الخميس ١٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
حسم مفهوم الهويّة في أولويات النهضة العربية
بقلم صبحي غندور

اليقظة في المنامة!؟

يعتزم "المؤتمر القومي العربي" عقد دورته الثامنة عشر في نهاية الشهر الجاري بمدينة المنامة عاصمة البحرين. وستخصّص دورة المؤتمر لمناقشة مسودة المشروع النهضوي العربي وعناصره الستة: الوحدة العربية، الديمقراطية، الاستقلال الوطني والقومي، التنمية المستقلّة، العدالة الاجتماعية والتجدّد الحضاري.

للأسف الشديد، فإنّ ظروفي لا تسمح لي بالمشاركة في هذه الدورة رغم رغبتي الشديدة بذلك. وكانت آخر مرّة شاركت فيها بأعمال "المؤتمر القومي" هي دورة العام 2002 التي انعقدت في بيروت.

ويبدو أنّ "المؤتمر القومي" قد بلغ في دورته الثامنة عشر حالة الرشد بأولويات احتياجات الأمّة. فمعظم دورات المؤتمر كانت تنتهي عادةً بإصدار بيانات سياسية تتحدّث عن "حال الأمّة"، لكنّها – رغم متانة عباراتها ووضوح مواقفها – لا تغيّر شيئاً من حال الأمّة! بل في كلّ عام نرى ب"حال الأمّة" مزيداً من التراجعات والتحدّيات ومن الابتعاد عن الهوية العربية.

فما تحتاجه الأمّة العربية الآن من القوى السياسية الفاعلة في بلدانها، هو التحرّك الجاد لتحقيق نهوضٍ شامل، وليس فقط مجرّد إصدار المواقف والبيانات الواصفة لواقع الحال والعاجزة عن تغييره.

النهوض العربي الشامل هو أولوية لم تتحقّق قبل الآن، وهو مسؤولية لم تتحمّلها بعد الحكومات ومنظمات المجتمع المدني في البلدان العربية.

ورغم بعد المسافات، فإنّ "مركز لحوار العربي" في واشنطن أدرك أهمّية الدعوة لنهضة عربية شاملة، وطرح في العام 2004 مشروعاً ل"ميثاق عربي" يتجاوز الأمور الآنية الشاغلة للعرب – رغم خطورتها- ودعا إلى التوافق على تصوّر فكري مبدئي مترابط في عناصره من أجل مستقبل أفضل منشود للأمّة العربية كافّة.

وقد نشرت مجلة "الحوار" (الصادرة عن "مركز الحوار العربي") في صيف عام 2004، نص مشروع "الميثاق"، وكذلك فعلت بعض الصحف العربية الأخرى، والذي كان حصيلة لقاءات متعدّدة اشترك فيها عدد من المفكّرين العرب المتفاعلين مع "مركز الحوار". وقد تضمّن "مشروع الميثاق" ست مسائل اعتبر الميثاق أنّ حسماً لها، وتوافقاً حولها، وتفعيلاً لسياقاتها في الحياة العربية، سيضع اللبنات الأساسية لنهضة عربية شاملة. وعناوين هذه المسائل التي شرحها المشروع هي: الهُويّة، عن العروبة والإسلام، الديمقراطية، حقوق المرأة، المنهج العملي، ومسألة نبذ العنف عربياً.

وقد قام "مركز الحوار العربي" بحملة إعلامية وتعريفية بشأن هذا المشروع، في صيف العام 2004، وتلقّى المركز سلسلة من الآراء والأفكار والتعليقات حول مضمون بنوده من عدد لا بأس به من المفكرين والمثقفين العرب، لكن آلية التحرّك من أجله لم تتجاوز هذا الحد بسبب مشكلة عدم توفّر الإمكانات المادية المطلوبة من أجل عقد مؤتمر عام يدرس فيه المشاركون العرب بنود "مشروع الميثاق" ويضعون برامج العمل اللازمة لمتابعة التحرّك من أجله على مختلف المستويات وفي كافّة البلدان.

وقمت شخصياً بزيارة لدولتيْ قطر والإمارات العربية في ديسمبر 2004 من أجل الحصول على تسهيلات لعقد هذا المؤتمر، لكنّ هذه المحاولات لم تثمر بعد عن أمور عملية. ثمّ طرحت الموضوع مجدّداً في مقال نشرته صحيفة "البيان" الإماراتية (عدد 31/3/2006) تحت عنوان: "أسس فكرية لنهضة عربية"، للتأكيد على أهمّية هذه الدعوة، وللحثّ على تأسيس "رابطة فكرية" من أجل نهضة عربية شاملة

لذلك، أرى أنّ تخصيص "المؤتمر القومي العربي" دورته القادمة في المنامة من أجل بحث مسودة "المشروع النهضوي العربي" هو خطوة مبدئية على الطريق الصحيح. يبقى أنّ المهمّ هو لاحقاً في مسألتين: مضمون المشروع، ثمّ كيفيّة متابعة التحرّك من أجله مستقبلاً.

فالمؤتمر القومي العربي هو ساحة "جبهوية" لأحزاب وتيارات فكرية وسياسية متنوعة، وبالتالي، فإنّ تعامله مع "مشروع نهضوي عربي" يتطلّب أولاً تقييماً وتقويماً لتجارب حزبية عربية أدّى بعضها إلى ما عليه العرب الآن من احتلال وانحدار وانقسام.

بل هناك من هم فاعلون في حركة "المؤتمر القومي العربي" ويرفضون أصلاً تحميل أيّة مسؤولية إلى أنظمة أو أحزاب أو قيادات ساهمت في الثلاثين سنة الماضية، من خلال حروب فرعية خاضتها، في إضعاف الأمّة العربية وبتمهيد الظروف المناسبة لمزيدٍ من الاحتلال والوصاية الأجنبية.

أيضاً، هناك الآن حاجة عربية للتأكيد على العروبة كهويّة انتماء لكلِّ العرب أكثر من الحديث عن "القومية" بمضمونها السياسي المتعارف عليه في القرن العشرين، وما لحق هذا المضمون من تشويه فكري وممارسات سياسية سيّئة.

البلدان العربية تحتاج اليوم إلى حسم هويتها العربية من خلال طرح فكري يجمع ولا يفرّق، يدعو إلى التكامل بين الخصوصيات العربية لا إلى إثارة المخاوف لدى المتشبثين بها. هويّة عربية جامعة ترعى وتتكامل مع خصوصيات الوطن والدين والمذهب والأصول العرقية والإثنية.

والعرب أينما وُجدوا يحتاجون الآن إلى أطروحة فكرية تفصل بين العروبة كهوية انتماء ثقافي وحضاري، وبين المسائل الفكرية الأخرى ذات السمة الأيديولوجية أو الطبيعة الاقتصادية.

فأساس النهضة العربية المنشودة هو إجماع العرب على هويتهم العربية بغضِّ النظر عن الخصوصيات أو التباينات الفكرية والسياسية بين أبناء الأمّة الواحدة.

إنّ إعداد مشروع لنهضة عربية شاملة هو أولوية مهمة في هذه المرحلة، لكن أولوية هذا المشروع هو حسم كيفية فهم الهوية العربية المشتركة. فالهوية هي إطار جامع لمضامين مختلفة ومتعدّدة، ولا يجوز الخلط بين الحالتين، ولا يجب أن تكون الهوية القومية حالة مرادفة لمضامين أيديولوجية وسياسية وحزبية.

وينجح "المؤتمر القومي العربي" في دورته القادمة، وتنجح كل المحاولات التي جرت وتجري هنا وهناك من أجل نهضة عربية شاملة، حينما تتمخّض هذه المؤتمرات والمحاولات عن حركة جامعة مبرمجة تؤدّي إلى إقناع المواطن العربي أينما كان بأنّ مستقبله ومصلحته وتقدّمه، يتوقّف أيٌّ منها على تحقيق التكامل ين البلدان العربية وعلى دفع الحكومات نحو تبنّي أشكال ومضامين اتحادية تدريجية تستفيد من سياق التجربة الأوروبية الاتحادية المعاصرة، وتفصل بين هذا التكامل وبين الخلافات السياسية الآنية التي تعطّل الآن أي خططٍ لمستقبل عربيّ أفضل.

وبشكلٍ متوازٍ مع هذا الطرح المطلوب لمفهوم الهوية المشتركة، فإنّ التأكيد على أولوية التحرّر من أي احتلال، وتعزيز الاستقلال الوطني، هما الأرض الصلبة المتوجّب توفّرها لبناء نهضة عربية شاملة تقوم على حرّية الأرض والإرادة، حرّية الوطن والمواطن.

إنّ معظم الطروحات الفكرية العربية، والممارسات العملية للبعض، لا تقيم التوازن السليم المطلوب بين ثلاثية الشعارات: الديمقراطية والتحرّر ومسألة الهوية العربية. فالبعض يدعو للتحرّر ولمقاومة الاحتلال لكن من منابع فكرية فئوية أو من مواقع رافضة للهوية العربية. وهناك في المنطقة العربية من يتمسّك بالهوية العربية وبشعار التحرّر من الاحتلال لكن في أطر أنظمة أو منظمات ترفض الممارسة الديمقراطية السليمة. بل هناك من يعتقد أنّ وحدة الهوية العربية تعني بالضرورة أحادية الفكر والموقف السياسي فتمنع الرأي الآخر وتعادي التعددية الفكرية والسياسية التي هي جوهر أي مجتمع ديمقراطي سليم.

أيضاً، إنَّ حسم الهوية العربية كأساس لمشروع النهوض العربي لا يجب أن ينفصل عن المضمون الحضاري الإسلامي الذي ساهم به ويشترك فيه العرب من مختلف أصولهم الوطنية والدينية والمذهبية.

إنَّ مشروع النهوض العربي يتطلب ضرورة الانطلاق من الخصوصيات الوطنية لكلِّ بلد عربي، وباعتماد البناء الديمقراطي السليم للتعامل بين أبناء الوطن في الداخل ومع الآخر العربي، وتحريم أسلوب العنف في العمل السياسي العربي وفي العلاقات بين الدول العربية.

إنَّ الأمة العربية تملك حتماً عوامل استنهاض كامنة في بلدانها وشعوبها لكنها عوامل تحتاج إلى عمل منظم ودؤوب لتحريكها وتطويرها. فالعناصر السلبية قائمة ومؤثرة داخل المجتمعات العربية بسبب سوء أوضاع الداخل وتوظيف الخارج لهذه الأوضاع، بينما تغيير ومواجهة هذه العناصر السلبية يحتاج إلى تحرّكٍ جادٍّ وإلى عملٍ عربيٍّ مشترك في أوسع نطاق ممكن وعلى المستويات كلّها، الرسمية والشعبية والمدنية، وبما يشمل أيضاً العرب المنتشرين خارج البلاد العربية

إنَّ المفكّرين والمثقفين والإعلاميين العرب معنيون الآن بهذه العناصر المشار اليها وبوضع "مشروع نهضوي عربي مشترك" وليس فقط في التحليل السياسي للواقع الراهن.. وعسى أن يدرك ذلك وأن يفعله المشاركون في مؤتمر "المنامة" فتكون بداية اليقظة السليمة لمشروع النهضة العربية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى