الخميس ٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
قرأت لكم
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

القراءتان

(يقول الأستاذ طه جابر العلواني عن هاتين القراءتين بأن الأولى منهما هي: « قراءة باسم الله تعالى لهذا الوحي النازل الذي سيتتابع نزوله حتى يتم قرآناً كريماً مجيداً مكنوناً مفصَّل الآيات، تتلوه يا محمد على الناس وتبينه لهم ليتعلموا منه (الحكمة) والهداية والرشد فتزكو نفوسهم، وتطهر حياتهم وليهتدوا به في أداء مهام الاستخلاف والقيام بواجب الانتماء وحق العمران..»

أما القراءة الثانية: فهي قراءة الخلق ودراسة الوجود.

فهما إذن كتابان تجب قراءتهما: كتاب منزّل متلو معجز وهو القرآن،
وكتاب مخلوق مفتوح، وهو هذا الخلق والكون بدءاً من الإنسان..

ولابد من قراءتهما معاً لتوجد المعرفة الحضارية الكاملة التي تمكن الإنسان من القيام بمهام الاستخلاف وأداء حق الأمانة، والقيام بمقتضيات العمران، وهي معرفة لا تقوم على التلقي وحده بل على الأخذ من الغير بالمراجعة والمطالعة وقراءة الكتب وكتابتها وتناقل الخبرات والمعارف بين البشر، واستعمال القلم الذي علّم الله به وجعله وسيلة للمعرفة وتبادلها وإنمائها وتناقلها، ثم ما يمن الله به من معارف تنقدح بها العقول من مستنبطات ومخترعات وغير ذلك مما يندرج تحت قول الله تعالى: (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/5)..

فالقراءتان في الوحي وفي الكون فريضتان، لأنهما أمران إلهيان، والجمع بينهما ضروري، إذ بدونه يقع الخلل، فقد وقع في الخلل من تجاوز القراءة الأولى واستغرق استغراقاً كلياً في القراءة الثانية، التي تمثل علم الكون، أو فقد العلاقة بالله وتجاهل الغيب وانطلق بفلسفة وضعية منبتة عوراء قاصرة في مصادرها تحاول أن توحد بين الناس والطبيعة، وتعتبر الخالق والطبيعة كله مجرد ماورائيات أو ميتافيزيقا، وإذا كانت قوة غيبية قد مارست خلقاً أو إيجاداً فقد تكون مارسته بقوة الدفعة الأولى، ثم تناسته أو نسيته، ليستمر الكون بعد ذلك فاعلاً ومنفعلاً بشكل آلي، كما ذهب إلى ذلك أرسطو في القديم ونيوتن وغيره في الحديث، وحين يحلو لبعض أصحاب هذه الفلسفة أن يتذكروا الباريء– جلّ شأنه– فإنهم يتذكرونه ولكن بشكل حلولي يزعم أن الله– تعالى– قد حل في قوى الطبيعة ذاتها وذاب فيها ليتحول إلى جزء حال فيها، لينتهوا بعد ذلك إلى المادية الجدلية، التي أنكرت الخالق تماماً وطرحت بدائل له من اتجاهات النمو عبر خصائص التطور المادي المعقد ليشعر الإنسان باندماجه الكامل بالطبيعة ككائن طبيعي..

وهنا يبدأ الإنسان بالشعور بالغنى أو الاستغناء عن خالقه– جلّ شأنه– لأنه لم يعد يرى غير الطبيعة أمامه، فهي كل شيء، وهي وراء كل شيء، وهو في ظاهر الأمر قادر على قهرها، فلا يراها وهي مسخرة مقهورة بسنن الله تعالى، بل يراها كوناً مستقلاً ذا امتداد غيبي، وآنذاك لا يشعر أن الله تعالى قد سخرها له وأنه الخالق له ولها، بل يرى أنه نفسه الفاعل المبدع المتعدد القدرات المسيطر على الطبيعة المفجر لكوامن ما فيها، وهنا يحق عليه: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى6 أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى7) (العلق).. فيقع في الاستبداد والطغيان، وتحدث كوارث البيئة، ويظهر التلوث والفساد في البر والبحر والجو بما كسبت أيدي الناس، ويختل التوازن، وتظهر أمراض الانحراف والشذوذ في المعمورة، فقارات يعمها الجوع والخاب، وأخرى تعمها الأمراض بكل أنواعها، وتسود المعيشة الضنكة: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه/124).. وقد يقنع الغافلون عن ذكر الرحمن أنفسهم بأن ما يحدث ضريبة طبيعية لازمة لا مناص للراغبين في التمتع بالمعطيات الحضارية من احتمالها ودفع قيمتها الفادحة.

فما هي حقيقة (إسلامية المعرفة) التي نقترحها حلاً لأزمتنا المعرفية والفكرية وأزمة العالم معنا؟!
توجد إسلامية المعرفة وتتحقق من قراءة كتابين وتؤسس على مقابلتهـما والكشف على التكامل المنهجي في البحث والاكتشاف بينهـما: الكتاب الأول هو كتـاب الوحي المقروء ونعني به (القرآن)، والكتاب الثاني هو كتاب الكون المتحرك الذي يتضمن ظواهر الوجود كاف. فالقرآن العظيم والكون البديع كلاهما يدل على الآخر ويرشد إليه ويقود إلى قواعده وسننه، فالقرآن يقود إلى الكون، والكون أيضاً يقود إلى القرآن وهذا ما نطلق عليه (الجمع بين القراءتين)، قراءة تبدو غيبية في إطار الوحي في الكون، وقراءة موضوعية من خلال الكون وعناصره في الوحي، فقراءة الوحي بمثابة تنزل من الكلي إلى الجزئي، بما تتيحه القدرات البشرية النسبية من الفهم لتنزلات الكلي، وقراءة الكون بمثابة تطلع من الجزئي باتجاه الكلي وفق قدرات البشر النسبية أيضاً على فهم الظواهر، فلا يقع الفصام المزعوم بين معطيات الوحي ونتائج المعرفة الموضوعية، وهذا ما أكدته بدايات التنزيل في سورة العلق: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ1 خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ4 عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ5) (العلق)..

تلك أهمية الجمع بين القراءتين بإيجاز شديد. أما حين يحدث الفصام بين القراءتين فإن المناهج المعرفية البشرية تقود إلى نتيجتين خطيرتين: فالذين يتعلقون فقط بالجانب الغيبي في القراءة، أي بالقراءة الأولى في الوحي فإنهم يسقطون الجانب الموضوعي وعناصره من حساباتهم فيتحولون بالدين إلى لاهوت وكهنوت يستلب الإنسان والكون وينفي الأسباب وقوانين الحركة وصيرورتها وكافة السنن الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية التي يتفاعل معها الإنسان وبذلك ينتهي أصحاب القراءة إلى فكر سكوني جامد قد يحسب خطأ حين لا يلتفت إلى محدوديته وتصوره ونسبته البشرية.

والذين يتعلقون بقراءة الكون وحده ويركزون على الجانب الموضوعي في إطار القراءة الثانية ينفون البعد الغيبي الفاعل في الوجود وحركته وينتهون تدريجياً إلى الفكر الوضعي في المعرفة الذي يؤثر على النسق الحضاري بدوره ذلك التأثير السلبي، وهكذا تنقسم البشرية وتتمزق وتتصارع بين اللاهوت الكهنوتي والوضعية الملحدة أو الجاهلة في حين أن أوائل التنزيل في سورة العلق تنفي اللاهوت حين تربط ما بين هذا الغيب والقراءة الثانية، أي القراءة الموضوعية بالقلم. كما تنفي عن القراءة الموضوعية نهاياتها الوضعية حين تشدها إلى القراءة الأولى، كما أنها تؤكد أن المتابع القاريء في الحالتين وفي القراءتين هو الإنسان المؤمن بالوحي الفاقه له من ناحية والمتتبع لظواهر الوجود الكوني وحركته في الوقت ذاته، فلا يقع استلاب للإنسان ولا إخلال بمركزيته ولا تجاوز لدوره..).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى