

القوارير الخمسة
يجلس هناك كعادته منذ أن انتقل إلى خانيونس قبل أكثر من خمسين عامًا، يحدق في قواريره الخمس بحزن. لم يتوقف يومًا عن جمع أحفاده وسرد القصة كاملة؛ حيث يتوسط مجلسهم ويقص عليهم حكايات الأبطال، ثم يمسك بأصابعه الأربعة القارورة الأولى، ويقول بصوت يقطع نياط القلب:
– هذه طبريا.
يبتسم الجد الطيب نصف ابتسامة، حيث يمنعه نصف وجهه المحترق من إكمالها، ثم يقول وهو يشير إلى القارورة نفسها:
– كنت أسكنها مع أهلي وإخوتي التسعة.
ويصمت باكيًا بعين واحدة، متذكرًا ذلك اليوم البعيد وهو ابن العاشرة، حين كان يلعب مع رفاقه، يركضون هنا وهناك، ثم يتفقون على الاجتماع يوم الجمعة عند البحيرة. لكن، قبل أن يعود كل طفل إلى بيته، سمعوا صوتًا لم يألفوه من قبل ولم يفهموه. رأوا أمام أعينهم جنودًا يرتدون ملابس غريبة، وقد بدأوا في إطلاق النيران بشكل عشوائي في الشوارع. شاهد رفاقه يسقطون واحدًا تلو الآخر، ووجد قدميه تحمله راكضًا مع من بقي مذعورًا نحو بيته. هناك، وجد أمه وأخواته يبكين. سألهم عما يحدث، وأخبرهم بما رأى، وبكى كثيرًا لأجل رفاقٍ وقعوا ولم يستطيعوا النهوض.
وبكت الأم وهي تردد:
– لم يعد أبوكم بعد! كما لم يعد سعد وناصر.
وارتفعت الأصوات، وعلا صوت الجارة أم خالد تستغيث، ومن بعدها نساء الحارة يصرخن. لكن، لم تمضِ سوى لحظات حتى اقتحم الجنود بهو البيت الكبير، وبأصوات غريبة لا تحمل أي رحمة طلبوا منهم الخروج. صرخت الأم في وجوههم:
– هذه أرضنا، لن نتركها ولن نخرج أبدًا.
لطمها الضابط على وجهها، فوقعت أرضًا، والدم ينزف من أنفها. لم يجد “حمزة” نفسه إلا وهو ينقض على الضابط ويلطمه على وجهه صارخًا فيه:
– يا حقير، تضرب أمي!
غضب الضابط وأحكم الإمساك بالطفل، وصوّب أحد الجنود نحوه البندقية. لكن، قبل أن يطلق الجندي الرصاصة، صاح الضابط:
– انتظر.
ثم نظر إلى الطفل المنتفض غضبًا دون خوف، وسار خطوات بسيطة نحو الأخت الكبرى، وسحبها من شعرها الذهبي الطويل، ثم شق عباءتها. كانت الفتاة تقاوم صارخة باكية، والأم والأخوات يحاولن تخليصها من يد المغتصب، لكن الجنود أمسكوا بهن، ناعتين أجسادهن بأقبح الأوصاف التي يمكن أن يسمعها طفل في عمره. بكى حمزة وانتفض، وتمنى لو يقتلوه ولا يرى ما يرى الآن.
دخل أبوه، ومن خلفه سعد وناصر، يلهثون من التعب، وحاولوا تخليص النساء من منظر لن ينسوه ما حيوا.
أمسك الضابط بيد الطفل بقسوة، وأخرج من جيبه الأيسر خنجرًا صغيرًا، وببرود شديد قطع إصبعه الأكبر وهو يضحك، بينما الجنود من حوله يشجعونه.
بكى الشيخ حمزة وهو يحدق في القارورة، متذكرًا تلك الواقعة، القارورة التي جمع فيها حفنة تراب من أمام بيتهم، رغم الدماء التي بقي أثرها رغم السنين، يلون بعض حبات الرمل. خرجوا من بيتهم محملين بالقهر والوجع، كما أبناء الحي جميعًا
يسأله حفيده رامي وهو يشير إلى قارورة صغيرة الحجم بخلاف الباقيات:
– وماذا عن هذه يا جدي؟
يضع القارورة الأولى بألم كبير في مكانها، ويلتقط الثانية، ويقربها من أنفه، ويغمض عينيه، ويقول:
– هذه من حيفا. بعد خروجنا من طبريا مشيًا على الأقدام، ومن خلفنا البارود، ومن فوقنا القذائف، كانت أقرب المدن إلينا. وحين وصلنا، كانت أختي الكبرى قد فارقت الحياة، برصاصة اخترقت قلبها المكلوم على شرفها، قمنا بدفنها في حيفا، فأخذت حفنة صغيرة من الأرض التي دُفنت فيها، ووضعتها في كيس كنت أحمل فيه برتقالة.
يسكت الشيخ حمزة وهو يتذكر البرتقالة نفسها التي قذف بها أحد الجنود في عينه وهم يحيطون بهم في حيفا بعد يوم واحد من وصولهم. لم تكن أمه قد توقفت عن البكاء على فقد كبيرتها، كانوا جميعًا حزانى، واشتد الحزن وقت تجمع الشباب كلهم وقالوا:
– سنقاوم.
يومها، قبل سعد رأس أمه طالبًا منها الدعاء، وقبل ناصر يدها يوصيها أن تصبر، فالكل فداء هذه الأرض. وودعوا الجميع يومها، واختفوا تمامًا قبل أن تشتد القذائف والرصاص والحرائق من حولهم، ليضطروا هذه المرة أيضًا للمشي قدمًا مع أهل حيفا إلى الناصرة.
سألته حفيدته شام:
– وهل تركتم الناصرة؟
التقط الشيخ حمزة قارورة ثالثة ميزها بورقة زرقاء موضوعة أسفل الغطاء، وقال:
– بعد مكوثنا هناك ليومين، جلست مع شباب الحارة وهم يرفضون كل ما يحدث، ويسردون ما تعرضت له المدينتان وما لحق بالأهالي من تجويع وتخويف وقتل. أخبرتهم عما حدث لنا وما مررنا به، وأخبرهم سالم، الذي انتقل معنا من حيفا، عن قتل والده الذي قاوم اعتداء الضابط، وعن اغتصاب أمه التي لكمت الجندي، وراح كل واحد يسرد قصة لا تقل ألمًا عن الأخرى. وهنا شجع أحد الشباب أن نجتمع على قلب رجل واحد ونقف في وجه الجميع، فصاح آخر يخبرهم عن تعرض يافا لمثل ما تعرضنا له، فاتفقنا على أن نخرج فورًا إلى يافا ونقف في وجه الجميع.
وصمت الشيخ مرة أخرى، مسترجعًا ما حدث لهم حين وصلوا صباحًا إلى يافا، أصغرهم في التاسعة وأكبرهم في الثامنة عشرة، يحملون أقمشة مُلئت بالحجارة خلال طريقهم من الناصرة حتى يافا. وهناك، بدأوا في إلقاء الحجارة، مسددين الرمي في عيون الجنود، لكن الوضع استوحش ضدهم، واشتدت القذائف والنيران، ووجدوا كبيرهم قد سقط أمامهم شهيدًا، ومن خلفه عشرات ممن معهم. هرب البعض ووقع البعض الآخر وقع في الأسر، ومن بينهم سالم، وحمل حمزة في القماشة الفارغة من الحجارة حفنة من تراب يافا، عائدًا بوجه احترق نصفه مع تسعة فقط ممن خرجوا من الناصرة.
أعاد الشيخ حمزة القارورة إلى مكانها، واغرورقت عيناه بالدموع، بينما راح الصغار يحدقون فيه بتأثر بالغ. أمسك بعكازه، وحمله نحو غرفته، ارتمى مُتعبًا على سريره ثم وضع يده أسفل وسادته العتيقة، وأخرج سُترة صوفية لم تكتمل، وضعها على وجهه، وبكى بكاءً شديدًا. احتضن السترة، وقربها من أنفه، وشهق شهقة طويلة أعادت إليه ذكرى ذلك اليوم المرير؛ يوم وصلهم خبر استشهاد سعد وناصر. يومها، جلس والده مكانه يبكي بصمت، قهره شديد، ومن حوله الرجال حالهم كحاله، وبكت أخواته البنات، أما أمه فقد ألقت من يدها هذه السترة الصوفية، وخرجت تركض في الشارع نحو الجنود الذين احتلوا الناصرة. صفعتهم على وجوههم وهي تصرخ، وكان حمزة والناس جميعًا يحاولون تغطيتها وسحبها بعيدًا عنهم في مشهد مهيب. لا أحد يدري هل كانت لحظة انتفاضة أم جنون، لكن الضابط لم يتوانَ لحظة عن تصويب بندقيته نحوها، فأرداها قتيلة، ومن خلفها والد حمزة الذي كان ممسكًا بها.
بكى الشيخ حمزة وهو يشم السترة التي بقيت له من أمه، واحتضنها كما احتضنها يوم حمله أهل الحي مع أخواته البنات إلى الدار التي يشاركون أهلها فيها. يومها، انكبَّ باكيًا على السترة، وضمها مع قاروراته، ثم انتقل مع أخواته إلى رام الله حيث تقيم خالته. لم يضطر يومها لأخذ حفنة تراب من الناصرة، فالسترة الصوفية كانت أثرًا لن يُمحى.
في عصر اليوم نفسه، أعلنت قوات الاحتلال عن صفقة لتبادل الأسرى، تذكر سالم وكثير ممن لم يعرف مصيرهم بعد الأسر، ومضت نشرة الأخبار تعلن عن أسماء الأسرى العائدين إلى أهاليهم، وكان منهم جارهم الشاب محمد، الذي وقع في الأسر منذ سبع سنوات، حين بصق في وجه جندي سحبه من حقيبته المدرسية ساخرًا منه. ارتفعت الزغاريد في ذلك اليوم، وملأت الحي الحزين، وُزِّعت الحلوى في الشوارع والبيوت، وبكى الشيخ حمزة وهو يتمنى أن يلتقي يومًا بسالم.
وفي المساء، اجتمع الصغار من جديد، يعلمون أن جدهم يحب التفافهم حوله، ويسألونه أن يكمل لهم سرد قصص القوارير المتبقية. تقول سعاد:
– أتعجب من إصرارك يا جدي على الاحتفاظ بهذه القوارير، ونقل التراب والحجارة من الأقمشة إلى الأكياس ثم إلى القوارير.
ابتسم الشيخ حمزة، وأخذ يمرر يده على لحيته البيضاء:
– لن أفرط فيها، فهي إرثكم، وأوصيكم ألا تتركوها أبدًا.
تشير سعاد إلى قارورة يختلط فيها التراب بالحجارة، وتسأل عن قصتها. يمسكها الشيخ، ويفتحها، ويفرغ بعضها في يدها وهو يسرد:
– حين أقمت في رام الله واستقر بنا الحال هناك في بيت خالتي، كنا نحن الشباب نلتقي يوميًا خلف المسجد الكبير، نتحدث عما حدث ويحدث، نرفضه، ونتمنى لو نتخلص منه بأيدينا. كنا نتداول أخبار الشباب المنتفضين، ونتفق أن نفعل مثلهم. وبالفعل، قررنا تكوين مجموعة كبيرة، وخصصنا لكل واحد منا دورًا، وعقدنا العزم على الذهاب نحو الرملة التي كانت تعاني كثيرًا وقتها. مكثنا هناك عند أقارب لسكان حينا، لم تكن أسلحتنا سوى الحجارة وأحيانًا سائل الخل المخلوط بالشطة الحارقة، كنا نقذف بها الجنود، نحاول التقاطهم من فوق الأسطح، لكن لم يمضِ وقت طويل حتى وقع الكثير منا إما شهيدًا، أو أسيرًا، أو مصابًا. وحين اشتد الحصار، وجدت نفسي أحاول تعبئة جيوبي بالحجارة المختلطة بالتراب، لكن قبل أن أنهض من مكاني…
سكت ووضع يده على فخذه الأيسر الخالي من القدم المبتورة، وهمس حزينًا:
– صوب أحد الجنود بندقيته العامرة بالذخيرة نحو قدمي، فأُصبت يومها إصابات بالغة، وحملني الرفاق إلى بيت خالتي التي راحت تصرخ، ومن حولها أخواتي. لم تمضِ تلك الليلة إلا وقد بُترت قدمي، ولم يبقَ لي من ذاك اليوم إلا ما في جيوبي.
أغمض الشيخ عينيه في ألم واضح، وهو يذكر معاناته كطفل مبتور القدم يبكي على ضياع الأهل والأرض والقدم.
يسرع سالم، صاحب الأعوام السبعة، ويضع القارورة كبيرة الحجم في حجر جده، ويقول:
– لماذا هذه أكبرهن يا جدي؟
يمسك الشيخ حمزة الطفل من يده، ويجلسه في حجره، ويربت على يده وهو يقول بصوت اختلط فيه الحزن بالبكاء:
– كنت قد أتممت التاسعة والعشرين من عمري وقتها، وقد تزوجت أخواتي البنات في مدن أخرى. كنت على استعداد للزواج من ابنة خالتي، التي وقعت في حبها منذ كنت صغيرًا، لكن يومها رأيت المنظر نفسه الذي رأيته وأنا ابن العاشرة.
سكت الشيخ كعادته، تُعيده الذكرى إلى خروجه من رام الله، وفي يده اليمنى عروسه تحمل حقيبة قماشية وُضع فيها فستان زفافها، تبكي على أمها التي وقعت شهيدة برصاصة استقرت في عنقها أثناء شراء لوازم الزفاف من سوق المدينة، بينما تحمل يده اليسرى حقيبته وكيس ملأه بحفنات من تراب البيت الذي قضى فيه أكثر سنوات عمره، مُتجها بما يحمله نحو خانيونس.
يتركهم الجد بقلب مثقل، موصيًا إياهم ألا يتركوا أرضهم. وقبل أن يغمض عينيه، تسلل صوت حفيدته أمل إليه، تزف إليه خبر التحاق أخيها حمزة بصفوف المقاومة، ويرتفع في اللحظة نفسها صراخ زوجة ابنه الأصغر أثناء وضع مولودها، فيضحك الصغار هاتفين باسم المولود “حمزة”.
يبتسم الشيخ حمزة، وهو يردد:
– سيخرج في كل جيل حمزة، ولن ننتهي أبدًا.
ثم ينظر نحو النافذة حيث تطل السماء عليه، ويحتضن سترته، وفي يده عبير الحجارة، ويغمض عينيه مبتسمًا راضيًا، ومن بين شفتيه تخرج الشهادتان.