من رسم خرائط شاملة وتفصيلية لكامل الكرة الأرضية. واذا كان العصر التجارى (الماركنتالى) قد تميز بالاكتشافات الجغرافية الكبرى، فان القرن التاسع عشر قد شهد ظاهرة "الانقباض"، حيث ظهر ما يسميه "العالم المتناهى"، أى العالم ذو الأبعاد والخصائص والسمات المعروفة على نحو علمى منظم. (انظر: ليكليرك، المرجع السابق ص 31)
وفى وقت لاحق، قام الغرب الرأسمالى وباقى الدول المنتصرة فى الحربين العالميتين، بانشاء المنظمات والهيئات الدولية الدولية الحاكمة، مثل "عصبة الأمم"، وبعدها "الأمم المتحدة" ومنظماتها العديدة. كما تطورت وسائل الاعلام مع ظهور الصحافة والسينما والاذاعة والتليفزيون.
على الرغم من كل ذلك، لم يتخلص الغرب (أوربا وأمريكا وكندا واستراليا .. الخ)، فى مرحلة "الحداثة" الصناعية، تماما، من ميراث تلك النظرة الدونية للآخر، مثلما لاحظنا فى رواية "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو، ورواية "رحلات جاليفر" لجوناثان سويفت، ورواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد، وغيرها من الأعمال التى تتعرض للآخر غير الغربى من سكان الجزر البعيدة (روبنسون كروزو، رحلات جاليفر) أو من سكان أفريقيا (الكونغو) كما فى رواية (قلب الظلام). فالآخر، غالبا ما يكون فى هذه الأعمال وغيرها غريب الأطوار ومتخلفا ويحتاج الى ترويض. (انظر : ادوارد سعيد، الثقافة والامبريالية، دار الآداب ، بيروت، 1997، ص90 وما بعدها.)
ولايمكن أن نغفل، فى هذا الاطار، الظهور المتوالى للنعرات والحركات العنصرية فى معظم بلدان أوربا وأمريكا، وغيرها. ولا تزال هذه النعرات قائمة حتى الآن، تخفت تارة وتظهر تارات أخرى. فبعد كل ماتم من ظهور مفاهيم: الحرية والاخاء والمساواة والديمقراطية وحقوق الانسان وميثاق الأمم المتحدة، مع كل ذلك .. "صعب على عالمنا اذراء طرقه القديمة". حسبما يقول دينيس سميث فى كتابه: "الأجندة الخفية للعولمة" (المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2011، ص20).
ويرجع ليكليرك هذه الظاهرة الاستعلائية الغربية الى الاعتقاد الجازم بفكرة "التفوق الأوربى"، وما نتج عنها من بروز ما يشبه المهمة الرسولية لدى الأوربيين، ألا وهى مهمة "تغريب العالم"، التى يعرفها بأنها: "السيطرة الأوربية على الحضارات الأخرى". (جيرار ليكليرك، مرجع سابق، ص33)
بل ان الكاتب الفرنسى سيرج لاتوش يرى أن الغرب قد ما رس نوعا من الغزو الثقافى لبدان العالم المختلفة من خلال احتكاره لوسائل البث ووسائط التأثير فى العقول، فيقول:
"ينطلق فيض ثقافى بمعنى فريد من بلدان المركز ويجتاح الكرة الأرضية .. تتدفق صور ، كلمات، قيم أخلاقية، قواعد قانونية، اصطلاحات سياسية، معايير كفاءة، من الوحدات المبدعة على بلدان العالم الثالث، من خلال وسائل الاعلام (صحف، اذاعات، تليفزيونات، أفلام، كتب، اسطوانات، فيديو). ويركز الجانب الأكبر من الانتاج العالمى "للعلامات" Brands فى الشمال، أو يصنع فى معامل يسيطر عليها، أو حسب معاييره وموضاته."
ويواصل سيرج لاتوش، قائلا:
"وسوق المعلومات شبه احتكار لأربع وكالات، : أسوشيتدبرس ويونايتد برس (الولايات المتحدة)، رويترز (بريطانيا العظمى)، فرانس برس . وتشترك فى هذه الوكالات كافة اذاعات العالم، كافة شبكات تليفزيون العالم، كافة صحف العالم. ويتدفق 65% من "المعلومات" العالمية من الولايات المتحدة. ومن 30 % الى 70% من البث التليفزيونى مستورد من المركز. وعلى أية حال، يستهلك العالم الثالث السينما أقل 5 مرات الاذاعة أقل 8 مرات التليفزيون أقل 15 مرة ورق الصحف أقل 16 مرة بالمقارنة بالمركز".
ويستنتج من ذلك أن .. "هذا الفيض من المعلومات لا يمكنه الا أن يشكل رغبات وحاجات المستهلكين، أشكال سلوكهم، عقلياتهم، مناهج تعليمهم، أنماط حياتهم. وتعد هذه الدعاية الخبيثة "هبة" لا تقاوم تشهد على الحيوية الطاغية للمجتمعات العالية التطور، لكنها تخنق كل ابداع ثقافى لدى الأسرى السلبيين للرسائل. وعلى هذا النحو تقوم فرنسا بتأمين خدمة اعلامية مجانية عن طريق الأقمار الصناعية عند أجواء الاذاعات والتليفزيونات الأفريقية. وهى تقدم يوميا" (سيرج لاتوش، تغريب العالم – بحث حول دلالة ومغزى وحدود تنميط العالم، ترجمة خليل كلفت، دار العالم الثالث، القاهرة، 1992، ص 27).
كما تمت ممارسة أنواع عديدة من السياسات التى تقوم على البرهنة على كون الثقافة الأوربية انما هى ثقافة كونية، وهى الثقافة الأرقى والأكثر تطورا، بما يتيح، بل يحتم، تعميم طريقة الحياة الأوربية بقيمها ومفاهيمها وأنماطها السلوكية، على باقى أرجاء العالم. حيث تمت صياغة تلك الرؤية فى اطار نظرى، يقوم على رؤية بلدان العالم من خلال نظرة تراتبية هرمية، تمثل سلم التقدم، بحسب الرؤية الغربية. تحتل القمة فيها بلدان أوربا، بالطبع، بينما يقبع فى السفح الشعوب التى لاتزال فى مرحلة التوحش والبربرية. وبينهما تلك الشعوب التى غادرت الطور البربرى ولكنها أقل تطورا.
ان هذا الاطار النظرى هو بعينه ما يسميه ليكليرك ب"النظريات التطورية"، وهى النظريات التى مثلت، عنده، احدى الطرق التى حاولت أوربا بواسطتها أن تفهم التنوع الثقافى فى العالم الذى اعترفت به ابان التوسع الاستعمارى. وهو كما نرى تنوع لا يقوم على احترام خصوصية الثقافات، من حيث ملاءمتها لطبيعة الظروف الاجتماعية والبيئية لمجتمعاتها، وكذلك لا يقوم تصور امكانية تعدد المسارات التطورية بحسب معطيات كل مجتمع على حدة، على بل يقوم على اعتبار أن هناك نموذجا واحدا للتطور ولا بديل غيره. يقول ليكليرك:
"فى اطار مقاربة كهذه يمكن ترتيب المجموعات البشرية تبعا لخط زمنى طويل يمثل فى الوقت نفسه سلما للتقدم. بحيث يظهر هذا الخط الانسان وقد انتقل ببطء من حالة التوحش والبربرية، ثم الى المرحلة المتحضرة. واذا قدر لكل المجتمعات أن تتقدم تبعا لهذا الخط ، فان بعضها كان أكثر تقدما من البعض الآخر: بعضها يقود السباق وبعضها الآخر يشكل جزءا من المتبارين وثمة بعض ثالث فى ذيل المتبارين." (ليكليرك، مرجع سابق، ص33)
وهو ما يعنى أن الهيمنة الأوربية لم تكن مجرد هيمنة "خشنة" بالسلاح والجيوش، وانما كانت مصحوبة بتصورات نظرية تدعى العلمية، تضع النموذج الأوربى فى الأعلى، وتعتبره النموذج المثال. وأن خطه "التطورى" هو الخط الوحيد الممكن، وأن باقى البلدان التى لم تصل اليه بعد، انما تعد دولا أقل فى الكفاءة والوعى وعليها الخضوع للأكثر تطورا. وهو ما يضفى مسحة علمية وأخلاقية كاذبة على المسلك الأوربى الاستعمارى.
ولعلنا نلاحظ الظلال الداروينية فى هذا الطرح، من حيث تقسيم الشعوب الى "فصائل" تشبه فصائل الحيوان، فقد تحدث داروين عن وجود كائنات أرقى فى مقابل كائنات أدنى فى التطور. واتصور أن هذه النظرة على التحديد هى التى قامت على أساسها النزعات القومية المتعصبة، التى رأينا نتائجها فى الحربين العالميتين، ولا تزال آثارها باقية حتى الآن.
ولكى تكون أوربا جديرة بموقع الذروة التطورية الحضارية، هذا، فلا بد لها من أن تقوم بالتأكيد، بكل السبل، على تأخر شعوب الحضارات القديمة. فكانت حضارات مصر والاسلام والهند والصين، فى كل نتائج وخلاصات الخطاب العلمى والاعلامى، تعد مجتمعات متوحشة وبدائية ولا تستحق أن يطلق عليها صفة "متحضرة" وان تم الانعام عليها بالاعتراف بكونها صاحبة ثقافات عظيمة فى الماضى السحيق. (انظر: ليكليرك ، السابق ص33)
ان هذا النزوع الذى يمزج بين اعلاء الذات من ناحية وتسخيف الآخر والاقلال من شأنه، من ناحية أخرى، هو عين ما يسميه ادوارد سعيد، تارة ب"الجغرافيا المتخيلة"، وتارة أخرى ب"شرقنة الشرق". ملمحا الى أن الغرب انما يخلق شرقا يتناسب مع احتياجاته الاقتصادية والسياسية، كما يتناسب مع فكرة التفوق والعلوية التى كونها عن ذاته، فتم حبس صورة الشرقى فيما يسميه ادوارد سعيد ب"شرق ألف ليلة وليلة"، وهو ذلك الشرق الشهوانى العاطفى الأسطورى الساذج. (انظر: ادوارد سعيد، الاستشراق – المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة د. محمد عنانى، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2006، ص 110 وما بعدها)
بداية العولمة
ان بروز الظاهرة "العالمية"، على النحو الذى سبق ايراده، هو ما يعتبره ليكليرك "بداية العولمة" (جيرار ليكليرك، مرجع سابق ، ص 34). وأظنه يقصد ارهاصاتها الأولى، أو المقدمات التى أفضت اليها. من حيث التقارب المطرد لأصقاع العالم.
وبالطبع، لا أحد يمكنه أن ينكر أن هذا الطور التاريخى الجديد المسمى بالعولمة، لم يوجد من تلقاء ذاته، وانما أوجدته عوامل كثيرة، متعددة الجوانب، وسبقت ظهوره ارهاصات ملموسة. سواء، أكانت تلك المتمثلة فى نتائج الكشوف الجغرافية التى تمت فى القرنين: الخامس عشر والسادس عشر (عصر النهضة)، أو الانجازات العلمية والتكنولوجية التى تمت فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (العصر الحديث وبداية الحداثة). وهذا يعد أمرا منطقيا ومعقولا، تماما، فالظواهر الانسانية والتاريخية لا تهبط من السماء، وانما تتطور عن أوضاع وظروف موضوعية، أقل تركيبا وتعقيدا. ولكن ينبغى التأكيد على أن مجمل المعطيات والظروف التى نتجت عن العولمة تجعلنا أمام واقع جديد، كما تمت الاشارة.
ولم يقتصر الأمر على ليكليرك، فى التأريخ للعولمة بأوقات تنتمى الى مراحل سابقة. فهناك من يرى أن العولمة قد بدأت منذ سبعينيات القرن العشرين، مثل جون رالستون الذى يقول: "ظهرت العولمة الى الوجود فى فى عقد السبعينيات، كأنما جاءت من لامكان، ومع ذلك فقد بدت كاملة النضج، وكأنما ترتدى ثوبا كامل الأوصاف والمعانى". (جون رالستون سول، انهيار العولمة واعادة اختراع العالم، ترجمة محمد الخولى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2015، ص 23).
بيد أنه يستدرك، بعد ذلك، قائلا أن هذه الرؤية لم تتحول الى سياسات وقوانين الا فى عقدى الثمانينيات والتسعينيات، فيقول: "وهذه الرؤية ما لبثت أن تحولت الى لتصبح سياسات وقوانين على مدار السنوات العشرين ، التى استغرقها عقدا الثمانينيات والتسعينيات، مدفوعة فى ذلك بقوة من الحتمية التى ذلع صيتها". (جون رالستون سول، نفسه، ص 23 ).
ويسير على الدرب نفسه دينيس سميث الذى يرى أن العولمة قد بدأت منذ .. "الثمانينيات من القرن المنصرم واستغرق الأمر بعض الوقت حتى تسامع الناس بها (...) بيد أن العقد الأخير (يقصد التسعينيات) من القرن ذاته شهد تحولا فى هذا الصدد من رذاذ الى تيار قوى ثم الى طوفان جارف" ( دينيس سميث، مرجع سابق، ص 14)
وبينما لا يوضح جيرار ليكليرك الأسباب التى جعلته يحدد المراحل المتقدمة من "العالمية" باعتبارها بدايات العولمة، فان كلا من جون راستون سول ودينيس سميث يقتربان، بدرجة كبيرة، من فكرة الاقرار بأن البداية "الجارفة" لموجة العولمة قد انطلقت فى عقد التسعينيات، مع النص على وجود مقدمات سابقة، غير ملحوظة فى العقدين السابقين لذلك العقد (السبعينيات والثمانينيات). ولكن اذا اعتبرنا أن العولمة، من حيث كونها ظاهرة اقتصادية وثقافية وتواصلية، ذات طبيعة خاصة، يمكن معرفة سماتها وتأثيراتها، فان أى تأريخ للعولمة لابد أن يرتكز على رصد بداية وجود الأساس المادى والتاريخى الذى ارتكزت عليه وقامت بالارتكاز عليه، والذى لولاه لما قامت كل هذه التداعيات والتطورات التى يعرفها الجميع فى أيامنا. ان هذا الأساس المادى هو، على التحديد، ما يتمثل فى هذا الاختراق التكنولوجى المذهل المتمثل فى ما يسمى بالثورة العلمية والتكنولوجية الثالثة. الناتجة عن اختراع "الميكرو شيبس"، أو الشرائح الأليكترونية الذكية، وهى تلك التى بواسطتها أمكن تحقيق تطور غير مسبوق فى أجهزة الاتصالات والمعلومات والحواسيب الألكترونية .. الخ.
وهذا ما أتفق فيه مع وجهة نظر المفكر المصرى محمود أمين العالم، الذى يعتبر أن الثورة العلمية والتكنولوجية الثالثة، هى الأساس الذى شكل عامل الانتقال الحاسم من "العالمية الى العولمة"، بيد أنه يضيف عنصرا آخر تفرد هو وحده بذكره. ألا وهو فشل التجربة الاشتراكيةالسوفيتية، يقول:
"مع الثورة العلمية الثالثة – فى مجال المعلوماتية والاتصالية خاصة – ومع فشل التجربة التنموية الاشتراكية السوفيتية وتفكك المنظومة الاشتراكية، أخذت العلاقات الدولية تنتقل انتقالا حاسما من حالة العالمية الى حالة العولمة." (محمود أمين العالم، مرجع سابق، ص10)
ولا يفصل العالم قوله فيما يتعلق بعلاقة انهيار الاتحاد السوفيتى والتجربة الاشتراكية بقيام أو بداية العولمة، فهل كان ذلك شرطا لقيام العولمة ؟؟ أم نتيجة لها ؟؟ أم مجرد حدث مصاحب على نحو عرضى ؟؟
وأتصور أن اضافة ذلك "البعد" السياسى، ربما نتج عن تصور أن البشرية قد تجاوزت، به، وضعية الانقسام الى قطبين وعالمين متنافسين، وصولا الى عالم واحد، يحكمه ويتحكم فى مصائر دوله وشعوبه قطب عالمى واحد هو المعسكر الغربى الرأسمالى، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما سهل فكرة اندماج العالم وتداخله على النحو الذى بات معروفا للكافة.
وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يتجه محمود العالم، بذلك، (اذا صح هذا الاستنتاج من جانبنا)، الى أن العولمة (الاندماج العالمى) قد تحققت عن طريق احكام الهيمنة الغربية الرأسمالية على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتى؟؟ اننى أستبعد ذلك وأرى أن مقصد محمود العالم، الأكثر معقولية، هو أن انهيار التجربة الاشتراكية فى بداية التسعينيات كانت اشارة الى أفول مفهوم "العالم" المنقسم والمتناحر والمتباعد، على النحو الذى ألفناه منذ الثورة الصناعية الأولى، وقيام مرحلة "الحداثة"، فى الصناعة والفكر. وبهذا تكون العولمة ممثلة لمرحلة اندماج العالم بعد أن كان منقسما الى معسكرات متباعدة وشبه مغلقة فى المرحلة السابقة.
بيد اننى أعتبر أن هذه التطورات التكنولوجية كانت من قوة الفاعلية والتأثير، بحد ذاتها، بما جعلها قادرة على حسم الأمر باتجاه العولمة، بصرف النظر عن أى تطورات سياسية من أى نوع.
ويتفق المفكر المصرى بهيج نصار، فى هذا الاتجاه مع محمود أمين العالم، من ناحية، ارتباط ظاهرة العولمة بواقعة انهيار المعسكر الاشتراكى، كما يتفق مع جيرار ليكليرك، من ناحية أن ضربة البداية للعولمة انما تبدأ من حوالى منتصف السبعينيات. وان كان ذلك الاتفاق قد تم فى الخطوط العامة، فقط. حيث قام بهيج نصار برصد بدايات ارهاصات العولمة منذ منتصف السبعينيات فى القرن الماضى، حين تم تحويل آلاف الملايين من الدولارات النفطية التى ربحتها بعض البلدان النفطية المستقلة حديثا بسبب الزيادة الهائلة فى أسعار النفط بعد حرب أكتوبر المجيدة، الى بنوك بلدان غرب أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، فقامت بنوك هذه البلدان بتحويلها الى بلدان العالم الثالث على هيئة قروض. وهى التى أصبحت، بدورها، فيما بعد، قيودا على اقتصادها وسيادتها .. "ففرضت عليها تغيير هياكلها الاقتصادية ونظمها المالية والضريبية والجمركية، وفتح أسواقها بما يتفق مع مصالح القوى الامبريالية وشركاتها. وتواكب مع هذه التطورات تقهقر الاقتصاد السوفيتى واضطراب اقتصاد الصين الماوية بينما الرأسمالية تستثمر الى أبعد مدى فى منجزات الثورة العلمية والتكنولوجية، ليندمج العلم فى عمليات الانتاج والخدمات، فتصبح أنظمة المعلومات والمعارف أهم المدخلات فى هذه العمليات. وانتشرت "الأتمتة" واستخدام أجهزة الكمبيوتر، فتم تطور مذهل فى وسائل الاتصال سمح بنقل السلع ورؤس الأموال وتداولها فى نفس الوقت الذى يتم الاتفاق عليه بين الأطراف المعنية مهما بعدت بينهم المسافات". (بهيج نصار، الحرب والسلام - بحث فى الاشتراكية العلمية وقضايا العولمة، دار العالم الثالث، القاهرة، 2006، ص 109 – 110).
ومن الواضح هنا الربط الواضح بين العولمة وكل من التحولات التكنولوجية والاقتصادية وكذلك السياسية، على الصعيد الدولى. وهو ارتباط معنى، بالدرجة الأولى، بمحاولة رصد تداعيات هذه الظاهرة العولمية على سياسات واقتصادات ومصائر بلدان العالم الثالث.
ان بدايات العولمة يمكن أن تكون قد انطلقت، بعضها، أو حتى كلها، فى مراحل سابقة (السبعينيات أو الثمانينيات)، سواء على مستوى البحث العلمى والتطبيقات التجريبية، أو على مستوى الارهاصات السياسية (مثل انهيار سور برلين وانهيار المعسكر الاشتراكى، اذا شئنا متابعة محمود العالم). بيد أن التمظهر الفعلى للعولمة، والذى تمثل فى القدرة على خروج هذه الأبحاث العلمية والتطبيقات، التى بدأت على نحو تجريبى معملى فى الصناعة، الى "الانتاج الصناعى الكبير" Mass Production للأجهزة الجديدة، هو ذلك الذى تم فى حقبة التسعينيات من القرن الماضى.
لذا فاننى أعتقد أن ضربة البداية قد انطلقت فى هذا التاريخ على التحديد، حيث أخذت معظم شعوب الأرض فى الاحساس بأن تغيرا لافتا ومهما يحدث على صعيد التكنولوجيا الرقمية، وأن ذلك قد انعكس على جميع مرافق الحياة، وأولها: وسائل الاتصالات والمعلومات. ليعطى ذلك الاحساس بأن البشرية تعيش واقعا مختلفا وجديدا، عما كان سائدا ومعتادا لديها، من قبل.
وذلك،على النحو الذى سيتم تفصيله، فيما يلى:
ففى كل تلك المراحل، التى سبقت العولمة، كان هناك تطور فى مستويات التقارب والعلاقة مع الآخر، ولكن هذا التطور كان ذا طبيعة "كمية". بمعنى أن هذا التطور، وان ازداد على نحو تصاعدى عبر الأزمان، فانه لم يكن قادرا، حتى ذلك الحين (ما قبل التسعينيات من القرن الماضى، وسأشرح أسباب تعيين هذا التاريخ بعد قليل)، على احداث تغير جوهري، ، فيما يتعلق "بطبيعة" العلاقة مع (الآخر). وان كان قد أحدث تغيرات جزئية فيما يتعلق ب"مستوى" أو درجة العلاقة مع هذا الآخر. فلم يحدث سوى مزيد من التقارب (الذى ظل نسبيا) والذى أملاه التطور المطرد، لتكنولوجيا الاتصال والانتقال، عصرا بعد آخر. وبقى الوعى بالآخر محدودا، فى جوهره، بالاطار القديم المعتاد القائم على "مركزية" (الذات)المستعلية، والتى تمنح نفسها، كما رأينا فى الفقرات السابقة، أفضلية نوعية مطلقة، فى مواجهة (الآخر) والمختلف، الذى هو بالضرورة، بحسب وجهة النظر تلك، أقل فى الدرجة والقيمة والقدر. وان تباينت، بالطبع، درجة وطبيعة هذا الوعى، هنا أو هناك.
واقع العولمة
لقد قلبت العولمة، وغيرت، على نحو غير مسبوق، كل الأوضاع السابقة عليها. وخلقت واقعا جديدا، تحقق فيه ما كان يعد من الأحلام فى السابق. انه واقع أصبح فيه الهاتف محمولا فى الجيب، والحاسوب متواجدا فى كل منزل وعلى كل مكتب. حيث تقوم تلك الأدوات والأجهزة بتوفير كم مذهل من المعلومات، عبر الشبكة العنكبوتية، عن أى شئ وكل شئ. كما تقوم بتوفير كم هائل من ساعات العمل، عبر استخدامها فى الصناعة والاقتصاد والادارة والتعليم .. وكافة مجالات الحياة. كما أن الأطباق اللاقطة وشبكة الانترنت أخذت توفر نوعا من المعايشة اللحظية للأحداث فى كل أصقاع العالم، الى جانب توفير القدرة على متابعة كافة البرامج الاعلامية، الثقافية والفنية والسياسية وفى كل مجالات النشاط الانسانى، المسموعة والمرئية، فى أربعة أرجاء المعمورة.
وهو واقع أصبح فيه انتقال الأموال والأفكار بين القارات يتم فى لمح البصر، ويمكن للمرء الحصول على ما يريده من معلومات، والتواصل مع من يريد من البشر، بضغطة زر. وبضغطة مماثلة، يمكنه أن يرسل أو يستقبل ما يشاء من مواد ومحتويات .. الخ.
وهو الأمر الذى انعكس على كل مناحى الحياة بالكامل، فقلبها رأسا على عقب. فتغيرت أنماط التعليم والعمل والتجارة والادارة والصناعة والسياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية والممارسات اليومية، وكل ما يرتبط بهذه المجالات من مفاهيم وأفكار. فبوسعنا القول بأننا نعايش تغيرا عاصفا و"ثوريا"، بكل معنى الكلمة. ولم تشهد البشرية، طوال تاريخها، انعطافا يتساوى معه فى هذه الدرجة من الحدة والجذرية.
بيد أن النتائج الأكثر أهمية، لهذا التغير، انما هى تلك التى تمثلت فى الوعى باستحالة الانعزال عن بقية أرجاء العالم، أو الانغلاق على الذات، وأن جزءا مؤثرا من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للشعوب قد أصبحت عرضة للتأثر بعوامل تقبع خارج حدودها، وبعيدا عن بلدانها، وخارج ارادات شعوبها وسلطاتها الرسمية، مهما بلغ من عتو وسطوة هذه السلطات وتلك الارادات. بحيث أضحت مفاهيم مثل: "الحدود الوطنية" و"الاقتصاد الوطنى" و"الثقافة الوطنية" .. الخ، مفاهيم غير كافية، بذاتها، مهما بلغت مستويات الصلابة والمنعة لديها، لقياس عوامل التأثير والتغيير فى الواقع المعاش لأبناء هذه المجتمعات. فالاقتصادات المحلية لم يعد بامكانها العمل على نحو منفرد أو منعزل. وأصبح "تقرير" واحد، يمكن أن تقدمه أحدى المنظمات الاقتصادية، أو نشوب حرب فى مكان قصى من العالم، أو افلاس أحد البنوك فى بلد ما، (خاصة لو كان كبيرا وغنيا) .. حدث واحد، فقط، من هذه الأحداث أو ما يشاكلها، أضحى كفيلا بزعزعة حركة البورصة والتأثير فى استقرار الأسواق وارتفاع معدلات التضخم والبطالة .. الخ، فى باقى البلدان. كما أن الأمن الوطنى لم يعد قائما على مجرد تأمين الجبهة الداخلية أو الحدود الخارجية، بل اصبح مرتبطا بموازين القوى الدولية وحجم الصراع بين أقطاب العالم، ودرجة تطور تكنولوجيا السلاح وكم التسلح فى المجال الحيوى القريب من البلاد أو حتى على الصعيد العالمى البعيد، نسبيا، عنها .. الخ.
وكذلك الأمر بالنسبة للثقافة الوطنية التى لم تعد بمنأى عن تأثيرات الخارج ونزعات بعض جهاته، ولم يعد نفاذ وتحقق تلك التأثيرات الخارجية المسلطة عليها متوقفا (على) ولا مرتبطا (ب) اجراءات (المنع) أو (السماح)، التى يمكن أن تقدم عليها السلطات المحلية. بل أصبح مرتبطا بمدى جاذبية واقناعية المواد المعروضة، وكذلك، كثافتها وقدرتها على حصار المتلقى واجتذاب اهتمامه. ويتم ذلك فى جو من المنافسة الشرسة والعنيفة مع المواد الأخرى. (سيلى الحديث عن العولمة الثقافية بعد قليل)
حتى ان أحد الباحثين يصل الى حد القول:
"أننا نعيش فى حقبة يتحدد فيها الشطر الأعظم من الحياة الاجتماعية بفعل صيرورات كونية global تذوب فيها الثقافات القومية والاقتصادات القومية والحدود القومية" (بول هيرست – جراهام طومبسون، ما العولمة، ترجمة: فالح عبد الجبار، عالم المعرفة، الكويت، 2001، ص9.)
ويمكن التعامل مع المعانى الواردة فى هذا الاقتباس على أنها تعبر عن مبالغة تصورية، أو أنها أقرب الى النبوءة أو التمنى، منها، الى الواقع الفعلى، بيد أن "صيرورات" العولمة التى نراها بأم أعيننا تتجه نحو شئ من هذا القبيل، على نحو من الأنحاء. والأساس الذى يمكن الارتكان اليه فى مدى صحة هذا الزعم يتمثل فى التأكيد على خطورة "الصيرورات الكونية" (حسب تعبير المؤلفين)، وأثرها البالغ على الداخل المحلى فى كل بلد على حدة. وبخاصة اذا كان من البلدان "المحيطية"، الطرفية، ضعيفة النمو. ويرى بهيج نصار، من ناحية أخرى، أن العولمة قد دشنت عصرا جديدا، يسيطر عليه ما يسميه ب"تقسيم العمل الدولى الجديد"، الذى تقع كل تبعاته الاقتصادية الكارثية على عاتق البلدان الفقيرة وبلدان العالم الثالث. فهو يقصد بتقسيم العمل الجديد هذا ..
"أن الشركة الاحتكارية القديمة،(يقصد فى مرحلة ما قبل العولمة)، التى كانت تنتج مكونات السلعة الواحدة، قد أصبحت شركة متعدية للقوميات، ولها توابع منتشرة فى مختلف البلدان تقوم بانتاج مكونات السلعة الواحدة ليتم تجميعها فى مراكز تجميع لها اماكن محددة. وأتاح هذا التقسيم الجديد للعمل تدويلا رأسيا لعمليات الانتاج والخدمات تسيطر عليه الشركة الأم ليضاف الى التدويل التجارى الأفقى السابق، كما أتاح هذا التقسيم فرصا كبيرة لتعظيم التراكم اذ أصبح فى مقدور الشركة متعدية القوميات أن تنقل الصناعات ذات المدخلات العلمية والتكنولوجية المنخفضة المستوى الى بلدان مستقلة حديثا، بينما تحتفظ بالصناعات ذات المخلات العلمية والتكنولوجية الكثيفة والرفيعة فى البلدان المتطورة". (بهيج نصار، مرجع سابق، ص 110)
وهو ما يحيل فى النهاية الى الهيمنة الكاملة على مقدرات الدول ضعيفة النمو، والقيام بنوع من الاستغلال الجائر لمواردها الاقتصادية، والهيمنة، بالتبعية، على قرارها السياسى. وذلك، من خلال ربطها، على نحو لايمكن الفكاك منه، بمصالح الرأسمالية العالمية التى تدير وتهيمن علي القرار السياسى فى بلدان المركز الامبريالى.
واذا كان مفهوم "العالم" المصاحب لظهور فكرة "الحداثة" قد قام، ماديا، على أساس سيطرة "الرأسمالية الصناعية" (التى يقوم نشاطها، تحديدا، على "الصناعة التحويلية")، على المشهد الاقتصادى والاجتماعى، وكل ما استتبع ذلك من تداعيات على المستويين: الثقافى والسياسى، فان مفهوم "العولمة"، المصاحب لفكرة "ما بعد الحداثة"، قد قام على أساس ما يمكن تسميته ب"الرأسمالية التكنولوجية"، على مستوى المشهدين: الاقتصادى والاجتماعى، وكل ما يستتبعه ذلك من تداعيات على المستويين: الثقافى والسياسى.
ان هذه "الرأسمالية التكنولوجية"، هى نفسها، التى يسميها د. محمد محمود الامام، اختصارا، ب"التكنولية". ويقصد بها المرحلة التى درج البعض على تسميتها بعصر "ما بعد الصناعة". من حيث أن هذا التحول، عنده، .. "لا يعنى فقط الانتقال المادى من الصناعة التحويلية، كنشاط رئيسي، الى خدمات متطورة تقوم على المعرفة التكنولوجية المتقدمة كقطاع قائد، بدأ يستوعب غالبية القوى العاملة فى الدول المتقدمة (..) فان هذا التحول التكنولى بدأ يعيد ترتيب العلاقات الاجتماعية داخل الدول التى سبقت اليه، وبين الدول وبعضها البعض". (د. محمد محمود الامام، الظاهرة الاستعمارية الجديد ومغزاها بالنسبة للوطن العربى، ضمن كتاب جماعى بعنوان: "العولمة والتحولات المجتمعية فى الوطن العربى"، تحرير د. عبدالباسط عبد المعطى، مكتبة مدبولى، القاهرة، 1999، ص102).
ان هذا الكلام لا يعنى، بالطبع نهاية الراسماية الصناعية القائمة على الصناعة التحويلية، وانما يعنى ان قيادة النمط الاقتصادى الراسمالى العالمى المعاصر قد انتقلت الى الاعتماد على الاختراقات التكنولوجية، التى أخذت طابع الطفرات المتلاحقة، وبخاصة فيما يتعلق بالتكنولوجيا: الرقمية والحاسوبية، والذكاء الاصطناعى، و تكنولوجيا "الفيزياء المتقدمة".
وبناء على ذلك، يمكننا القول بأن واقع العولمة، فى المحصلة النهائية، انما يعنى : أن الارتباط بالخارج قد أصبح حتميا ولم يعد اختياريا، وأن هذا "الخارج"، فى المحصلة النهائية، ليس الا بلدان الغرب الراسمالى والمنظمات الدولية التى تهيمن عليها، مثل صندوق النقد ومجلس الأمن ومنظمة التجارة العالمية .. الخ، فى غالب الأحوال. وأن هذا الارتباط قد بات أعمق وأوثق وأكثر تأثيرا على الداخل، من أى زمن مضى. مع ما يصاحب كل ذلك من ظواهر أهمها انتشار نهج الليبرالية الجديدة، المتمثل فى الخصخصة وتراجع دور الدولة فى مجال الاقتصاد لصالح نفوذ أكبر للشركات الكبرى ورجال الأعمال، وكذلك زيادة الفجوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء. وزيادة تبعية الدول الفقيرة وحديثة النمو، من الناحية الاقتصادية، ومن ثم السياسية، ، لبلدان المركز الرأسمالى العالمى.
تعريف مفهوم "العولمة"
يمكن القول بأن كل هذه السمات والملامح التى تقدم ذكرها، والتى تقاربت فيها أرجاء العالم الى حد التداخل، نتيجة لذلك التقدم النوعى فى وسائل الاتصالات والمعلومات، هى على التحديد، ما يطلق عليه مصطلح "العولمة" globalization.
بيد أن مصطلح "العولمة" Globalisation، بحد ذاته، لايزال يكتنفه بعض الغموض والالتباس، وربما، التناقض. فقد يرى البعض أنه مجرد توسيع لفكرة "العالمية"، مثل جيرار ليكليرك (العولمة الثقافية – الحضارات على المحك، مرجع سابق، ص20). بينما يرى آخر أن العولمة قد تؤدى الى طرق متعارضة بحسب انتماءات ومواقع من يتناولونها، فهى، بحسب (فارنيى) .. "تثير ردود فعل متباينة، اذ يرى فيها البعض بشائر كوكب ديمقراطى، توحده ثقافة كونية .. كوكب تختزله وسائل الاعلام فى أبعاد (قرية كونية) حسب عبارة مارشال ماكلوهان (لايزال الكلام لفارنيى - الباحث). ويرى فيها البعض الآخر علة فقدان محتوم للهوية التى ينوحون عليها، وأخيرا، يناضل آخرون فى سبيل تأكيد خصوصيتهم لدرجة استعمال العنف" (جان بيير فارنيى، عولمة الثقافة، مرجع سابق، ص7)
ان فارنيى هنا لا يعرف العولمة بل يتحدث عن آثارها وتداعياتها لدى من يستبشر بقدومها وكأنها الجنة الموعودة وكذلك، من يتطير منها لأنها ستطيح "بهوياتهم". والملاحظ أن فارنيى يقدم الوجهتين على نحو ساخر، فهو لا يقر أيا منهما على ما يذهب اليه. فهو يستخدم وصف "الوعد بالجنة الموعودة" لدى من يرحبون بالعولمة. كما يستخدم كلمة "النواح" لوصف موقف المتخوفين، (على نحو متهوس) من تداعيات العولمة على هوياتهم وثقافاتهم الوطنية. وهو فى المقابل لم يوضح موقفه بين الطرفين، ولكن يبدو من سخريته من كل منهما أنه يتخذ موقفا هادئا أقرب الى الموضوعية.
وهناك من ينكر أهمية التعريف بالكلية، بل يسخر ممن يحاول تقديم تعريف من نوع معين، مثل جون رالستون سول، الذى يقول: "أن طرح التعريف من خلال الأفكار المتداولة غالبا ما يشكل فخا علميا". ومن ثم، يورد مقولة لليبرالى البريطانى (جون مورلى) التى صرح بها منذ قرن مضى، على حد تقديره، حيث تنص هذه المقولة على أن: "التعريف هو أكثر الأفكار حماقة". وبناء على ذلك، يرى أنه من الأفضل معالجة موضوع العولمة فى سياقه المتكامل، أى فى تداعياته وتأثيراته المتحققة بالفعل، ليصل فى النهاية الى أن ما نعايشه الآن انما هو .. "فراغ أو فترة فاصلة بين حقيقتين لا تستندان الى منطق". فالحقائق الاجتماعية والسياسية منذ أوائل التسعينيات، حسب رصده، لم تكشف عن نفسها على النحو الذى كان متوقعا. الى أن يصل الى القول، بأن الفترة التى نعيشها انما .. "تمثل الى حد كبير فترة من فراغ الفكر الاقتصادى التى تضيف عنصرا يزيد فيه التخبط واللا يقين". (جون رالستون سول، انهيار العولمة واعادة اختراع العالم، ترجمة محمد الخولى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2015، ص26 – 28). بيد أنه يعود فى موضع آخر من كتابه الى الاقرار بأهمية ايجاد تعريف لما نحن بصدده من تحولات ملموسة، ولكنه يعيد التأكيد على اهمية أن نستخلص التعريف من خلال سياق أو من واقع النتائج المترتبة على ما يحدث.
وعلى الرغم من أن (سول) يبدى تحفظه على ما يسميه "خطر الاصرار على تعريف بعينه"، دون الاحالة الى سائر التعريفات، فانه يتحدث عن ما يمكن أن نعتبره قريبا من التعريف ويسميه هو "تلخيصا" لأفكار العولمة. وذلك، على النحو التالى:
شكل محتوم من أشكال النزعة الدولية Internationalism، يتم فى اطاره اصلاح الحضارة من منظور قيادة الاقتصاد. والقيادة هنا لا يشكلها الناس، ولكن تجسدها السوق، بوصفها القوة الكامنة لأداء الاقتصاد.
ان أقرب التعريفات من الناحية التقنية ما يقول بخفض تكاليف النقل والاتصال، مما يؤدى الى تكامل دولى فى الانتاج والاستهلاك.
ولكنه يستدرك على هذين التعريفين بالنظر الى ما ورائهما من أهداف غير معلنة، وهى ما أظنه تحقيق مصالح الرأسمالية العالمية واضافة المزيد من المكاسب لها على حساب الدول والشعوب الفقيرة.حيث نلاحظ التركيز الشديد على الجوانب الاقتصادية والمالية. فيورد عددا كبيرا من تصريحات تعود فى أغلبها الى خبراء اقتصاديين وصحافيين مختصين بالشئون السياسية والاقتصادية، مثل تصريح ألفريد ايكيس الرئيس السابق للجنة الولايات المتحدة للتجارة الدولية الذى يعرف فيه العولمة قائلا:
"عملية تؤدى فيها التكنولوجيا والاقتصاد والأعمال التجارية والاتصالات، بل والسياسة، الى تقويض حواجز المكان والزمان التى فصلت بين الشعوب". بينما يصرح أنطونى جيدينز بأن العولمة تؤدى الى "اضفاء تحولات على كل جزء فى المجتمع والسياسة"، وكذلك، يورد قول توماس فريدمان الكاتب فى جريدة النيويورك تايمز : "انها التكامل الوثيق بين الأسواق والدول القومية والتكنولوجيات الى درجة لم نشهدها من قبل". (سول، المرجع السابق ص50) وغيرهم ممن لا يخرجون كثيرا عن هذه التصورات، ذات الطابع الاقتصادى فى مجملها. ليخرج منها جميعا بالتصور التالى:
"وهكذا فالفحوى العامة لتلك التعريفات على كثرتها يتمثل فى أن التمويل الدولى أصبح أمرا تكافليا ومتشابكا مع التجارة والصناعة لدرجة أن القوة السياسية والعسكرية لم يعد بوسعهما فى واقع الأمر أن تحدثا أى تأثير." ومن ثم يقوم بنقد ذلك الزعم مؤكدا على أن القوة السياسية والعسكرية هى تحديدا من أقدمت بعد ذلك على تدمير النظم الاقتصادية التى كانت قائمة على الدوام. (انظر: سول، السابق، ص52)
ولا أو د مناقشة (سول) فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية، لخروجها عن مجال بحثنا، ولكن أهم ما يلفت النظر فى حديثه هو عدم ثقته فى ما هو مطروح من دراسات وتسخيفه لما نراه من تطورات، وأن معظم الدراسات التى كتبت فى هذا الشأن انما تقوم، فى رأيه، على تصور خيالى لعالم افتراضى مبالغ فى ضخامته وليس قائما فى عالمنا. ولا تفضى فى النهاية الا الى ما يعتبره، ساخرا، نهاية التاريخ، أو بتعبيره:
"بهذا تنكسر دورات التاريخ. بهذا يموت التاريخ".(ص45)
ومن الواضح أنه يشير، على نحو غير مباشر ، الى كتاب فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ والانسان الأخير"، الذى صدرت طبعته الانجليزية عام 1989. (وتمثلت أطروحته الرئيسية فى أن الديمقراطية الليبرالية بقيمها عن الحرية، والفردية، والمساواة، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية تشكل نهاية مرحلة التطور الأيديولوجى للانسان، وبالتالي فانه يبشر بتعميم الديمقراطية الليبرالية على كل بلدان العالم بوصفها الصيغة النهائية لممارسة الحكم والسلطة فى العالم. بصرف النظر عن حجم التمايز والاختلاف فى درجات النمو والتطور، بين بلدان العالم المختلفة (انظر: فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والانسان الأخير، ترجمة ثلاثة من المترجمين، باشراف وتقديم مطاع صفدى، مركز الانماء القومى، بيروت، 1993)
ويتفق مع هذه الوجهة، فى صعوبة تعريف العولمة، المفكر المصرى، محمود أمين العالم، الذى يعتبر أن مفهوم العولمة يكتنفه الغموض والالتباس واختلاف الدلالات عند تداوله بين العديد من المفكرين والمثقفين، العرب وغير العرب. وهو يعتبر أن هذا الاختلاف أمر طبيعى لأن الظاهرة العولمية لاتزال فى بداياتها. والمصطلح، على الرغم من كثرة تداوله، لايزال جديدا. ولكن اضافته المتميزة عن من سبقوه تكمن فى أن اختلاف وغموض وعدم حسم الصيغ التعريفية المتعلقة بمفهوم العولمة، انما يرجع الى اختلاف المناهج البحثية وكذلك الصراعات السياسية والاقتصادية، يقول:
"ان هذا الغموض والالتباس أو الاختلاف فى الدلالة، قد لايرجع فحسب الى جدة العولمة – مصطلحا ومفهوما – وانما هو نتيجة كذلك لاختلاف الرؤى والمواقف وتنوع المناهج المعرفية والبحثية ازاء المتغيرات الشاملة التى تخلقت وما تزال تتخلق موضوعيا فى بنية العلاقات والمفاهيم والقيم الصراعات السياسية والاقتصادية والثقافية، القومية منها والدولية. أو لطبيعة التعامل والتفاعل، ايجابا أو سلبا، مع مكتشفات الثورة العلمية والتكنولوجية الثالثة". (انظر: كتاب قضايا فكرية، الكتاب التاسع والعشرون، القاهرة،أكتوبر 1999 ، ص9)
وأتصور أن تنوع المناهج المعرفية والبحثية ليس بعيدا، على نحو ما، عن الصراعات السياسيةوالاقتصادية والثقافية، ولكن ما يحسب للعالم هو أنه فسر التباين والاختلاف والالتباس فى الموقف من العولمة، بحسب المصالح والصراعات بين القوى المتأثرة بظهورها. وأن هذه الصراعات تعد العنصر الحاسم فى تفسير هذا التباين والاختلاف والالتباس.
وفى اضافة أخيرة، يرى (العالم) أن هذا المصطلح "لا يعبر عن قطيعة معرفية مطلقة عن ما سبقه، بل عن تطور مفهومى متوافق مع تطور موضوعى" (المرجع السابق ص9). وأظن أنه يقصد، بذلك، أن العولمة لاتعد طورا، بحد ذاتها، بقدر ما تعد تطورا لواقع سابق عايشناه فى مرحلة "العالمية"، وهو فى ذلك يتفق مع جيرار ليكليرك وآخرين ممن عرضنا لآرائهم قبل قليل.
وبعيدا عن الاحجام عن تقديم تعريف واضح أو محدد بدعاوى متعددة، كما وجدنا عند من تعرضنا لآرائهم آنفا، فى معرض محاولاتهم لتقديم تعريفات لمفهوم العولمة، يقدم دينيس سميث أكثر التعريفات جرأة ووضوحا وأقربها الى ما تم تشخيصه من سمات وخصائص تميزت بها ظاهرة العولمة. فيقول:
"تعنى العولمة الانصهار التدريجى للعلاقات بين المجموعات والمجتمعات، حتى تلتقى العلاقات فى النهاية، من أدنى العالم الى أقصاه، وعلى اختلاف اتجاهاته." (دينيس سميث، الأجندة الخفية للعولمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2011، ص18)
أى أنها تمثل نوعا من أنواع الدمج (الانصهار) لمكونات العالم من "مجموعات" حضارية و"مجتمعات" وطنية، بكل تلاوينها ومواقعها الجغرافية وانتماءاتها الحضارية والثقافية.
وما من شك فى أن نواتج الدخول فى عصر "العولمة"، على هذا النحو، قد منحت هيمنة اضافية، فوق الهيمنة التقليدية القديمة، لقوى الرأسمالية العالمية ذات النزوع التوسعى الامبريالى، فأضحت سيفا مسلطا على رقاب شعوب العالم الثالث وكل بلدان "الأطراف"، بحيث أصبح واقع الارتهان والتبعية للخارج أكثر وطأة.
فتم تهديد الاستقلال الوطنى، بل الدولة الوطنية نفسها بوصفها كيانا سياسيا جامعا، وكذلك الاقتصاد الوطنى، الذى أصبح يقف هزيلا ضعيفا فى مواجهة رياح العولمة العاتية، ليخوض منافسة غير متكافئة مع شركات عالمية عابرة للقوميات والقارات، وقد بلغت، هذه الشركات، من القوة ما جعل رأس مال الواحدة منها يربو على ميزانيات دول متوسطة النمو. كما تتعرض الهويات الثقافية لشعوب بلدان الحضارات التقليدية القديمة لخطر الازاحة والتهميش، فى مقابل تسييد نمط ثقافى وحضارى واحد، هو النمط الغربى. وهو ما يحرم الحضارة الانسانية من الغنى والثراء الذى يغذيه التعدد والاختلاف.
ولعل هذا الأمر ناتج، تحديدا، عن طبيعة النظام العالمى الراهن. فهو نظام أحادي القطب، (منذ انهيار الاتحاد السوفيتى ومنظمة البلدان الاشتراكية عام 1992). وتهيمن، (حتى الآن، على الأقل)، على مقدراته الارادة الأحادية للمركز الرأسمالى (الاستعمارى) الأورو – أمريكى، الذى لايخفى عنصريته وعجرفته وأنانيته وعداءه للشعوب وحقها فى العيش بحرية وعدل وسلام. فضلا عن أن التنافس الصناعى المحموم يؤدى بصورة ملموسة الى استنفاذ المصادر الطبيعية على نحو جائر، اضافة الى المزيد من ارهاق النظام البيئى على نحو قد يهدد استمرار الحياة على كوكب الأرض.
لكل ذلك وجدت العولمة من يناهضها ويقاوم نتائجها. وسيلى الحديث تفصيلا عن ذلك، فيما بعد.
ويهمنا، الآن، التركيز على تأثيرات ظاهرة العولمة على الجوانب الثقافية، التى أراها على جانب استثنائى من الأهمية والخطورة، نظرا لارتباطها المباشر بقضايا الهوية الوطنية والذات الحضارية لمجتمعاتنا، فضلا عما تمثله من تهديد مباشر لتماسك ووحدة مكونات هذه المجتمعات، وربما تهدد بقاءها ذاته.
فما هى العولمة الثقافية وما سماتها وما حقيقة المخاطر الناجمة عنها، وهل يمكن مواجهتها؟؟ وبأى كيفية؟؟
العولمة الثقافية
لقد مر بنا الحديث عن ما حققته ثورة الاتصالات والمعلومات من تقارب بالغ بين شعوب وبلدان العالم، بحيث أضحى التراث الثقافى والمكونات والتفضيلات الثقافية لكل الشعوب فى متناول الجميع. حتى وجدنا الشعوب تنتقل من عالم قديم، سيطرت فيه العزلة الثقافية الى حد انعدام المعرفة عن الآخر، أو معرفته على نحو خرافى مشوش، الى عالم آخر يسوده التبادل والتداخل الثقافيين. وتلك الحالة الأخيرة هى ما يسميها المفكر الفرنسى (جان بيير فارنيى) ب"عولمة الثقافة"، التى يرى أنها تثير ردود أفعال متباينة .. "اذ يرى فيها البعض بشائر كوكب ديمقراطى توحده ثقافة كونية – كوكب تختزله وسائل الاعلام فى أبعاد "قرية كونية"، حسب تعبير مارشال ماكلوهان. (لا يزال الكلام لفارنيى). ويرى فيها البعض الآخر علة فقدان محتوم للهوية التى ينوحون عليها. وأخيرا يناضل آخرون فى سبيل تأكيد خصوصيتهم لدرجة استعمال العنف" (جان بيير فارنيى، مرجع سابق)
وهو ما يعنى ما أشرنا اليه، آنفا، من تقارب أصقاع العالم، على النحو الذى قد يؤدى، من ناحية، الى طرح متساو ومتفاعل للثقافات الانسانية. كما أنه يمكن، أيضا، أن يؤدى، من ناحية أخرى، الى (ارتطام) هذه الثقافات وتصارعها، بما يمكن أن يتيح لثقافة واحدة بعينها امكانية الهيمنة على باقى الثقافات الانسانية. وبما يؤدى الى التهديد بفقدان الهوية لمجتمعات عديدة شاركت فى صنع الحضارة منذ القدم. وهذا الاحتمال الأخير هو ما يجعل البعض يناضلون من أجل تأكيد خصوصيتهم لدرجة الاستعداد لاستعمال العنف واسالة الدماء.
وأظن أن فارنيى يقصد، بهذا (الصنف الأخير)، أصحاب النزعات الأصولية، التى أشرت اليها آنفا. سواء، أكانت دينية أو مذهبية (طائفية)، أو عرقية، أو مناطقية (جهوية) الخ. (وسيلى الحديث عن ذلك، على نحو مفصل، فى الفصل التالى).
واذا كانت العولمة قد انطلقت من الانجازات التكنولوجية وكان تأثيرها الأبرز والأول يتموضع فى مجال الاقتصاد، فان تأثيراتها فى المجال الثقافى قد مثلت النتيجة الطبيعية المحتومة. من حيث أن تطور الأدوات المادية والأوضاع الاقتصادية يساهم فى خلق "بنية تحتية" جديدة، (اذا استخدمنا التعبيرات الماركسية)، أو على الأقل يؤثر على نحو ملموس فى طبيعة "البنية التحتية" القائمة بالفعل، (أى يغير فى طبيعة "قوى الانتاج" و"أدوات الانتاج"، وان لم يحن، بعد بالطبع، أوان الحديث عن تأثير لافت فى "علاقات الانتاج" الرأسمالى السائدة، حتى الآن). واذا تم التغيير فى البنية التحتية فان تغييرا مقابلا فى "البنية الفوقية"، (والمقصود بها الآداب والفنون والقوانين والنظم الادارية والأخلاقية والعادات والمعتقدات .. الخ)، يغدو أمرا حتميا. وان كان ذلك لايتم على نحو فورى أو بصورة آلية، فهو بالتأكيد يمر عبر حالة من "الديالكتيك" الذى يستغرق فترة زمنية تقل أو تقصر. وذلك، بحسب مقدار قوة وزخم الجديد فى مواجهة القوة المقابلة له، وفى هذه الفترة الزمنية تدور عملية صراعية "جدلية" عنيفة بين القوتين، ولكن نتائجها تعد محسومة فى حتمية انتصار ما يتوافق مع طبيعة المعطيات والمتطلبات الاقتصادية والتكنولوجية الجديدة، ولو بعد حين قد يطول أو يقصر.
وقد يحاول البعض التسوية بين مظاهر العولمة فى مجال الاقتصاد، والعولمة فى مجال الثقافة، من حيث التطور نحو وضعية الدمج والترابط والتداخل .. الخ. بيد أن المجالين يختلفان، عن بعضهما، اختلافا بينا. سواء أكان ذلك، فى الطبيعة النوعية، أو فى الخصوصية التى يتميز بها كل منهما على حدة. فمما لا شك فيه أن المجال الاقتصادى يعتبر أكثر مرونة وطواعية للتغيير من نظيره: الثقافى. فضلا عن الخصوصية النسبية التى تتميز بها المسألة الثقافية، وذلك لطبيعتها الحساسة المتداخلة مع مفاهيم الهوية والذات الحضارية كما تم توضيحه، منذ قليل.
ويحاول المفكر الفرنسى جيرار ليكليرك التفرقة بين أثر العولمة فى كلا الجانبين: الثقافى والاقتصادى، حيث يؤكد على أن .. "الثروات الثقافية ليست مجرد ثروات عادية" .. وأنه على الرغم من أن .. "المعلومات والأفكار والايديولوجيات والمعارف والديانات هى رموز وعلامات هى أيضا ثروات تم "انتاجها" من قبل بعض الأفراد والجماعات، وهى "تنتشر" (بواسطة أفراد آخرين أو جماعات أخرى)، وهى "تستهلك" (من قبل جماعات ومجموعات واثنيات وثقافات، وبنهاية المطاف من قبل أفراد) (...) فان الأمر يتعلق أولا بثروات لامادية".. (جيرار ليكليرك – مرجع سابق، ص19- 20)
حيث يصنف ليكليرك التراث الثقافى الانسانى فى خانة "الثروات"، بما توحيه كلمة "ثروات" من معنى مادى ملموس. فهى تقوم، عنده، على "منتج" و"وسيط" و"مستهلك". وتلك، هى عناصر تقييم الثروات المادية: كالمصنوعات أو المزروعات أو المعادن .. الخ. بيد أن هذه الثروات تتميز، لديه، بأنها ليست ثروات عادية، بل فوق عادية، أى تمتلك صفات وسمات استثنائية، ترتفع بها عن الطبيعة المادية والاستهلاكية للثروات العادية. وهو الأمر الذى يمنحها، بالتالى، وضعية ترفعها فوق "التثمين" المادى، فهى ببساطة لاتقدر بثمن، ولا يجرى عليها ما يجرى على الثروات المادية من امكانية البيع أو الشراء أو المقايضة. وذلك، لأنها تتمتع، فيما أرى، (وهو ما لم يذكره ليكليرك)، بنوع من القداسة، سواء لارتباطها (الجزئى أو الكلى) بالدين، أو لارتباطها بالتقاليد الراسخة والمكرسة عبر الأزمان، مما يمنحها نوعا من القداسة يشبه، الى حد ما، قداسة الدين.
فى المقابل فان جان بيير فارنيى يرى أن الثقافة تمتلك بعض الخصوصيات بوصفها بناء كليا شاملا، يكتنف كل ما هو متعلق بالوعى والعقائد والعادات .. الخ وهى العناصر التى اكتسبها الانسان بحكم انتمائه الى مجتمع أو جماعة بشرية معينة. وبالتالى فان عملية التغيير فيها محفوفة بمخاطر عنيفة، قد تصل الى حد "الاستلاب"، يقول:
"ولا توجد ثقافة غير مرتبطة بمجتمع معطى ومحدد تاريخيا وجغرافيا، ولا يمكن لثقافة أن تعيش وتنتقل بكيفية مستقلة عن المجتمع الذى يغذيها، وبالمقابل لايوجد فى العالم مجتمع لايملك ثقافته الخاصة. وبهذا فان كل ثقافة مدمجة اجتماعيا." (جان بيير فارنيى، مرجع سابق ص11)
وهو ما يمكن أن نستنتج منه أن الخصوصية الاستثنائية للثقافة، على النحو الذى ذكره فارنيى، من حيث ارتباطها بواقع مجتمعى متكون عبر أحقاب تاريخية عميقة وغائرة فى الزمن، تجعلها مغايرة تماما، فى ما يتعلق بطواعية الاستجابة، لعمليات الدمج والتداخل العولمى. الى جانب ذلك فان فارنيى يعتبر أن منتجات الصناعة تملى أنواعا من الممارسات الثقافية، مثل ثقافة الغذاء والملبس والطعام .. الخ. ومن ثم تصبح الصناعة، بحد ذاتها، بمثابة ثقافة. وهى تتميز عن باقى الثقافات الأخرى بأنها .. "مزودة من لدن الصناعة بقوة انتشار كوكبى. والواقع أن الصناعة هى نفسها تقاليد متجذرة داخل تاريخ محلى ولكنها ذات نزعة عالمية بوساطة التكنولوجيا والاستثمارات والسوق" (فارنيى مرجع سابق ص25)
وهو الأمر الذى يجعل من التطور الصناعى ومنتجات التكنولوجيا المتقدمة Hi tec أدوات فعالة للغاية، فى التأثير الثقافى والتحول الهوياتى، باتجاه الحداثة وما بعدها. وقد سبق لى الحديث عن أن المنتجات الصناعية والماكينات ليست عناصر محايدة، بل انها عناصر تحمل وعيا وقيما وأنماط تفكير ومنازع سلوكية. وهو المعنى الذى يذكرنا بقول كارل ماركس:
"أيها السادة أن البخار والكهرباء والمغزل الآلي، هم ثوريون أكثر خطورة حتى من باربيه وراسبال وبلانكى" (كارل ماركس، المؤلفات، المجلد 16، موسكو، دار التقدم، 1980، ص655)
بما يعنى أن (الصناعة) هى التى تخلق الظروف والأوضاع الطبقية، من ناحية، كما أنها تخلق الوعى اللازم للتعامل مع نتائجها، من ناحية أخرى. وعلى ذلك فان "صناعة الثقافة" لابد أن تتأثر حتما ب"ثقافة الصناعة"، والسلع المتطورة التى تقوم بانتاجها. وما "الاعلان" و"التسويق" و"المضاربة" و"المنافسة" و"الاستهلاك" .. الخ، الا ممارسات مصاحبة لثقافة الصناعة. وهذا كله يدخل بوصفه عناصر ومكونات ثقافية.
وعلى هذا فان عملية التأثير والتغيير الثقافى، بفعل عوامل التطور التكنولوجى، التى لايمكن تجنبها أو تخطيها، قائمة بصورة حتمية. سواء، شئنا ذلك أم أبيناه. بيد أن السؤال الاضافى والأكثر خطورة انما يكمن فى: ما الذى تحمله تلك الوسائط التكنولوجية من جوانب وتوجهات، تمثل محمولات ثقافية اضافية، أخرى ؟؟ بما قد يجعلها، فى هذه النقطة بالتحديد، تمثل تحديا للتطور الثقافى الحر والتلقائى للمجتمع المحدد. وما قد يحرم بعض هذه المجتمعات من انسجامها وتداخلها وتفاعلها الثقافى الطوعى الطبيعى، سواء مع مكوناتها الداخلية الخاصة، أم مع الثقافات الأجنبية الوافدة. وهو ما قد يخلق، فى تقديرى، "جيتوهات" أو معازل ثقافية مغلقة ومختلفة ومتناقضة، على نحو قد يصل بها الى حد التمزق والتناحر والاستلاب. وقد رأينا فى الأعوام الأخيرة التأثير النفسى السلبى للغاية لبعض الألعاب الأليكترونية، التى قد تصل بالبعض، ممن يمرون بمراحل عمرية معينة، الى حد الانتحار.
وفى هذه النقطة يلفت تيرى ايجلتون الأنظار الى بعد آخر من العولمة الثقافية، يتمثل فى أن بعض المدافعين عن سياسات الهوية، التى كان يتم تصنيفها ضمن الحركات التحررية المعاصرة، قد ابدوا فى بعض توجهاتهم، نوعا من الانغلاق والاستعلاء والابتعاد عن التسامح. فقد مثلت هذه الحركات .. "بما أظهرته من صمم حيال الحاجة الى التضامن السياسى الواسع، نوعا من الفردانية الخاصة بجماعة والتى تعكس الروح الاجتماعى المسيطر بقدر ما تخرج عليه (..) حيث يمكن لمجتمع مفتوح أن يغدو، فى أسوا الأحوال، مجتمعا يشجع سلسلة كاملة من الثقافات المغلقة." (ايجيلتون، مرجع سابق، ص 253)
وأظن أن تيرى ايجيلتون يقصد، هنا، بعض تلك الدوائر الثقافية والسياسية الغربية، التى تتبنى وتدعم السياسات والتوجهات الثقافية لبعض الجماعات المتطرفة، دينيا أو عرقيا، أو جندريا. واستخدامها بوصفها سلاحا، فى أحيان كثيرة، فى مواجهة الدول المختلفة مع السياسات الغربية. مثل تبني قضية "الأويجور" فى الصين، أو رعاية "النازيين" الجدد فى أوكرانيا. ومثل التعاطف مع جماعة الاخوان وغيرها من الجماعات الدينية المتطرفة، وكذلك تشجيع أى نزعة ثقافية انفصالية ومنكفئة على ذاتها فى بلدان العالم الثالث. ولذا فان ايجيلتون يحذر من مغبة التأثيرات الخطرة للثقافة عندما يتم التلاعب بها وتحويلها الى غير غاياتها الايجابية، فتصبح كابوسا مخيفا ومرعبا. فاذا كانت الثقافة باهميتها القصوى تتجاوز "ما نحيا به" لتصبح "ما نحيا من أجله"، حسب تعبيره .. "غير أن من الممكن للثقافة أيضا أن تكون مخيفة ومرعبة. بل ان حميميتها ذاتها تغدو مرضا ووسواسا مالم توضع فى سياق سياسى مستنير". (ايجيلتون السابق، ص256).
وأظن أن العبارة الأخيرة التى أوردتها فى هذا الاقتباس يمكنها أن تلخص الكثير من الهواجس التى تثيرها قضية الثقافة فى عصرنا، فالثقافة يمكنها أن تكون أداة انطلاق وتحرر ورقى حضارى واقتصادى .. الخ، كما كانت فى معظم الدورات التاريخية. ويمكن، كذلك، أن تشكل خطرا هائلا يصل الى حد تهديد سلامة ووحدة وحتى وجود البلاد، ذاتها. وقد خبرنا نحن أبناء المنطقة العربية والاسلامية ويلات هذا العرض الأخير فى عشريتنا السوداء (حقبة التسعينيات)، عندما غزت عقول أبنائنا وبناتنا أفكار صحراوية رجعية حرمت كل شئ يمكنه أن يجعل الحياة قابلة لأن تعاش وكادت أن تقضى على هويتنا وذاتيتنا الوطنية، من خلال اذكاء نيران الطافية والصراع الدينى حتى داخل الاسلام نفسه، وأينا داخل الجماعات المتأسلمة المؤمنة بالأفكار ذاتها. وما الاحتراب الأفغانى بين الجماعات "الجهادية" الا نموذج عادى على ذلك. واستخدم الموضوع الثقافى (الدينى) كذلك، وقودا للحرب فى سوريا وليبيا واليمن والصومال وبعض بلدان أفريقيا حتى لحظتنا هذه فى الربع الأول من عشرينيات القرن الحادى والعشرين.
وفى كل هذه المخاطر الثقافية كانت القوى المحركة هى الأجهزة والادارات الغربية (أورو – أمريكية)، بصورة تكاد أن تكون مباشرة. فى الهامش (لاحظ أزمة العلاقات بين الدولة المصرية والولايات المتحدة بعد الاطاحة بحكم الاخوان عام 2013 ، من خلال ثورة شعبية كاملة الأركان، بينما تصر ادارة أوباما وهيلارى كلينتو على أنها انقلاب عسكرى وتعاقب مصر على ذلك.) وقد أوضحت هذه الحالة بالتفصيل فى كتابى: صعود وانهيار الاسلام السياسى فى مصر الصادر عام 2021.
ان خطورة هذه التحديات انما ترجع الى ما ذكرناه فى السابق عن الأهمية الاستثنائية للثقافة، فهى ليست معطى مجانيا، ولم توجد للزينة أو الرفاهية، بل هى تمثل الأساس الذى، بموجبه، تتكون وتتلاحم وتتوجه الشعوب، وتندمج وتتماسك وتتطور (أو تتخلف) الأوطان. من حيث أنها تشكل العمود الرئيسى الذى يرتكز عليه مفهوما: "الوعى" و"الهوية"، واللذان يعدان، بدورهما، عنوانا الوجود والتطور والبقاء، سواء، للفرد أو الجماعة.
ومفهوم الهوية هو الذى تتحقق على أساسه مهمة تلبية الحاجات النفسية والروحية، للفرد والجماعة، معا، فى الاحساس بشعور "الانتماء"، بالنسبة للفرد، وشعور "الاكتمال"، بالنسبة للجماعة. مما يجعلهما شعورين ضروريين للغاية ولا يمكن الاستغناء عنهما، لكلا الطرفين. لأن فقدانهما يؤدى الى الشعور بالضياع، للفرد. والتمزق والفناء، للجماعة.
ويرجع ذلك الى أن الانسان، بحسب ماهو منسوب الى أرسطو، "حيوان اجتماعى". وهى الحقيقة التى اكدها كل علماء النفس والاجتماع القدامى والمحدثين، على السواء. فالانساء الفرد لايمكنه أن يعيش بدون الانتماء الى جماعة، واذا أردنا عقابه فاننا نحرمه من الوجود وسط جماعته الطبيعية، وذلك، عن طريق سجنه أو نفيه. كما أن الجماعة لاوجود حقيقيا لها، مالم تربطها قيم وأفكار ومفاهيم ومعتقدات مشتركة ومحل اجماع من قبل جميع أفرادها. بل ان الجماعات القديمة فى مرحلة القبيلة والعشيرة كانت تتطير وتتشاءم بشدة فى حال خروج أحد أفرادها على نواميسها وقواعدها الأخلاقية والروحية المستقرة. فكانت تقوم ب"خلع" ذلك الفرد وطرده من الحياة بين جنباتها، بأن تخلع عنه شرف الانتماء لها. ولعل ذلك الحكم كان يساوى، فى أعراف ذلك الزمان، الحكم بالاعدام، من حيث أنه لا حامى لهذا الفرد ولا مدافع عنه الا قبيلته. بل ان القيمة الشخصية لهذا الفرد كانت تستمد، تحديدا، من خلال انتمائه الى قبيلة (سلالة) بعينها. وكان هذا يتم بصرف النظر عن ملكات أو أخلاقيات ذلك الفرد الشخصية. فكان الفرد ملخص القبيلة، وكانت القبيلة مرجع وموئل الفرد.
ولعل هذه الحالة هى التى أطلق عليها المنظر المجرى، جورج لوكاتش، تعبير : "مرحلة الوحدة البدائية بين الفرد والجماعة". وهى وحدة حتمية يتبادل فيها الطرفان عنصرى: "الانتماء" و"الحماية".
وفى العصور الحديثة أخذ مفهوم الهوية الثقافية طابعا أكثر اتساعا، فلم تعد تقتصر على جماعة بشرية صغيرة مغلقة، بل أضحت تهيمن على مساحة "جغرافية – تاريخية" كبيرة تسمى ب"الدولة الوطنية". وهى تلك التى تمثل نمطا بارزا ومنتشرا لدى الغالبية العظمى من النظم السياسية الحديثة. وأقصد بها تلك النظم التى تكونت بعد الانتصار التاريخى للطبقة "البرجوازية"، وتصدرها للمجال الاقتصادى والسياسى العام، بوصفها طبقة رئيسية حاكمة وقائدة للمجتمع. ويمكن أن يمثل انتصار الثورة الفرنسية، التى اندلعت عام 1789 0، العنوان الأبرز لدخول العالم الى ذلك "العصر البرجوازى". حيث حلت الدولة الوطنية (القومية)، ذات الحدود الجغرافية الواضحة والسمات الثقافية (الفكرية والروحية والسلوكية) المحددة للسكان، محل الدولة الامبراطورية الملكية التى تقوم على مفهوم التوسع وضم الأراضى، بصرف النظر عن هوية السكان وسماتهم الثقافية والروحية.
وفى هذه المرحلة (الوطنية) الجديدة بات على الثقافة أن تنوء بعبء اضافى جديد، ألا وهو دمج هؤلاء السكان، وربط الأواصر بين مكوناتهم، وحشدهم تحت لواء الدولة الوطنية الجديدة. ومن هنا ظهر مفهوم "الثقافة الوطنية" التى التبست بدلالات "قومية" واضحة فى بدايات التكوين (نهايات القرن الثامن عشر وطوال القرن التاسع عشر). ثم شرعت فى التعبير المتساوى عن المجموع السكانى المنتمي لهذا الوطن، أيا كانت منابعه القومية.
وعلى ذلك فانى أرى من الضرورى، فى هذا الصدد، التفريق بين كل من الانتماء القومي Nationalism و الانتماء الوطنى Patriotism . من حيث أن الأخير يمثل التطور الأكثر اتساقا مع مفهوم "الدولة المدنية الحديثة". بحث يتكون مفهوم الثقافة الوطنية الجامعة، هنا، من تشكيلة ثقافية واسعة، تشمل كل المجموعات العرقية والثقافية المكونة للكل المجتمعى السكانى العام للوطن. وهو (الكل) الذى يقوم على أساسه البناء الثقافى للدولة الوطنية المعاصرة، وان كان بنسب متفاوتة بالطبع.
بينما يمكن أن يحيل مصطلح "القومية"، فى بعض التصورات، الى نوع من "الشوفينية" والتعصب العرقى، بل، "كراهية النوع"، وهو ذلك الذى لاحظنا نتائجه مع بعض التجارب السياسية القومية المتطرفة، مثل النازية والفاشية، فى أوربا، وأضرابهما فى زمننا الراهن، فى العديد من بلدان العالم.
وعلى هذا فقد كانت الثقافة، فى كل تلك الآونة، بداية من الماضى السحيق الى الزمن الراهن، عنصر توحيد ودمج، من حيث كونها المكون الرئيسى لمفهوم "الهوية"، كما ذكر آنفا.
ويعرف جان بيير فارنيى مفهوم "الهوية" بوصفه المفتاح الرئيسى لفهم الشخصية الوطنية والسمة الدالة عليها، على النحو التالى:
"تقع اللغة والثقافة فى قلب ظاهرات الهوية، وقد عرف مفهوم الهوية نجاحا مطردا فى حقل العلوم الاجتماعية منذ السبعينيات (يقصد سبعينيات القرن العشرين) (...) وتتحدد الهوية بصفتها مجموع قوائم السلوك واللغة والثقافة التى تسمح لشخص أن يتعرف على انتمائه الى جماعة اجتماعية معينة والتماثل معها" (فارنيى، مرجع سابق ص14)
فالهوية، عنده، تقوم على عنصرى: اللغة والثقافة. ولا أدرى ما الذى جعله يفرق بينهما، فاللغة جزء من الثقافة ولا تنفصل عنها بأى حال، فيما أذهب. كما أنه لا يعلل أسباب ظهور مفهوم الهوية فى فترة السبعينيات على وجه التحديد، (وقد سبق لنا مناقشة هذه القضية فى النقطة المعنونة ب"بداية العولمة").
ولكن تتبدى أهمية ما يقوله فارنيى فى التأكيد على أن الهوية هى "مجموع قوائم السلوك واللغة والثقافة"، أى أنها تمثل تلك التشكيلة المتكاملة من الأعراف والمفاهيم والمعتقدات والخصائص الذوقية والسلوكية، التى تترسخ لتصبح جاهزة للاستخدام على نحو تلقائى ومباشر، من قبل الأفراد دون تفكير أو تكلف، فقد أضحت جزءا من كيانهم ومن طبائع الأشياء لديهم. وبما يتيح لهؤلاء الأفراد امكانية التمتع (بدفء) الانتماء الى جماعة، عن طريق التماثل والتمازج مع باقى أفرادها. واذا تذكرنا ما قلناه من قبل حول أهمية الانتماء الى جماعة بالنسبة للفرد، من حيث هو "حيوان اجتماعى" لا يمكنه أن يعيش بمفرده أو بدون يتعرف على انتمائه .. الخ، فاننا نستطيع تقدير أهمية الهوية، سواء، بالنسلة للفرد أو للجماعة.
وبالطبع تتواجد دائما امكانيات واحتمالات التغيير والتطوير فى مكونات الهوية (وهى، على أى حال، متحركة ومتغيرة على الدوام، بصور ودرجات متباينة، على مدار التاريخ ولدى جميع الشعوب، وسيأتى الحديث، تفصيليا، عن ذلك فى الفصل التالى). وذلك، عبر ممارسة أنواع من النقد والمراجعة تجاه بعض مواضعاتها ومكوناتها. بيد أن هذا النشاط قد يوجد فقط فى مراحل الاحتكاك والتعامل مع جماعات أخرى، وكذلك مع التغير الذى يصاحب التطور التقنى والاجتماعى والسياسى، عبر أحقاب التاريخ الذى لا يتوقف. بينما يمكن ملاحظة أنه كلما أوغلت الجماعة فى القدم، وأوغلت فى العزلة، (أى كلما كانت الجماعة تعيش فى مراحل تاريخية سابقة، سواء، من حيث الزمن الواقعى، أو من حيث الشروط الحضارية العامة المتدنية، فى العصر الراهن ، الى جانب تقوقعها على ذاتها وعدم احتكاكها مع الآخر)، يكون التغير بطيئا، الى حد كبير. بحيث يمكن أن تمر عدة قرون لنشهد تغيرا ملموسا، على نحو ما. وذلك بخلاف شروط ومعطيات الواقع التى تميز الزمن الراهن، واقع الاحتكاك والاندماج، حيث تتسارع فيه وتيرة التغيير والتطور الحضارى، بدرجة قد لايستطيع البعض ملاحقتها.
ومن الضرورى أن نلاحظ، هنا أيضا، أن عمليات التغيير والتطوير فى مكونات هوية معينة، انما ينتج عن أحد عاملين، أو عنهما، معا، مجتمعين:
اما بناء على توجه طوعى من قبل الجماعة باتجاه "التثاقف" مع جماعات أخرى لتلبية حاجاتها المتجددة، أو أن تبتكر الجماعة أو أفراد منها، ذاتيا، أنماطا جديدة من الفكر والسلوك (وهذا قليل، الى حد ما، ويخضع لعمليات بالغة التعقيد والتركيب. وقد تكتنفها حالات من الصراع والعنف، مثل الصراع الذى خاضه أخناتون فى مواجهة كهنة آمون فى مصر القديمة، والصراع الذى خاضه النبى محمد (ص) فى مواجهة قريش، والصراع الذى خاضه مارتن لوثر فى مواجهة كنيسة روما الكاثوليكية، على سبيل المثال). وجميعهم انطلق من حاجات ثقافية وواقعية حقيقية، وعبر عن رغبات مجتمعية وانسانية لا يمكن الشك فى وجودها.
و اما عن طريق أنواع من القسر الثقافى الناتج عن عملية املاء بقوة السلاح من قبل قوة غازية. مثل عمليات فرض الدين أو اللغة بالقوة الجبرية، (مثل الفتوحات الدينية أو باسم الدين على مدار التاريخ، أو فرض اللغة الفرنسية على شعوب المغرب العربى). أو تحت تأثير الاستلاب الروحى والنفسى، الناتج عن الهزيمة القومية، والذى يحدث نوعا من الولع (المرضى) بثقافة الأقوياء والغزاة المنتصرين. سواء، أكان ذلك فى الماضى الامبراطورى، أو الحاضر الاستعمارى.
(وسيلى الحديث، تفصيليا، عن عمليات التفاعل الثقافى فى الفصل التالى)
ان هذه "الهوية الوطنية"، على أهميتها، التى أفضنا فيها الحديث، قد باتت الآن، من الناحية الواقعية الملموسة، فى منطقة الخطر. وذلك من جهة التهديدات التى تطالها بفعل التأثيرات "العولمية" العاصفة. نظرا لأنها باتت تتعرض لأنواع ودرجات من المنافسة والمراجعة والتهديد بالازاحة، بعد أن كانت، فى السابق، تمثل قدس أقداس الجماعات التقليدية والقديمة، وخاصة الجماعات والحضارات المغلقة (وهذا أمر نسبي بالطبع، مع الأخذ فى الاعتبار الانفتاح التدريجى والنسبى، بمرور المراحل التاريخية المتعددة والتى تمت الاشارة اليها آنفا)، حيث تقوم بالحفاظ عليها ولا تسمح بالمساس بها أو اضعافها.
وسائل التهديد الثقافى والنتائج الناجمة عنها:
يقوم التهديد للثقافات والهويات الوطنية عن طريق عدد من الأدوات التى تتمحور جميعها حول أدوات البث الثقافى الحديثة المتسلحة بعنصرى: "الابهار" و"المواكبة". ويمكن تلخيص هذه الأدوات فى العناصر التالية:
وسائل الاعلام الكبرى من صحافة وسينما واذاعة وتليفزيون وكل شركات الانتاج الفنى المرئى والمسموع، فضلا عن شركات ودور نشر الكتب. وهى تمثل، فى عصرنا الراهن، امبراطوريات مالية كبرى، تشغل جيوشا من الخبراء والعاملين والفنيين. وقد يتولى عملية الانفاق عليها وتشغيلها وتوجيهها أفراد أو دول. ولكنها جميعا، تعمل طبقا لاستراتيجيات بعيدة المدى غرضها صياغة وتوجيه الرأى العام، حسي تصورات ليست بعيدة عن دوائر المخابرات والأجهزة العميقة للدول المشغلة لهذه الوسائل.
الشركات المالكة للابتكارات التكنولوجية التى تقوم عليها تطبيقات الوسائط الرقمية، المتمثلة فى محتويات مواقع "شبكة الانترنت" ، بما تحتويه من منصات التواصل الاجتماعى (فيس بوك) وأفلام "اليوتيوب" وتطبيقات "التيك توك" وغيرها. وتقوم على عمليات الانتاج، فى هذه الشركات، امبراطوريات مالية كبرى، أيضا. ويهمها بالمقام الأول، المعلن، خدمة مصالحها فى تحقيق الأرباح ، ولكن غايتها المضمرة، الى جانب ذلك، وربما قبله، والتى تظهر بين حين وآخر، تكمن فى محاولة طمس الأفكار والمفاهيم المعادية أو حتى المغايرة لتوجهاتها، فى مقابل نشر الأفكار والقيم والمفاهيم، التى هى، على التحديد، الأفكار والقيم والمفاهيم التى تخدم مصالح الرأسمالية العالمية، ذات النزوع الامبريالى. والتى تنتمى اليها هذه الشركات على نحو عضوى، وتعد أحد أفرعها الرئيسية.
ومثال ذلك موقف موقع جوجل من خريطة "فلسطين"، التى يصر على تسميتها بخريطة "اسرائيل". أو أن يقوم موقع فيس بوك face book بحظر أى حساب، وحذف أى منشور، يتعارض مع توجهه، بوصفه موقعا غربيا ممالئا للسياسات الاستعمارية ويعمل على التخديم عليها. وكذلك الموقف، غير الموضوعى بالمرة، لهذه الوسائط من القضية الفلسطينية، أو حتى من طريقة بثه للأخبار المتعلقة بالحرب الروسية - الأوكرانية .. الخ.
واذا كانت هذه الوسائط لا تعدم تقديم بعض الفوائد، على مستوى تقريب المعارف واتاحة المعلومات وتسهيل التعلم الذاتى والجماعى، فان الهدف الأخطر الذى يمكن تصور تحقيقه، انما يتمثل فى ما ينجم عن كل ذلك من عملية تسييد لون واحد من ألوان الثقافة البشرية وهو فى الأغلب الأعم، اللون الثقافى الغربي، وطرحه باعتباره الثقافة الوحيدة الممثلة لروح العصر، ومصدر الصرعات الجديدة، والمعيار الوحيد لمفاهيم : "الرائع"، و"الجميل"، و"العالمى".
فضلا عن تسييد المنطق الاقتصادى الاستهلاكى الربحى، وتحويل الاقتصاد الى "دين جديد". وتلك هى القيم التى تخدم الرأسمالية العالمية ذات النزعة الاستعمارية.
وذلك، عبر معالجات تتميز بالاحترافية والتطور التقنى، على نحو بالغ "الكثافة" و"الالحاح" و"الابهار"، وبأشكال منقطعة النظير لدى الدول الطرفية أو حديثة النمو والتى تجد صعوبة بالغة فى منافسة هذا الانتاج الثقافى (الموجه) والذى يتم بثه، وتطويره، وتحديثه، بصورة لحظية.
ويمكن تلخيص التحديات الناجمة عن العولمة في مجال الثقافات والهويات الوطنية فى النقاط التالية:
"الاغراق الثقافى" الناتج عن تنوع المنتجات الثقافية الى حدود لانهائية، وبما لا تستطيع معه كل الدول مجاراة هذا التنوع، نظرا ل"عدم التكافؤ على الصعيد العالمى" (انظر: سمير أمين، التراكم على الصعيد العالمى – نقد نظرية التخلف، ترجمة حسن قبيسى، دار ابن خلدون، بيروت، د. ت.) فى مستوى القدرات الانتاجية والتكنولوجية، كميا ونوعيا.
تحويل الثقافة الى سلعة استهلاكية رخيصة، والانحطاط بها الى مستوى تلبية حاجات التسلية والمتعة الحسية السريعة. مما يفقدها الجلال والاحترام والعمق، وهى الصفات المتلازمة مع وظيفتها التقليدية، المتمثلة فى الارتقاء بالوعى العام والتطور المعرفى، ويحولها الى أداة مبتذلة.
تراجع الثقافات الوطنية، وربما اندثار بعض الثقافات القديمة والتقليدية لبلدان "الأطراف"، أو ما يسميه فارنيى ب"الابادة الثقافية المعممة"(ص 115) فاذا كان اليونان (فى عهد الاسكندر) والرومان والنورمانديون والعرب قد قاموا بابادة الكثير من ثقافات الشعوب المغزوة (على نحو أو آخر وبنسب متفاوتة)، وأجبروها على اتباع لغاتهم ورؤاهم ومعتقداتهم الدينية، وبالجملة (أبنيتهم ومنظوماتهم الثقافية، فان شعوب أوربا فيما بعد الثورة الصناعية، وبسبب توجهها القومى ذى النزوع الامبريالى، قد منحها ذريعة ضرب البلدان المستعمرة فى بنائها الثقافى الخاص، بدعوى انتشالها من "همجيتها" المدعاة، بدعوى التحضر والتقدم. بدءا من الغاء اللغات المحلية وتسخيف العادات والتقاليد الوطنية .. وصولا الى فرض العقائد الدينية. ولنتأمل قول أحد الزعماء الأفارقة (روبرتو موجابى رئيس جمهورية زيمبابوى السابق: "لقد أعطونا الانجيل وأخذوا منا الأرض". وهو ما يعنى انهم مارسوا علينا نوعا من الاستلاب الثقافى، وافقدونا استقلالنا السياسى، فى ضربة واحدة.
أما فى مرحلة "ما بعد الاستعمار" فان الممارسات الرامية الى تحقيق ما أشرت اليه من تنميط ثقافى، القائمة على قدم وساق، كانت كفيلة باستكمال تحقيق "الابادة الثقافية الشاملة" لعدد من أكثر الثقافات عراقة على الكرة الأرضية، بحسب تعبير فارنيى السابق ايراده.
احياء التعصب الدينى والقومى والعرقى، بوصفه نوعا من رد الفعل على تحديات الدمج، التى تهدد بالطمس والازاحة للثقافات التقليدية. وهو ما يؤدى الى احياء النزعات العنصرية والأصولية المتمثلة فى معاداة المختلفين والأقليات والأجانب والمهاجرين .. الخ. وخلق أنواع جديدة من الفاشية. وأكاد ان أقول أن بعث الأصوليات الدينية والعرقية، فى مرحلة الحرب الباردة، يتواصل بوتائر مرتفعة للغاية مع انشاء "داعش" ودعمها فى منطقة الشرق الوسط وأفريقيا، جنبا الى جنب، مع عودة النعرات القومية الشوفينية المعادية للمهاجرين والأجانب والمسلمين وذوى البشرة السمراء، فى كل من أوربا واستراليا والولايات المتحدة. ولا يمكن فهم استيلاء "النازيين الجدد" على السلطة فى أوكرانيا، واحتلال اليمين الفاشيستى، بقيادة مارين لوبان، لمقاعد الكتلة المؤثرة فى الجمعية الوطنية (البرلمان)، فى فرنسا، وتنافسها الشرس فى الانتخابات الرئاسية، وتشكيل اليمين الفاشيستى للحكومة فى ايطاليا، ورئاسته لها، وكذلك حرب ترامب على المهاجرين والملونين فى الولايات المتحدة، لا يمكن فهم كل هذه الأحداث المتزامنة الا باعتبارها نذرا لهذه التحولات العولمية العارمة. زهى تلك التى بشر بها صامويل هنتنجتون فى كتابه : "صدام الحضارات"، على النحو الذى سيلى شرحه وتفصيله فى الفصل التالى.
الازدواج الحضارى والخلط الثقافى وانقسام الذات الفردية. خصوصا، فى بلدان العالم الثالث. وعلى الأخص عندما يتم تلقى المادة الثقافية منفصلة عن سياقها المجتمعى والتاريخى، الخاص بها، (وهذا ما يحدث فى غالب الأحيان). حيث يتواجد ما يمكن تسميته بالمواطن "المستلب" حضاريا، ذلك الذى يتبع "الموضات" والتقليعات الوافدة من الغرب، دون تفكير ولا تدبر، وبطريقة قد تكون مضحطة فى كثير من الأحيان. ويفخر بكونه لا يعرف لغة بلادهن فى مقابل اللغة الانجليزية التى يستعرض معرفته بها، بمناسبة وبدون مناسبة. وفى هذا الصدد فاننى أعتبر أن تدنى مستويات اتقان اللغة العربية لدى مواطنينا (على كل المستويات التعليمية والاجتماعية، تقريبا)، وعدم الشعور بالخجل من ذلك، فى مقابل "التباهى" والفخر بمعرفة اللغة الانجليزية، انما يمثل أحد اشكال سطوة تلك "النزعة الدولية" Internationalism ، المرتبطة بما يسميه بروس روبنز ب"ثقافة العولمة". (بروس روبنز، الاحساس بالعولمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ترجمة عاطف عبد الحميد، 2005، ص 25).
التجزئ الثقافى، عن طريق الانغماس الكلى فى واحدة من تلك "الثقافات" الجزئية، مثل "ثقافة كرة القدم" أو "ثقافة السينما"، دون رؤية ثقافية جامعة. (وسيلى الحديث عن ذلك بتوسع فى الفصل التالى)
التغلب على عدم القدرة على التتبع اللحظى للوفرة المعلوماتية الهائلة بالخضوع لهيمنة "المتخيل"، مما يجعل المرء قابلا للانحراف والاستعداد للخضوع ل"الصور الذهنية الجاهزة" الخادعة Sterio Types . وبخاصة لدى أجيال الشباب الذين تقتصر منابعهم المعرفية على التصفح السريع للمواقع الألكترونية ومواقع التواصل الاجتماعى، فيتكون لديهم نوع من الوعى القشرى غير المؤصل، والفهم المشوش، غالبا. فتصبح احكامهم ومواقفهم غير مبنية على أى نوع من الفهم العميق والحقيقى لأبعاد الظواهر. ومن ثم يسهل تجييشهم فى أية انشطة سلبية، أو السيطرة على مشاعرهم ودفعهم الى نوع من النزعات السلبية. مثل روابط المشجعين لفرق كرة القدم، الذين يميل أغلبهم الى اثارة الشغب فى الملاعب وخارجها. وكأن تؤدى لعبة تسمى ب"الحوت الأزرق" الى انتحار عشرات الشباب. (التى تمت الاشارة اليها قبل قليل)، بدون ابداء أية أسباب منطقية أو مفهومة.
ويمكن أن نضيف الى ذلك ظهور ما يسميه سيرج لاتوش ب"تنميط عالم الخيال". ويقصد به تعميم التصورات والرؤى، وتوحيد الممارسات والسلوكيات، على النسق الغربى. فهو عنده.. "تنميط بالغ لأساليب الحياة والفكر ومحاكاة mimesis معممة"(سيرج لاتوش، مرجع سابق، ص 29)
ويربط لاتوش هذا التنميط لعالم الخيال، بالقبول غير المشروط ب"التقنية" أيا كانت توجهاتها ووظائفها، والايمان بالعلم، بوصفه مصدر معجزات التقنية، والخضوع التام لكل ماهو اقتصادى (وقد تحدثت من قبل عن تحول الاقتصاد الى ما يشبه "الدين" فى الفكر العولمى). ويعتبر (لاتوش) أن كل هذه الشروط انما هى عوامل لاتقاوم ل"تنميط الخيال". فالعلم والتقنية والاقتصاد ينقلون محتوى "خياليا" بالغ الثراء. وتتحدد علاقة الانسان بالعالم، عبر هذه الأشياء، بصورة عميقة وقوية للغاية. (انظر: سيرج لاتوش، المرجع السابق، ص28)
اضعاف التماسك الاجتماعى والوطنى، مما ينذر بانهيارات سياسية كبرى، على مستوى الدولة الوطنية. حيث تتم اثارة النزعات "الهوياتية الصغرى"، سواء أكانت عرقية أو مذهبية أو مناطقية .. الخ. باعتبار أن ذلك يعد من النتائج الطبيعية لاضعاف "الهويات الوطنية الكبرى" أو الهويات الجامعة. على النحو الذى تمثل فى الانقسام الوطنى على أسس (هوياتية) فى كل من يوجوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا فى تسعينيات القرن الماضى، وما يحدث فى كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا، من انقسام على أسس دينية - مذهبية : (شيعة وسنة، ومسلمون ومسيحيون، فى كل من السودان والعراق وسوريا واليمن). أو قومية (عرب وكرد وأيزيديون وأثوريون، فى العراق، وعرب وكرد و سوريان، فى سوريا، وعرب وذوو أصول أفريقية فى السودان .. الخ). أو على أسس مناطقية أو جهوية ، مثلما نجد فى الصراع الليبى – الليبى، فى أيامنا هذه. وغير ذلك مما يمكن أن نجده فى أماكن متفرقة فى شرق أسيا او لدى بعض البلدان الأفريقية .. الخ.
(وسنقوم فى الفصل التالى بتفصيل القول فى هذه التحديات وآليات مواجهتها).
ضد العولمة – العولمة البديلة
لكل هذه التحديات التى تكاد تشكل هاجسا وجوديا لدى كثير من الشعوب والدول، بما فيها بعض دول العالم المتقدم، ظهرت افكار وحركات عديدة تعادى العولمة بشكلها الراهن الرأسمالى الليبرالى الجديد New liberalism وتنادى ب"عولمة بديلة". عمادها مكافحة تلك النزعة الرأسمالية "النيو ليبرالية"، وتوجهها الامبريالي، و"الأحادية القطبية". واعادة الاعتبار لمفاهيم "الخصوصية الحضارية" واحترام "الخصائص الثقافية" للشعوب، وحقها فى التطور المادى والثقافى المستقلين، بعيدا عن املاءات المراكز الاقتصادية الرأسمالية، واعتبار نفسه معيارا ونموذجا "للفضائل"، والعمل على فرضها على الآخرين من باقى الشعوب والبلدان.
وهذه الاتجاهات وان كانت لا تزعم لنفسها القدرة على اعادة عقارب الساعة الى الوراء، بالغاء ماتم من تحولات تكنولوجية واقتصادية .. الخ. خاصة، أن العولمة قد اضحت واقعا انسانيا معاشا، ولاسبيل الى العودة عنه أو التخفيف من وطأته. فانها ترى أن "تقارب العالم" ينبغى أن يتم على أرضية المصالح المشتركة واحترام حق الشعوب فى الحفاظ على خصائصها الثقافية، وتقرير مصائرها، واختيار مساراتها التطورية. وهو شئ آخر غير معنى الهيمنة الذى يتضمنه مفهوم "تقارب العالم" فى الاستخدام الغربى الرسمى، الذى يعنى فى الجوهر "خضوع العالم"، على طريقة الخضوع "للأخ الأكبر"، بحسب استعارة سيرج لاتوش من رواية "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل.
ويعتبر سيرج لاتوش، فى هذا الصدد، أن الاعتراف بما يسميه "انسانية تعددية" انما يمثل "طريق الخلاص". وهو طريق لم يعد جديدا، ولا يمكن اعتباره بدعا، بل هو طريق ينتمى الى ما ورثته الحضارة البشرية من منتجات العقلية "الليبرالية"، التى تنطوى جوهريا على مفهوم التعددية، والتى تتغنى بها أوربا والغرب، ذاتهما.
وتعتبر "الانسانية التعددية" أمرا جديرا، حسب (لاتوش)، "بالحنين اليه" والاستنجاد به، للخروج من أزمة ومخاطر تلك العولمة الراهنة. أما النكوص عن اختيار هذه "الانسانية التعددية"، فلن يؤدى سوى الى انهيار حضارتنا، بفعل "بربريتها" التى تتمثل فى استشراء النزعة العدوانية ونزعة الهيمنة. وهى تلك النزعة التى قد تفضى، فى حال تحولها الى صراع عالمى، الى فناء الكوكب.
وعلى ذلك فان العولمة الحقيقية لا يمكنها أن تتم الا عبر حوار أصيل بين الثقافات. وهذا الحوار، بدوره، لايمكنه أن ينجح الا اذا كان كل طرف مستعدا لتقديم "تنازلات". وتتمثل تلك التنازلات، حسب لاتوش، فى اعتناق فكرة "قبول الآخر"، على التحديد، أيا كان حجم الاتفاق والاختلاف معه. وذلك، انطلاقا من الوعى بأن كل ثقافة، مهما كانت درجة تطورها، (أو حتى "عدم تطورها" من وجهة نظر معينة)، تمتلك الكثير مما يمكن أن تضيفه للثقافات الأخرى. وأن بوسع، هذه الثقافة المعنية، أن تغتنى باسهامات عديدة تتواجد لدى الثقافات الأخرى. وبالتالى تصبح مهمة البشرية، ككل، هى .. "ضرورة البحث عن طريقة للتعايش الأخوى ينبغى اكتشافها وبناؤها بجهد مشترك بين جميع بنى البشر". (راجع : سيرج لاتوش، مرجع سابق، ص 122 - 126).
وفى ظنى أن هذا "التعايش الأخوى" لا يمكنه أن يتم، عالميا، على الوجه الفعلى، عن طريق الدعوات، أو الكتابات، أو الخطب. حيث يقتضى الأمر البحث عن صيغ اقتصادية وسياسية عالمية عادلة وانسانية، بديلة. قادرة على أن تقوض النظام الاقتصادى – السياسى العالمى الراهن، ذلك النظام الذى تقوده الرأسمالية العالمية، بنزعتها العدوانية تجاه الشعوب، وتحل محله، على النحو الذى سيتم تفصيله بعد حين.
ويرى المفكر محمود أمين العالم .. "ضرورة بناء عولمة انسانية ديمقراطية بديلة، فى مواجهة العولمة الأمريكية الرأسمالية التى تسعى الى الهيمنة على حضارة العصر وتواص اليوم مشروعاتها العدوانية والتوسعية واهدارها المشروعية الدولية". حيث يبشر بتأسيس جماعة تتبنى شعار "العولمة البديلة" ويدعو الى تشكيل جماعات مماثلة فى كل بلد عربى، ليتألف منها جبهة عريضة مناهضة للمارسات العولمية التخريبية. وهذه الجبهة ليست فى رأيه بديلة عن جبهة المثقفين التى نادى بها فى الآونة ذاتها، معولا على دور "المثقفين العضويين" الفاعل باعتبارهم قوة تنوير شعبية، وقوة ضغط، فى الآن نفسه على الدول والحكومات. (محمود أمين العالم، العولمة وتحديات المستقبل، كراسات آفاق اشتراكية، مركز آفاق اشتراكية، القاهرة، 2007، ص 90 – 91)
وفى هذا الاتجاه، يرى بهيج نصار ضرورة تدخل الدولة الوطنية، خاصة فى بلدان العالم الثالث، فى ادارة الشأن الاقتصادى. ويرى أن محاولات اقصاء دور هذه الدولة .. "وهما لا محل له فى الواقع، كما أصبح من الضرورى التفرقة بين تدخل الدولة لتوجيه آليات السوق لخدمة مصالح الامبرياليةوحلفائها، وتدخلها لتجنب أزمات العولمة ولخدمة مصالح الشعوب وخاصة جماهير العمال والكادحين والمهمشين والشعوب المضطهدة." (بهيج نصار السابق، ص 118) حيث يتبنى بهيج نصار الرؤية التى طرحها سمير أمين فى مقال بجريدة الأهرام القاهرية بتاريخ 17/3/ 2005 ، بعنوان: "التحالف الجنوبى ضرورة لمواجهة الاستعمار الجماعى"، حيث يقصد بالاستعمار الجماعى ذلك النوع الجديد من الاستعمار الذى تقوم به دول المركز الرأسمالى العالمى المتمثلة فى: أمريكا اليابان والاتحاد الأوربى. حيث يطرح ضرورة تحالف بلدان الجنوب (أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية) ويتطلب البديل ضرورة بناء عالم متعدد الأقطاب، بحيث يكون "للجنوب" فرصة أو هامش للتحرك الحر فى اطار العولمة التى أضحت واقعا ملموسا. وتكمن قوة الجنوب عند سمير أمين فى تشكيل تحالفات اقتصادية تساعد على اختراق ما يسميه ب"الثالوث الاستعمارى" والمقصود ما ذكر آنفا من "استعمار جماعى" متمثل فى الأطراف الدولية الثلاثة أمريكا وأوربا واليابان. (انظر بهيج نصار، السابق، ص118)
وعلى ذات الطريق، طريق البحث عن عولمة بديلة، يسير د. وليد محمود عبدالناصر، حيث يرى أن "حوار الحضارات" يعد البديل الوحيد الآمن فى مقابل الفكرة التدميرية العدوانية التى تنطوى عليها أطروحة "صدام الحضارات". واذا كانت تلك الأطروحة التى ظهرت فى مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتى وانهيار التجربة الاشتراكية، بغية الحفاظ على تماسك ووحدة بلدان الغرب السياسية والثقافية، فى مواجهة "أعداء" مفترضين، مثل الصين أو الشرق الاسلامى، فان هذا التفكير بحد ذاته ينطوى على تراكم الأحقاد والعداوات القديمة فى الخلفيات الثقافية والنفسية .. "لدى بعض الدوائر فى الغرب ضد الحضارات الشرقية، خاصة الاسلامية والصينية، وذلك لاعتبارات تاريخية وسياسية وثقافية". (د. وليد محمود عبدالناصر، حوار الحضارات وتحدى العولمة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، 2005، ص 195)
والحق أن النزعة العدوانية الامبريالية لم تظهر فقط، باتجاه الحضارات الشرقية ولكن ظهرت أيضا فى مواجهة شعوب أمريكا اللاتينية وروسيا والصين والهند والشرق الاسلامى، أى مواجهة معظم بلدان العالم.
وفى الاتجاه ذاته، يؤصل السيد ياسين مفهوم "حوار الحضارات" باعتباره بديلا لفكرة "صدام الحضارات"، وكذلك فكرة "نهاية التاريخ" اللتين سبقت الاشارة اليهما. بيد أنه يعتبر أن الهجوم الارهابى على الولايات المتحدة فى الحادى عشر من سبتمبر عام 2001 قد بث روحا جديدة فى فكرة "صدام الحضارات"، حيث تبع ذلك هجوم غير مسبوق على الاسلام والمسلمين وعلى العرب بوجه خاص. استنادا الى ما ثبت من تورط ثلة من العرب المسلمين فى هذا الهجوم.
ويعتبر السيد ياسين أن الحوار بين الحضارة الأوربية والحضارات التقليدية فى العالم الثالث أمرا ليس فقط ممكنا، ولكنه ضرورى، وهو قائم فعليا منذ عقود طويلة. مرتكزا فى ذلك الى قيام العديد من دول العالم الثالث بارسال أبنائها الى الغرب للدراسة والتعلم، بيد أن هذا الحوار لم يكن متكافئا ولا يمكن أن يكون كذلك. وذلك لأن الحضارة الأوربية – حضارة العلم والتكنولوجيا هى مركز القوة، وهى حضارة صاعدة بفعل قوة الدفع التى استمدتها منذ قرون، بينما الحضارات التقليدية لا تزال ، فى غالبيتها العظمى غارقة فى أنماط التفكير غير العلمى وتسودها أنظمة شمولية واستبدادية، وبالتالى هناك حواجز عديدة أما حرية التفكير والتعبير. بيد أن هذه المحاذير لا ينبغى أن تقف، عنده، عائقا فى ممارسة الحوار بين الحضارات، شريطة أن لا يقتصر الأمر فى اجرائه على المثقفين، وحدهم. بل لابد من اشراك ممثلى الثقافات الشعبية بمختلف تياراتها .. "ذلك أننا نعرف جميعا أنه فى عدد من المجتمعات المعاصرة تسود ظاهرة الانفصام الثقافى ونعنى الفجوة المعرفية والفكرية بين النخبة والجماهير، ناهيك عن الاختلافات العميقة فى الحساسية الفنية والأذواق والاتجاهات الجمالية. ومن هنا لن يكتمل الحوار بين الحضارات فى رأينا بدون تضمينه الثقافة الشعبية" (السيد ياسين، حوار الحضارات – الغرب الكونى والشرق المتفرد، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2002، ص 39)
ان دعوة السيد ياسين على ما فيها من تناقض، من حيث مجاراته لفكرة الحوار بين الحضارات مع اقراره بأن هذا الحوار غير متكافئ، ولن يكون غير ذلك على الاطلاق، نظرا للأسباب المتعلقة بالتفاوت الحضارى الحاصل بين الطرفين، فاننى لم أفهم، على وجه الدقة، حقيقة ما قصده من دعوته "لاشراك ممثلى الثقافة الشعبية". فهو لم يوضح من يقصد بهؤلاء الممثلين لهذه الثقافة؟؟ ، وهل اذا تم اشراكهم سيكون الحوار متكافئا؟؟ وهل الحوار فى هذه الحالة سيكون بين الحضارات المتباينة؟؟ أم داخل الحضارة الواحدة؟؟ نظرا للانقسام القائم، الذى ذكره، بين النخبة والجماهير؟؟
على أية حالة فقد لاقت الدعوة الى "حوار الحضارات" اهتماما كبيرا لدى كثير من الدوائر فى كل من بلدان الشرق والغرب على حد سواء، كما هو واضح من الكتابات التى تمت الاشارة اليها، ويوجد غيرها الكثير من الكتابات المشابهة، ولكن المجال لم يكن ليسمح لنا بالافاضة أكثر من ذلك فى هذه النقطة.
ولكنى أتصور أن قيام "عولمة بديلة"، فى مواجهة العولمة الراسمالية، ذات النزوع الامبريالى، لا يمكن أن يتم على وجهه الحقيقى، بدون تحقيق ما تذكره النقاط التالية:
تفكيك خطابات التفوق الغربى، ومنح الجدارة والاحترام لكل الاسهامات البشرية فى حضارة الانسان، بمختلف تنوعاتها ومراحلها التاريخية. بمافيها الحضارات القديمة، وصولا الى الحضارة الغربية ذاتها. وذلك على أساس مفهوم "وحدة الحضارة الانسانية"، الذى أعتبر أنه المفهوم الوحيد القادر على تحقيق نوع من الانصاف لكل الجهود الحضارية لبنى البشر، على مدار التاريخ. فلولا هذه الجهود المتعاقبة التى سبقت حضارة الغرب، ما كان لهذه الحضارة (الأخيرة) أن تقوم من الأساس.
فلقد قامت تلك الحضارة الحديثة، كما هو معروف، على أساس الاستفادة من المنجز الحضارى الاغريقى – الرومانى، والمنجز العربى – الاسلامى، معا. وهذان المنجزان استفادا، بدورهما (كل على حدة)، من المنجزات الحضارية السابقة عليهما، سواء أكانت الحضارة المصرية (الكيميتية) أو حضارات الشرق القديم (سومر وبابل وفارس والهند .. الخ). وهو ما يهفت ويضرب فى الصميم فكرة احتكار التفوق الحضارى، واستغلالها للهيمنة على الآخرين، الذين سبق معظمهم الغرب فى مدارج تكون الضمير والقيم الأخلاقية، فضلا عن التقدم التكنولوجى الذى لم يتم حل بعض ألغازه حتى الآن.
ضرب فكرة وجود مركز مهيمن وحيد فى العالم، ودعم وتشجيع ودعم كل الجهود السياسية الدولية الرامية الى ايجاد عالم متعدد القطبية، يسوده العدل وتوازن القوى. والنضال بكل السبل على طريق تحقيق هذا العالم. وربما يشاركنى البعض فى الاقرار بأن بدايات تشكل هذا العالم الجديد، القائم على تعدد القطبية، قد بدأت تلوح فى الآفاق، فى أيامنا هذه. فما الصعود الصينى والروسى والهندى والبرازيلى والجنوب أفريقى .. الخ، ومعهم كل الدول المكونة لمجموعتى: "بريكس" و"شنغهاى"، الا بداية مبشرة بهذا الاتجاه.
فضح الخطاب الاستعمارى الاستعلائى، المضمر فى "الوعى" و "اللاوعى" الغربيين، على حد سواء. وهو الخطاب الذى يظهر من وراء كل الأقنعة وقنابل الدخان، المتمثلة فى شعارات: "الحرية" و"الديمقراطية" و"حقوق الانسان" .. الخ. وهى تلك الشعارات التى يتبدى زيفها فى أن دول الغرب الاستعمارية كانت، دائما، أول من يتنكر لها ويمارسي نقيضها، تحديدا، على الدوام. وليست ببعيدة عن ذاكرتنا جرائم الابادة الجماعية المروعة التى ارتكبها الغرب الاستعمارى. بدءا من ابادة شعب الهنود الحمر من سكان أمريكا الشمالية، مرورا بما قامت به فرنسا فى الجزائر، أو ما قامت به أمريكا فى اليابان (القاء القنابل النووية على هيروشيما وناجازاكى، على الرغم من استسلام اليابان فى نهاية الحرب الثانية)، أو فى فيتنام، أو العراق. وكذلك الجرائم المعادية للانسانية فى سجون أبو غريب و جوانتانامو. أو ما قامت به انجلترا من مذابح فى حق الهنود والصينيين، أو ما قامت به بلجيكا من ممارسات منافية حتى لحقوق الحيوان، فى حق شعب الكونغو. أو ما قام به البرتغاليون والأسبان والهولنديون .. والقائمة طويلة للغاية، والتاريخ الاستعمارى أسود قاتم بما لايمكن أن تمحوه كل الشعارات والنظريات.
التجذير النظرى لمفهوم "الاستعمار"، على النحو الذى لايتوقف عند مجرد دلالاته اللا أخلاقية المعادية للانسانية، بل بمحاولة الوصول الى جوهر الفكرة الاستعمارية وأساسها الاقتصادي، وهو ذلك المتمثل فى "النظام الرأسمالى" القائم على الاستغلال والمنافسة وتحقيق الأرباح، بصرف النظر عن الأثمان الأخلاقية الباهظة المدفوعة فى مقابلها. فهذا النظام، بطبيعته يقوم على العدوان والانتهازية واللا أخلاقية. ولذا فان أى كفاح من أجل "عولمة بديلة"، لابد له من أن يبدأ بالكفاح ضد هذا النظام الرأسمالى العالمى الراهن، بحد ذاته، بالتوازى مع مواصلة، البحث عن صيغة ممكنة لنظام اقتصادى، وبالتالى سياسى، عالمى جديد، أكثر انسانية و عدلا.