النـص المـــتاهة
مر على صدور المجموعة القصصية الأولى "مرايا" للكاتب سعيد رضواني حوالي 12 سنة ولا زال أثرها منحفرا في ذاكرتي كأنني قرأتها قبل ساعات، ذلك أن الأسلوب الذي كتبت به مثل البصمة الخاصة وبعد هذا الزمن ها أنا أقرأ مجددا قلعة المتاهات وقد تضاعفت تقتي في أن كاتبها يؤمن أن القصص متوفرة وهي ملقاة على قارعة الطريق، فهو لا يسعى الى سرد الحدوثات بل يبتكر طريقته في كتابة ظلال القصص أو كتابة كواليسها أو كتابة بريختية تجعل القارئ مشاركا في عملية الكتابة ولن أجد أبلغ من هذا التعبير المقتطف من أحد نصوص المجموعة: "لم يكن هدفي كتابة القصص بل كتابة كتابتها، رصد مضمون القصة ورصد لحظات كتابتها، بما فيها من حبكة وما في حبكتها من حبكة، بما فيها من سرد وما في سردها من أساليب السرد، وبما تتضمنه من وصف وما في وصفها من أساليب الوصف." ص73-74
الكتابة بشكل هندسي حريص على الخطوط الموازية، وكأن الكلمات مضغوطة ومشحونة لتستوعب شحنتين في نفس الآن وهذا في اعتقادي هو ما يضاعف قوة تأثير هذه الكتابة.. في أغلب مقاطع القصص هناك تذكير بخطة الكتابة وتذكير بالجمل السردية التي تمتح من الواقع، تأرجح ما بين محبرة الواقع ومحبرة الخيال يتعمد أن يضع القارئ دائما بين بين.
في المعتاد هناك دوما كاتب يتعاقد مع قرائه أن يحكي لهم ما هو واقعي أو ما هو خيالي أو ما هو مزيج من هذا وذاك وفي النصوص الميتاسردية نجد هذا البعد المربك الذي يتعمد إظهار السارد والقارئ والمؤلف والكتابة واقحام السرد في السرد أو الحديث عن القصة داخل القصة.. وأكثرها يركز على التداخل بين حياة الكاتب وشخوصه التي تنفلت من عقالها وقلما استبذ الميتاسرد باللغة والأسلوب.. في قصص كثيرة نجد المحاكاة الفنية تمعن في تقابلات وانعكاسات تركز على إيجاد تقاطعات واسقاطات بين شخصيات الورق وشخصيات من لحم ودم لكننا في قصص رضواني نذهب أبعد من ذلك للتركيز على الجمل والفقرات والمعاني التي نجد أكثرها مكتوب بشكل انعكاسي ومرآوي ومتداخل ولن نعدم الأمثلة على ذلك في النص الذي هو في جله كثلة من التقابلات والتداخلات والتوازيات:
– من أعلى الجبل إلى أسفل الحكاية أركض بقدم وقلم، أركض بين الأعشاب والممرات بين الجمل والفقرات. أركض باتجاه الأسفل، باتجاه محطتين، محطة السفر في القطار، ومحطة السفر في الإبداع. ص 27
– .. كتابة مختلفة: كتابة مملكة صغيرة بالطوب والحجر بدل الحروف والكلمات، مملكة تسكنها سلالة من الأبناء والأحفاد، كتابة بالحجر والبشر. ص15
– يشعر أنه لا يقرأ عن الحدث بل يشارك فيه، وأن النفق ليس في الرباط بل نفق في طريق يربط روما بلومباردي، وأنه هو نفسه يستقل القطار نفسه الذي يقرأ عن أحداثه على شاشة هاتفه.. ص33
– .. القدمان اللتان كانتا قبل قليل تركضان في الغابة تجمدتا الآن خلف الشجرة، بينما أشجار الغابة التي تتشابك فروعها امتد تشابكها إلى داخل رأسه وهو يقدر أنه سيموت بطلقات الكلام الذي تقذفه به زوجته المحتمية بالقناص قبل أن تمحقه طلقات البندقية.. ص45
– أرتشف آخر جرعة من آخر كأس من آخر زجاجة من آخر سقطاتي.. ص56
كهواء دافئ تخرج أنفاس المتفرجين من نافذة المسرح، وكأنفاس باردة يدخل الهواء عبر نافذة الغرفة إلى رئتي. ص65
كالندى يتقاطر عرقي وكالعرق يتقاطر الندى من شجيرات القبر، وكالندى والعرق تنزل دموعي وأنا أعانق الشاهدة. ص67
إننا أمام بلاغة حديثة وذكية في تدوير النص وخلق تكرار سردي وظيفته الأساس حفر أخاديد سردية في النص وهو أسلوب يستثمر تقنية اللازمة الموجودة في القصائد، وسيلاحظ القارئ أن هذا اللعب بالجمل لا يقتصر على الشكل بل ينعكس على السرد وحبكة النص ويجعل القارئ مثلا موزعا في نص واحد بين نصين أو أكثر ينكتبان في لحظة واحدة.. أو يجعله منقسما بين زمنين أو مكانين بل متشضيا في الأزمنة والأمكنة.. هكذا فإذا كانت العبارة تتفرع، فإن الفكرة أيضا تظهر في محكيات رضواني بقرون متعددة، ولذلك فهي متاهة حقيقية، فهل من الضروري أن تقبض على المعنى الواحد أم المتعدد؟ وهل من الضروري أن تجد الأحداث والشخصيات والأماكن والأزمنة والحبكة بالشكل الكلاسيكي المتعارف عليه أم انك ستجد رؤية مختلفة لهذه المكونات؟ وما هو الحد الفاصل بين تشويش فني متعمد وتشويش تجريبي منفلت؟
في هذه المتاهة تيمات النصوص مثل أسماك ذهبية ساحرة جذابة تحس بها حاضرة وتستعصي على القبض، وقد أجهدت نفسي لتتبع التيمات فخلصت بصعوبة إلى أن أنوية النصوص الموضوعاتيه وهي كالتالي:
– قصة عن القصة (نص استدراج)
– عوالم الحروف والكتابة (قلعة الحروف والكلمات)
– القطار والزمن (قطار لومباردي)
– السفر والزمن (جولة)
– جبروت الزمن (عجلة الزمن)
– المرأة والزمن (ظل الزمن)
– الحرمان (حرمان)
– الحزن (فوارق)
– الذكرى والنسيان (لحظات ومشاهد)
– القتل بالكتابة (التحدي)
– الموسيقى (أغنية الحياة)
وهذا يدفعني إلى أن أطرح سؤالا يحيرني : هل فكرة النص تقود إلى أسلوبه، أم أن الأسلوب يؤدي إلى الفكرة؟؟ وفي جميع الأحوال فإن المواضيع الأثيرة لدى الكاتب يمكن التعبير عنها بكلمات بؤرية: الكتابة والإبداع والقصة والزمن والذكرى والنسيان والمرأة والرجل والحزن والفن والرسم والموسيقى.. وما يتفرع عن هذه الكلمات المفاتيح لا يمكن أن تجده في نصوص هذه المجموعة إلا مندغما بشكل إبداعي بظلاله وأنساغه وتشابكاته وتداخلاته وتقاطعاته وتلك بعض ملذات هذا النص المتاهة.
قلعة المتاهات. سعيد رضواني
قصص.
الناشر: الراصد الوطني للنشر والقراءة. سيليكي أخوين. الطبعة الأولى2022
عدد القصص:11 قصة/ عدد الصفحات: 91 ص