بالفكر الوسطي الجديد نبني وطننا الجديد
بسبب شيوع موضة الديمقراطية فأن جميع الاحزاب والتيارات العراقية تبنت شعار الديمقراطية بصورة سطحية وتبسيطية. ان الموقف الديمقراطي الحقيقي لا ينبع من الشعار ابدا ، بل من ايمان صادق وفلسفة عميقة تخص جميع جوانب الحياة الكونية والاجتماعية والسياسية. ان الديمقراطية لا يمكن ان تنجح فقط بتوفر القرار السياسي بل الاهم من ذلك ان يتوفر الاساس الفكري والثقافي في المجتمع وفي النخب الفاعلة، الذي يقبل بالتنوع والحوار المسالم. الديمقراطية هي رؤية انسانية شمولية وليس كلاما سطحيا على نمط شعار الاشتراكية الذي شاع في الستينات والسبعينات وراح يردده الجميع، حكومات ومعارضات، حتى الاسلاميين منهم.
لو تمعنا في عقليات النخب الفاعلة السياسية والدينية والثقافية، التي قادت المجتمع العراقي منذ اوائل القرن العشرين وحتى الآن، نكتشف مدى الازدواجية والتناقض بين شعارات الحرية والديمقراطية وحق التعبير، التي يرفعونها، والعقليات والسلوكيات الحقيقية التي يمارسونها على ارض الواقع.
والمشكلة لا تكمن في الاخلاق وقلة الصدق وغيرها كما يتصور الكثيرون، بل المشكلة تكمن في الفكر نفسه, لأن جميع التيارات السياسية العراقية، القومية والدينية والماركسية، مهما اختلفت في الاهداف والتفاصيل فأنها تتفق في الايمان بـ (الفكر الواحدي) القائم على اساس (ثنائية الخير والشر). أي الاعتقاد الداخلي العميق بأني امثل ( قوى الخير) لأني احمل ( الفكر الواحد المنقذ) وكل من يختلف معي لا بد ان يمثل النقيض أي (قوى الشر)! جميع الاحزاب العراقية تبنت هذا الفكر الواحدي وراحت تزهو به بعد ان عطرته ولونته بمقولات وشعارات حداثية غربية، ماركسية وقومية وليبرالية.هذا الفكر الواحدي الحداثي راح يهيمن على الحياة الثقافية والسياسية العراقية بعد الحرب العالمية الثانية ويقضي تماما على ومضات الفكر التعددي المنفتح الذي حاول ان ينتشر بعد الحرب العالمية الاولى وقيام النظام الملكي. وقد بلغ هذا الفكر التعصبي بشقيه الماركسي والقومي ذروته في نهاية الخمسينات عندما فجر انقلابه الجمهوري عام 1958 وقضى تماما على بقايا الاتجاهات الديمقراطية الضعيفة من الاساس. بطيش المراهقة شرع انصار هذه التيارات الواحدية يجولون ويصولون في الساحة العراقية بشعارات ثورية تكفيرية مرعبة ورنانة ويخوضون صراعات اهلية وعسكرية وعالمية دامية لازلنا نعيشها حتى هذه اللحظة!
منذ الخمسينات وحتى الآن: انقلابات واعدامات ومجازر وتمردات دينية وعرقية وهجرات مليونية وحروب دولية كوارثية، كلها ، نعم كلها حدثت تحت راية هذا " الفكر الواحدي" المغطى بمقولات قومية وثورية واشتراكية ووحدوية وتطهيرية، اشترك بها عن قصد وعن غير قصد الآلاف المؤلفة من المثقفين والسياسيين العراقيين سواء في قيادة السلطة او انصارها او حلفاءها او معارضيها!!
الفكر الوسطي الجديد
بعد هذه الكوارث المتتالية التي قادتنا اليها "الرؤية الواحدية" للوجود وللإنسان، نحن بحاجة الى رؤية جديدة اكثر إتساعا وشمولية وديناميكية تخفف من هذه الثنائية الحدية المتطرفة :إما اسود إما ابيض!! أي إيجاد رؤية وسطية ترى في الشيء الواحد ما هو سلبي وما هو ايجابي وتنتقده وتقيمه من اجل التطوير والتعديل وتوافق المواقف التي قد تبدوا مختلفة شكليا لكنها متفقة بالجوهر. يمكن للمرء ان يكون شيوعيا او قوميا أو إسلاميا وبنفس الوقت يكون وسطيا ، لأن الوسطية ليست آيدلوجية متزمتة محددة بل هي رؤية واسعة أشبه بالناضور المكبر الذي يمكن ان يستخدمه أي انسان مهما كان معتقده ودينه من اجل رؤية الواقع بصورة اكثر وضوحا واعتدالا. يمكن تقسيم الرؤية الوسطية الى مجالين متكاملين، المجال الفلسفي الكوني الشامل لكل البشر، والمجال الاجتماعي الحياتي الذي يتعامل مع كل مجتمع حسب الزمان والمكان.
اولا، الرؤية الكونية الفلسفية للوسطية
1 ـ الوسطية تعني الجمع التكاملي بين ثنائيات الوجود: ان "الرؤية الوسطية"، هي نقيض تام للرؤية الواحدية السائدة. اذا كانت الواحدية تقسم الوجود الى "ثنائية تناحرية" بين " الخير والشر" فأن الوسطية تقسم الوجود الى ثنائية انسجامية تكاملية" بين اطراف مختلفة تكمل بعضها البعض: الذكورة والانوثة، النهار والليل، السماء والارض، الشمس والقمر، الدنيا والآخرة.. الخ.. طبعا هذه الثنائية التكاملية لا تنفي ابدا ثنائية الخير والشر، بل تعتقد ان الشر يكمن في التطرف، أي تفضيل طرف معين من الثنائيات ونبذ الطرف الآخر.. وأن الخير يكمن في الجمع الانسجامي بين اطراف الثنائيات. نعم ان الخير يكمن في " الوسطية" أي في انسجام ثنائيات الحياة وتكاملها ، والشر يكمن في " الواحدية" أي في صراع هذه الثنائيات وسيادة طرف منها على حساب الطرف الآخر. ان الذكورة وحدها او الانوثة وحدها ، يعني الجفاف والموت ، ولكن الوسطية بين الاثنين، أي انسجامهما وتوحدهما يعني الخصب والولادة وديمومة الحياة. التمسك بالماضي السلفي وحده وبأمجاده المفترضة يعني الانجماد في الذكريات والموت على ما فات، اما التمسك بالمستقبل وحده وبحداثته الموعودة فيعني العزلة في الخيال والفقدان في ثمالة الوعد والانتظار، اما الانسجام بين الاثنين فيعني "الحاضر" أي رؤية الواقع كما هو للتعرف على ماضيه وإستشراف مستقبله. بين الصيف والشتاء هنالك فصلي الاعتدال.. من دوامات الثلج والنار تنبثق مياه الحياة.
اما بالنسبة للحياة الاجتماعية، فأن الرؤية الوسطية تكشف لنا عن "ثنائيات" عديدة ظلت منذ اجيال محور جميع الصراعات والخلافات لدى جميع الشعوب وخصوصا لدينا: الميراث والحداثة، الدين والعلمانية، الروحية والمادية، الخصوصية والعمومية، الاشتراكية والفردية، الحرية والمركزية، المساواتية والتمايزية، الانتماء الوطني والانتماء المحلي والاقليمي.. وغيرها الكثير من الثنائيات العامة والخاصة بكل جماعة انسانية. وهذه امور ستناول بعضها في المجال الاجتماعي.
2 ـ الوسطية تعني الجمع بين الرؤية المادية العلمية والرؤية الدينية الروحية: ان من عيوب العقلية الحداثية الواحدية السائدة في العالم وفي بلادنا بالذات بمختلف تياراتها الماركسية والقومية والليبرالية، انها تبنت بصورة متطرفة تلك الاشكالية المصطنعة التي خلقتها التجربة الاوربية عن وجود تناقض لايحل بين الفهمين المادي العلمي والروحي الديني، كرد فعل إزاء تعصب الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى. بلغ الصراع بين انصار العلم والحداثة وانصار الدين والكنيسة ذروته في القرن التاسع عشر حيث تم الحكم بالرجعية والتخلف ومعادات العلم على كل طرح روحي وديني، من اجل تبرير الثورات البرجوازية والاشتراكية ضد الطغات المتحالفين مع الكنيسة. معنى هذا ان التناقض المطلق بين العلم والروحية، هي اشكالية مصطنعة ومؤقتة فرضتها ضروف الصراع الاجتماعي السياسي في اوربا. ثم ان حداثيينا الذين حكموا برجعية الدين وضرورة تجاهله وتناسيه، تناسوا ان الدين حالة انسانية طبيعية وغريزية لا يمكن لأي مجتمع ان يستغني عنه، ثم الاهم من هذا ان الدين يشكل جزءا هاما من هوية أية أمة مع باقي الاجزاء المتمثلة بالثقافة والتاريخ والفنون والتقاليد وغيرها، وأن التخلي عن الدين واحتقاره يعني التخلي عن الجزء الاهم من الهوية كما يتخلى الانسان عن احد اعضائه!
كالعادة، فأن رؤيتنا الواحدية للحداثة العلمية خلقت نقيضها المتمثل بالسلفية الدينية، التي بكل بساطة تخلت عن حقيقة الماضي الاسلامي الحضاري المتنوع بتياراته الدينية الروحانية الصوفية وتياراته العلمية المادية الدهرية، وقررت مواجهة تعصب الحداثة بتعصب آخر انعزالي رافض للواقع ولكل مكتسبات الحداثة والحضارة والمكتشفات العلمية والفنية والادبية ومباهج الحياة الانسانية، والحكم بالكفر والزندقة على كل ماهو خارج النص المقدس. نعم ان الفكر الاحادي المتطرف قد انقسم بين حداثيين علمانيين يعتبرون الدين امرا طارءا ومتخلفا يجب احتقاره والتخلص منه، اما المتدينون فقد سقطوا في العكس تماما، أي إعتبار الدين هو كل شيء في حياة وثقافة المجتمع واعتبار كل باقي الامور الثقافية والعقلية من آداب وفنون وتقاليد وميراثات وعلوم ، امور طارئة ومستوردة وكافرة يجب التخلص منها!!
إزاء هذه الثنائية التطرفية التي مزقت المجتمع العراقي، يأتي دور الوسطية لعقلنة التناقض المفتعل بين العلم والروح، بين العلمانية والتدين، وإيجاد الوسيط الواقعي الحقيقي الموجود في الحياة ولكن التعصب والتبسيطية تمنعان من رؤيته. مثلا هنالك الآن مراجعة كبيرة في الغرب نفسه بين مختلف العلماء والمفكرين لاطروحات التعصب العلمي وتنامي ميل قوي يعتقد بأنه من الصعوبة جدا الفصل بين العلم والروح.ان مفهوم "الطاقة" الذي يقره العلم بأنه مع " المادة" يشكلان طرفي الوجود.. مفهوم "الطاقة" هذا لايختلف بالحقيقة عن مفهوم "الروح" بما أن المفهومين يحملان معنا واحدا هو:(القوة الغامضة غير المادية التي تؤثر وتخلق الحركة والحياة في المادة)!
ثم الاهم من هذا، ان النخب الغربية بدأت تكتشف منذ اعوام مدى سذاجة احلامها عن التكنلوجيا والعلم الذان سيحققان " الجنة" الاشتراكية والليبرالية. الآن بدأوا يكتشفون بأن الانسان كائن روحي (عاطفي نفسي خيالي) اولا وقبل كل شيء ، لأن اسرار الخليقة والكون ومعنى الحياة وقلق المرض والموت ومن اين اتيت انا والى اين انا راحل، كلها معضلات ازلية لايمكن للعلم والتكنلوجيا ان تحلها او تمنح الاجوبة المقنعة حولها.
3 ـ الوسطية تجمع بين الايمان بدور الواقع والظروف مع الدور الحاسم لارادة الانسان: ان هذه الاشكالية التي عالجتها كل الاديان والمعتقدات منذ ان وعى الانسان الحياة:( هل أنا مخير ام مسير)؟! فأن الوسطية تميل كعادتها الى الجمع بين هاذين النقيضين، للخروج بالنتيجة التالية: الانسان مخير ومسير بآن واحد، أي انه مخير بقدر اداركه لحقيقة ذاته والواقع الاجتماعي والكوني الذي يؤثر فيه، ثم العمل على التفاهم مع ذاته لاكتشاف القوى الفاعلة في داخله التي تساعده على الانسجام مع الواقع وجعله بخدمته. وان الانسان مسير بقدر جهله لحقيقة ذاته وللواقع الذي يحيطه وبالتالي يكون قامعا لذاته العميقة ومستضعفا امام الواقع الذي يحيطه. ان وعي الذات الداخلية يقود تلقائيا الي وعي الواقع الخارجي والانسجام معه وتطويعه، لأن ذات الانسان اشبه بالغصن في شجرة الوجود الحياتي والالهي، ومن لا يعي غصنه سوف لن يعي ابدا شجرة الوجود الكلي. لهذا فأن الحرية تعني اولا ادراك الذات، والعبودية هي الجهل بها! نعم ان اكتشاف الذات هو الطريق لاكتشاف الواقع ثم الانسجام معه وتطويعه، والجهل بالذات يعني الجهل بالواقع ثم الخضوع له. ولهذا قال الحكماء منذ القدم: ( إعرف نفسك ايها الانسان)!
لهذا فان الوسطية ترفض الفكرة التبسيطية السائدة عن الضحية البريئة والجلاد الآثم. ان الانسان، فردا وجماعة، مسؤول عن مصيره تماما، لأنه هو نفسه الوحيد القادر على تحديد موقعه في الحياة، فهو الوحيد القادر على معرفة ذاته وإكتشاف خباياها ونواياها ونقاط قوتها وضعفها ثم التفاهم معها للتعامل مع الواقع واكتشاف خباياه ونقاط ضعفه وقوته من اجل تطويعه والانسجام معه. ان الداخل هو الذي يحدد الخارج، وان الآخر يتعامل معك كما تتعامل انت مع نفسك. ان الشعوب التي تعاني الخراب من قمع وفقر وحروب، قبل ان تسأل جلاديها عليها ان تسأل ذاتها الداخلية عن الخراب الكامن فيها. وإذا كانت ذات الانسان هي نفسيته ومعتقده، فأن ذات الشعوب هي افكارها وثقافتها ومعتقداتها التي تهيمن عليها، وهنا يكمن الدور الحاسم للنخب الفاعلة الدينية والثقافية والسياسية في تقرير حياة مجتمعاتها. ان الوسطية تؤمن ان خلاص الانسان، فردا وجماعة، يكمن اولا وقبل كل شيء في تنقية ذاته النفسية والمعتقدية من جراثيم الخراب الكامنة فيها. ان افضل صورة تعبر عن هذه الحقيقة، تلك الحكمة المقدسة: (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..)..
ثانيا، الرؤية الاجتماعية السياسية للوسطية
ان هذا المجال يعني بالجانب التطبيقي الخاص بالزمان والمكان لكل شعب. ان التحلي بالرؤية الوسطية في المجال الاجتماعي اصعب بكثير من التحلي بها في المجال الكوني، لأن المجال الاجتماعي دائم التغير ويمس مباشرة المشاعر والمصالح . لكن مع هذا فأن الوسطية تبقى افضل واسهل بكثير من الرؤية الواحدية ، لأن الوسطية اكثر إنسانية وعقلانية ورافضة للعنف مهما كان الا العنف الدفاعي الغريزي. في كل الاحوال فأن الوسطية ليست عملية تلقائية وسهلة بل هي عملية ابداعية طويلة الامد ودائمة تقع على عاتق جميع ابناء النخب الفاعلة السياسية والدينية والثقافية. المهم ان يتوفر المبدأ ومعه الرغبة الصادقة بنشره والتثقيف به. بالنسبة للمجتمع العراقي فأن الرؤية الوسطية تشخص الثنائيات الاساسية التالية التي شكلت محور الصراعات والخلافات والانشقاقات الاجتماعية والسياسية التي ظلت السبب الاول والاكبر في ديمومة الخراب وتوالي الكوارث على الامة العراقية:
1 ـ الوسطية تعني الجمع بين الانتماء الوطني والانتماءات المحلية: من اكبر المشكلات التي يعاني منها المجتمع العراقي هو ذلك التناقض الحاد والدامي بين الانتماء الوطني من ناحية والانتماءات الفئوية بتنوعاتها الاقوامية(اللغوية) والدينية والمذهبية والمناطقية والعشائرية. صحيح ان هذه مشكلة قديمة تعاني منها جميع الشعوب، الا انها لدينا ظلت حادة وسببا مباشرا لانشاق امتنا وضعف دولتنا وتوترنا الدائم. السبب ايضا متأتي من الحداثة التي جلبت لنا من اوربا اشكالية خاصة بها ، أي مشكلة الانتماء الاقوامي الاثني(القومي العرقي) واعتبار عامل(اللغة) هو الحاسم في تحديد انتماء الشعوب وهويتها، بصورة منافية تماما لعامل الانتماء الى الوطن بأرضه وتاريخه ودولته وناسه. ان تيارتنا السياسية جميعها تشرذمت وشرذمت معها الشعب العراقي الى شعوب وامم وقوميات وطوائف حسب اللغات والمذاهب والمعتقدات، نافية مفهوم الهوية الوطنية الشاملة القائمة على اساس الانتماء المشترك لأرض النهرين بتاريخها وميراثها وتنوعها الثقافي واللغوي . لهذا فأن الوسطية تجهد من اجل خلق انسجامية تكاملية بين هذين الانتمائين الوطني والفئوي، بدلا من هذه التناقضية المفتعلة التي خلقتها الثقافة الواحدية السائدة. ان الوسطية تؤمن وتبرز وحدة الامة العراقية دولة وارضا وشعبا منذ عميق التاريخ، ولكنها بنفس الوقت تؤمن بالاعتراف التام بدور جميع الفئات المحلية مهما كانت لغتها ودينها ومذهبها، في صنع هذا التاريخ وصيانة هذه الوحدة. انها ضد المغالات بالوحدة الوطنية الرافضة للهويات المحلية اما باسم الدين او باسم القومية، ولكنها ايضا ترفض المغالات بالتأكيد على الخصوصيات المحلية المبررة للطروحات القومية الانفصالية وما يسمى بحق تقرير المصير! انها تؤمن بالهوية الوطنية الواحدة المتكونة من هويات محلية، اقوامية ودينية ومناطقية متنوعة. ان هوية الامة العراقية مثل كل هويات الامم الاخرى تتكون من مجموع الهويات المحلية، ولها امتدادات اقليمية سكانية وثقافية وسياسية ودينية مع الدول المحيطة . ان تنوعات الثقافة العراقية لايجب ان تكون عوامل ضعف وانشقاق بل عوامل قوة وتأثير: ان الاسلام وحضارتنا العراقية العباسية يمنحنا حضورا في العالم الاسلامي، وان ثقافتنا وتاريخنا الناطق بالعربية يمنحنا حضورا في العالم العربي. وان التشيع وعتباتنا المقدسة يمنحنا حضورا لدى شيعة ايران ولبنان والخليج وعموم العالم الشيعي ، وان ميراثنا السرياني المسيحي يمنحنا عمقا تاريخيا دينيا وحضورا في العالم المسيحي ، وان الوجود الكردي يمنحنا حضورا في تركيا وايران وباقي مناطق تواجد الجماعات الكردية، وان الوجود التركماني يمنحنا حضورا في تركيا والعالم الناطق بالتركية. وان الوجود الصابئي يمنحنا حضورا في التراث العرفاني والمسيحي. نعم ان الوسطية تعتبر ان ثقافتنا المتنوعة لغويا ودينيا ومذهبيا هي اساس وحدتنا وقوتنا وحضورنا الاقليمي والعالمي، ويبقى الانتماء الى (الامة العراقية) هو المنبع والاساس الاكبر والاشمل.
2ـ الوسطية تعني الجمع بين مفهوم التقدم العلمي الصناعي مع مفهوم تقديس البيئة والطبيعة والميراثات لمحلية: ان الحداثة التي اشاعتها الحضارة الغربية وتبنتها التيارات الحداثية، خلقت تناقضا وهميا بين البيئة والتصنيع. ان الحداثة السائدة عنت كل ما هو نقيض للواقع الوطني والانساني بيئيا ودينيا وثقافيا وتقاليديا. ان الحداثة التكنلوجية الصناعية عنت كل ما هو نقيض للطبيعة والبيئة والبساطة في طرق العيش والحياة من خلال تقديس المكننة والانتاج المادي وتدمير الطبيعة وتحويل الحياة بكل تفاصيلها الى مصنع كبير حيث يكون مبدأ كمية الانتاج والربح هو المقياس الاول لقيمة الانسان والطبيعة. الآن ومنذ سنوات وبعد تفاقم التلوث في الارض والسماء والانهار والبحار وانتشار الامراض السرطانية والجنسية وجنون الانسان والبقر وغيرها من عوارض التلوثات ونقص الاوكسجين وثقوب الاوزون وتهديدات المولدات النووية.. بعد كل هذا بدأت في الغرب تتنامى نشاطات الحركات الداعية لعقلنة التصنيع واحترام البيئة والتخفيف من هيمنة العلم والتكنلوجيا على الحياة. ان الوسطية لا ترفض الحداثة بمعانيها العلمية والتقنية والانتاجية بل تتبناها ولكن ضمن مبدأ اساسي فحواه:" ان الانسان وبيئته هما الهدف الاول والاكبر للحداثة، وليس الربح المادي وكمية البضائع". ان حداثية وعلمية الوسطية يجب ان لا تتناقض مع مبدأ تقديس الوطن بكل جوانبه الميراثية والتقاليدية والبيئية والطبيعية . الوسطية ترفض ذلك التبجح الحداثي والتقليد الاعمى للطروحات والموضات الثقافية الغربية وعبادة التكنولوجيا والانتاج المادي، وهي تعمل على دراسة وتطوير الميراث الشعبي الوطني والبحث عن طرق انتاج وتحديث نابعة من الواقع والبيئة المحلية وتربية الانسان العراقي على احترام بيئته ومكافحة التلوث والاجتياح الوحشي للحضارة الصناعية الحديدية.
3ـ الوسطية تعني الجمع بين مبدأ التقيد بخصوصيات الوطن ومصالحه الذاتية مع مبدأ الانفتاح والتقارب والتضامن مع المحيط الاقليمي والعالمي: ان الوسطية ترفض كل المشاريع والنضريات السياسية المستوردة او المدعومة او الطامحة لتقديس خارج الوطن مهما كانت الحجة بأسم القومية (العروبية والكردوية والتركستانية وغيرها) او العالمية الدينية او الرابطة الطبقية الاممية، وغيرها. هذا لا يعني ابدا ان الوسطية تعادي المحيط الخارجي، بل العكس انها تعتقد ان الانتماء الحقيقي الى الوطن واحترام خصوصيته وظروفه المتميزة سوف يجعل كل العراقيين يشتركون في الارتباطات الخارجية الاقليمية والعالمية. ان الهوية الوطنية العراقية يجب ان تكون النوات التي تجتمع حولها مختلف الهويات الخارجية: الهوية العربية التي تجمعنا مع اشقائنا في بلدان الشام والعالم العربي، والهوية الشرق اوسطية التي تجمعنا مع اخواننا الاتراك والايرانيين، والهوية الاسلامية التي تجمعنا مع محيطنا الاسلامي، والهوية المتوسطية التي تجمعنا مع شعوب البحر المتوسط :( بالمناسبة ، نحن نعتقد ان العراق يجب ان يدخل ضمن مجموعة بلدان البحر المتوسط، لانه جغرافيا وحضاريا ضمن هذه المنطقة، وليس بالضرورة ان يكون موقعه مباشر على البحر، فأن البرتغال لا تقع على البحر المتوسط رغم انها عضوا في المجموعة. ان المجال الحيوي الحضاري للبحر المتوسط يتوقف عند جبال زاخاروس أي الحدود الفاصلة بين العراق وايران حيث يبدأ بعدها المجال الحضاري الآسيوي). ان الوسطية تسعى ان تربي العراقيين على اعتبار جميع الانتماءات الخارجية هي انتماءات انسانية ومصالحية تخدم كل العراقيين وتربطهم تضامنيا ومصالحيا مع الشعوب الشقيقة والجارة والصديقة من دون تعصبات عرقية ومذهبية ودينية منافية للوحدة الوطنية. مثلا أن الانتماء الى العالم العربي يجب ان لا يشمل فقط العراقيين الناطقين بالعربية كما هو شائع الآن ، بل يجب ان يشمل كل العراقيين مهما كانت لغتهم ودينهم، لأن هذا الانتماء يجب ان يكون انتماءا جيوسياسيا مصالحيا وليس قوميا عرقيا كما عودنا العروبيون. نفس الشيء بالنسبة لباقي الانتماءات الى العالم الاسلامي والشرق اوسطي والبحر متوسطي وغيرها.
5 ـ الوسطية تعني الجمع بين مختلف المراحل التاريخية العراقية التي تعودنا ان تكون متناقضة:
ان مشكلة العراقيين مثل معظم الشعوب العربية، هذا التقطيع التعسفي لتاريخ الأمة العراقية زمانيا ومكانيا. أي التناقض المفتعل بين الانتماء الى الحقبة العربية الاسلامية والحقب الحضارية الوطنية السابقة: المسمارية (سومرية بابلية آشورية)، والآرامية المسيحية. اضافة الى التناقض الآخر بين عروبة التاريخ العراقي مع تاريخ الفئات العراقية غير الناطقة بالعربي مثل التركمان والاكراد والسريان وغيرهم. ان هذه الثنائيات المصطنعة تولدت بسبب كتابة التاريخ العراقي من وجهة نظر قومية عرقية قائمة على اسطورة حداثية ساذجة تعتقد ان الانتماء الحقيقي لأي شعب يعتمد على اللغة وليس الى الارض وتاريخها وناسها! بالتالي ان تاريخ المجتمع العراقي هو تاريخ القبائل العربية في اليمن والحجاز قبل كل شيء، اما تاريخ وطنه الممتد قبل ذلك بآلاف الاعوام فيبدو ثانويا وغريبا لأنه يعتبر بصورة غير معلنة مناقضا للانتماء الى التاريخ العرقي اللغوي العروبي. ثم يضاف الى هذا ان باقي الفئات العراقية غير الناطقة بالعربي مثل الاكراد والتركمان والسريان والصابئة، قد تم اخراجهم تماما من التاريخ العراقي لمجرد انهم حسب هذه الفرضية القومية غير منتمين الى (العرق العربي)! بل كثيرا ما يتم ذكر اسم هؤلاء كغرباء وأعاجم قد لوثوا الدماء العربية وسببا بانحطاط الحضارة! بل الاخطر من كل هذا ، ان هذه الرؤية العروبية امتزجت في العراق بالتشويه الطائفي العثماني ضد الشيعة. فبعد ان تم اقصاء الجزء الاكبر من تاريخ العراق السابق للاسلام ، ثم تم إقصاء كل الفئات العراقية غير الناطقة بالعربي، إكتملت الطامة الكبرى بأقصاء الجزء الاعظم من التاريخ العراقي في العصر العباسي والحكم على اغلب اعلامه ومبدعيه بالاعجمية والشعوبية والتفريس، لمجرد انهم بغالبيتهم شيعة، وكذلك مسيحيون وصابئة ويهود، وبالتالي فأنهم قد يحملون دماءا مشكوكا بنقائها العربي!! إذن كيف نتوقع من العراقيين التحلي بالروح الوطنية والشعور بالانتماء الى العراق ما داموا يتعلمون منذ مقاعد الدراسة بأن غالبيتهم من اسلاف غرباء عن تاريخ الوطن ومشكوك بنقاوة دمائهم العربية!!
بناء على كل هذا فأن الوسطية تدعو الى دراسة التاريخ العراقي واعادة كتابته بصورة تخلصه من تشوهاته السياسية العرقية والدينية والطائفية المنافية للوحدة الوطنية، والتأكيد على مبدأ ان تاريخ أي وطن هو تاريخ ارضه وما عليها من ناس واحداث واعلام مهما اختلفت لغاتهم ومذاهبهم . وهذا يعني التأكيد على ديمومة التاريخ العراقي منذ القدم وترابط جميع مراحله: المسمارية(السومرية البابلية الآشورية) ، ثم الآرامية المسيحية، ثم الاسلامية العباسية ، ثم الحقبة المظلمة ، ثم الحديثة، وابراز دور جميع فئات الوطن الاقوامية والدينية والمذهبية بصنع هذا التاريخ.
في الخاتمة يتوجب التوكيد والتكرار على ان الوسطية ليست فكرا حزبيا مغلقا بل هي موقف ورؤية إنسانية منفتحة وواسعة يمكن ان تتقبل وتتعامل مع مختلف المعتقدات السياسية والثقافية والدينية. ان جوهر الوسطية وخلاصتها هي التعددية في الحياة والعقل وتجنب الرؤية التبسيطية التكفيرية القائمة على تقسيم الوجود والمجتمع حسب ثنائية(الخير والشر). والاهم ما في الوسطية هو الايمان بأن الانسان فردا وجماعات، يمتلك القدرة الداخلية على تطويع الحياة لصالحه لو انه تعرف واستخدم بحكمة الطاقة الكونية الالهية الكامنة في ذاته.