الثلاثاء ٣١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٧
دراسةٌ لقصائد شعريَّة من ديوان
بقلم حاتم جوعية

«بكائيَّات الوداع الأخير» وديوان «هنا وطن»

مقدمة: الشاعرةُ والأديبُة والإعلاميَّةُ إيمان مصاروه تسكنُ في مدينةِ الناصرة- فلسطين. تكتبُ الشعرَ والمقالة الأدبية والأبحاث والدراسات منذ أكثر من 25 سنة. أصدرت العديدَ من الدواوين الشعريَّة والكتب الأدبية والتاريخية والأبحاث، وهي:

1 - أنا حدث ومجزرة/ شعر / سنة 1996

2 – حجر سلاحي/ شعر / عن إتحاد الكتاب الفلسطينيين 2002

3 – سرير القمر / شعر / رام الله / 2010

4 - بتول لغتي / شعر / رام الله/ 2011

5 - دموع الحبق/ شعر / 2012/ الشارقة

6 - عرائس الفجر/ شعر / ديوان / وزارة الثقافة 2013

7 - هنا وطن / شعر / دار فضاءات/ عمان / 2013

8 - من خواطري / مجموعة خواطر / 1993

9 - بكائيات الوداع الأخير / شعر / دار الجندي / القدس /2013

10 – الملحمة المحمدية / ديوان مشترك / ام الفحم / فلسطين /2014.

11 - أوكوبيديا \ الفينيق / عمان / 2014.

12 - سلاف / ومضات شعرية / بيت الشعر الفلسطيني/ 2015 / رام الله

13 – إعتقال الحرف لا يعني القصيدة / شعر / أم الفحم 2016.

14 - ثمانياتٌ مقدسة / شعر / مؤسسة انصار الضاد / ام الفحم 2016

15 - زهرة / ومضات شعرية / مؤسسة أنصار الضاد /أم الفحم 2016

16 – للحلم بقية / شعر/ 2016 / مطبعة الشام / ط 1 ط2.

17 - في انتظار الضوء / شعر / مؤسسة أنصار الضاد 2017.

ترجمة زهرة للغة الانجليزية / الشاعرة فتحية عصفور \2017.

الدراسات صدر

18 - معاناة الأطفال المقدسيين تميز عنصري/ دراسة توثيقيَّة بمشاركة مركز القدس للحقوق الاجتماعية والإقتصادية / 2003.

19 - الإستيطان في البلدة القديمة /ج1 / مركز القدس للحقوق الإجتماعية والإقتصادية 2004.

20 - الإستيطان بالبلدة القديمة / معدل / ج 2 / ام الفحم / 2010.

21 - أثر الاحتلال الإسرائيلي على التعليم في القدس/ وزارة الثقافة 2013.

22 - القدس في الشعر العربي / دار الجندي / 2012.

23 - اللفظ في الشعر النسائي الفلسطيني / منى ضاهر أنموذجا // بيت الشعر الفلسطيني 2015.

24 - القدس في الفن النثري الفلسطيني بعد أوسلو/ دراسة توثيقية / بيت الشعر 2016.

25 - أدب السجون في فلسطين / جزء 1 / الشعر / 2017.

26 - قراءة في شعر نور الرواشدة \الأردن / دراسة / صادرة عن أنصار الضاد 2017.

27 - أدب السجون في فلسطين / جزء ثاني/ النثر.

28 - ديوان كوكتيل / شعر / مشترك مع د. علاء الغول \غزة.

مخطوطاطات بحثية علمية خاصة بكلية القاسمي / مجلة الأدب والفكر الفلسطيني 2016.
الشيخ رائد صلاح بين النضال والإبداع.

محمد على الصالح شاعرا كبيرا.

أحمد طه شاعرا ومربيًّا.

الأديب الفلسطيني محمد بركات جبارين.

إضافة لترجمة عشرات النصوص للغة الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والعبرية - وديوان الكتروني للفرنسية قامت بترجمته الشاعرة والأديبة التونسية فاطمة سعد الله.

والمشاركة بالعديد من المؤتمرات المحلية والدولية

بيت لحم عاصمة الثقافة العالمية 10 / 2026

المدينة / كلية القاسمي \3 / 2017 قراءات شعرية.

جامعة القدس المفتوحة / طول كرم\ 2 / 2017 علاقات الناقد بالشاعر او الأديب ورقة
جامعة بيت لحم 1 / 5 /2017 \ قراءات شعرية بيت لحم عاصمة الثقافة.

جامعة النجاح الوطنية مؤتمر ادب المعتقلات ورقة أدب السجون في فلسطين وقراءة شعرية في 15 / 4 / 2017.

تكريم من قبل شبكة المؤسسات الجماهيرية العربية كشخصية ريادية عن الشعر والبحث للعام 2017 في 25 / 5 / 2017.

وحصلت على عشرات الشهادات التقديرية والتكريمات والجوائز المحلية والعالمية.

كتبَ عن إصداراتِهَا خيرةُ النقاد والأدباء في العالم العربي مثل الدكتور عواد ألغزي من العراق ود. عماد ضمور أستاذ الأدب الحديث في الجامعة الأردنية في الأردن ود. عبد السلام من الجامعات التركية ود سعد غلام من العراق ود. عماد رحمة من الجامعات الألمانية وعدد كبير آخر من النقاد العرب، حيث حققت شهرةً وانتشارا واسعا محليا وعربيًّا وعالميًّا.وأما على الصعيد المحلي (داخل منطقة الخط الأخضر - عرب ال 48) أكاد لا أبالغ إذا قلت أنا الكاتبُ والناقدُ الوحيدُ الذي تطرَّقَ إلى كتاباتها وكتبَ دراسةً مطولة لبعض من أعمالها الشعريَّة.علما أنها تقفُ في طليعةِ الشعراءِ المحليين المبدعين وعلى امتدادِ العالم العربي مستوى فنيًّا وإبداعا، وهي شاعرةٌ وطنية من الدرجةِ الاولى كرَّست شعرَها وأدبهَا وحياتها لشعبها وقدمت الكثيرَ لأجل شعبها الفلسطيني وقضاياه المصيرية وقضايا الأمة العربية بشكل عام، وقد عانت الكثيرَ لأجل مبادئها ومواقفها السياسية الملتزمة والوطنية الشريفة، وعاشت فترة طويلة متنقّلةً ما بين الناصرة والقدس وبيت لحم، وواكبت معظمَ الهبَّات والنشاطاتِ السياسية قولا وعملا. وأصيبت برصاصةٍ في رجلها من قِبَلِ جنودِ الاحتلال أثناء عملها الصحفي، وَسَبَّبَت لها هذه الإصابةُ إعاقة دائمة لا زالت تعاني صحيا جراءها وتتنقل بين مشفيات الوطن طلبا للعلاج، ولهذا يتجاهلها النويقدون المحليون المستكتبون الذين يعملون على التعتيم والتهميش لكل صوتٍ وطني إبداعي محلي على سواء كان على الصعيد الادبي أو الثقافي أو الإعلامي أو الفنِّي.

سأتناولُ في هذه المقالةِ ديوانين من دواوينِها الصادرةِ،وهما: (بكاءات الوداع الأخير) و (هنا وطن).

مجموعتها الشعرية "بكائيَّات الوداع الأخير"تقعُ في 96 صفحة من الحجم المتوسط - ومن إصدارات: دار الجندي للنشر والتوزيع- القدس - وتضمُّ مجموعة من القصائد الرثائيَّة ترثي فيها أعزَّ الأحبَّاء وأوفى الأوفياء الذين يستحقون دمعتهَا ووجدَها القابعين في نبضها، وهما: أختها الراحلة الشاعرة المبدعة "سناء السعيد "مصاروة" التي خطفها الموتُ وهي في ريعان الشباب وزوجها "علي عدوان".

تناولتُ بعض القصائد من هذا الديوان، للدراسةِ والتحليل وكان أولها قصيدة: أخت الشَّهيد أم خانتك أمنيتي - صفحة 7 - 10) - وتقول فيها:

"على العتباتِ باكيةٌ جراحُ الفقدِ والذكرى
تردِّدُ في عباءَةِ الفجرِ أحجة ً
تقُضُّ الحزنَ تعصِرُهُ
فتدمعُ في لهيبِ الشَّوقِ أناتي
أسافرُ في فضاءِ اللهِ أعبرُ وَحْيَ قصَّتِنا
أرتِّلُ ما تبادلنا منَ النجوى // على شُبَّاكِنا الباكي
وأقطفُ سوسنَ الآمالِ // أنفضُهُ عبيرًا سافرَ الاشواقِ // يلثمُنا
أرى وحدي أفيضُ فأختفي ألمًا
بلا قمرٍ يُوسِّدُ صرختي في الصَّدرِ // يحضنُها بدفءِ الحُبِّ والمأوَى //
عليٌّ أينَكَ الآنا // عليٌّ أينكَ الآنا //
على أطلالِ قصَّتِنا
قضيتَ العُمرَ ظمآنا
ولم أعهدكَ مرتحلا// يرى في البُعدِ نسيانا //
خريفي خانَ أضلاعي // أيا من كنتَ نيسانا// ").. إلخ.

تحليلُ القصيدة: هذه القصيدة تفعيليَّةعلى بحرالوافر ترثي فيها الشاعرةُ زوجَها الذي رحل عن الحياةِ وتركَ لها حملاً ومسؤولية كبيرة وهي تربية الأولاد وتنشئتهم. وتستهلُّ القصيدةَ بمقدمةٍ جميلة ومؤثرة تتحدثُ الشاعرةُ فيها عن نفسها وتصف حالهَا ووضعها المأساوي، وتنتقلُ بعدَها إلى الرثاءِ وإلى ذكر مناقب الزوج الراحل وأهميته ومكانته بالنسبة لها وللبيت والأولاد،وتطلقُ الشاعرةُ إيمان مصاروه في هذه القصيدةِ زفراتها وأناتها الموجعة لفقدِ زوجها وأبِ أولادها الذي كان عامودَ البيتِ وركنهُ وبموتهِ تصَدَّعَ البناءُ المتين والنسيجُ الأسري، وليس بالأمر السهل أن تتولى هي أمورَ وشؤونَ البيت وتربية الأولاد. وترى الشاعرةُ أن كلَّ شيىء يبكي معها ويرثي لحالِها ولوضعِهَا ومأساتِها،فعلى العتبات (عتبات البيت) جراح الفقد والذكرى تنوح وتبكي (يظهر هنا هول المصيبة والمأساة الفادحة)... وهذه الجراح جراح الحزن والأسى تُرَدِّدُ في عباءَ ةِ ليلها الوجعَ والألمَ (حسب تعبير الشَّاعرة) وترى في الفجرَ أحجية.. وقد يكون الفجر (الفجر المنير والصباح المشرق) أو الإنعتاق والتحرُّر من الحزن وألم المَصاب ونزيفهِ.. وترى أنَّ هنالك لغزا وأحجية في هذا الفجر..أي أنهُ من الصعب عليها اجتياز وتجاوز رحلة العذاب والألم والوصول إلى الفجر المنشود...لى النور والسكينةِ والإطمئنان والراحةِ النفسيَّة والروحيَّة والفكريَّة وسلو ونسيان الفقيد الراحل.. وهيهات هيهات أن تنساهُ. فتقول الشاعرةُ: إنها تقضُّ الحزن وتعصرهُ (تعطينا هنا تشبيها جميلا واستعارة بلاغية جديدة ربما لم يستعملها شاعرٌ من قبل على هذا النحو (عصر الحزن فتدمع أناتها في لهيب الشوق). وينطلقُ هنا الفكرُ والخيالُ الواسع واللامتناهي لدى الشاعرة المكلومة والمؤمنة بقضاء لله وتعبرُ وحيَ وإرشيفَ قصتها مع زوجها وتسترجعُ حياتها الهانئة والرغدة السابقة قبل الوداع والرحيل، وتتذكرُ مكانا كانا فيه وترتّلُ ما كان يتبادلانه من النجوى (وهي تقف قرب شباكها الباكي الآن والملوع لهذا الفراق)، وتقطف سوسن الآمال...الآمال الورديَّة الجذلى والجميلة وتنثرُهَا عبيرا سافر الأشواق الأشواق يلثمُهَا هي والحبيب // الزوج...ثمَّ ترجع إلى عالمها الأرضي وواقعِها وَحِسِّهَا الجسدي وترجعُ للحزنِ واللوعةِ فترى نفسهَا أنها لوحدها وانَّها تفيضُ ألمًا وحزنا ولوعة،ولا يوجدُ قمرٌ يُوسِّدُ صرختهَا في الصدر ويحضنها بدفءِ الحبِّ والمأوى لأن زوجَها قد رحلَ وغابَ عنها نهائيا.

وتنتقلُ الشاعرةُ بعد هذه الصورةِ الحزينة واللوحةِ المأساويَّة بشكل مباشر إلى الزوج، وتخاطبُ زوجَها الغائبَ في العالم الآخر والحاضر في وجدانها وتقول: (" عليٌّ أينكَ الآنَ // عليٌّ أينكَ الآنَ)

تعيدُ الجملة الشعريَّة هنا مرَّتين لتُصِرَّ وتؤكِّدَ على سؤالِها الذي لا أمل من الجواب عليه، ولتؤكّدَ على لوعةِ البعدِ والفراق وأنَّ الزوجَ لن يعودَ وهيهات هيهات أن يرجعَ إلى عالمنا الأرضي.
واستعملت كلمة(أينك) هنا بدلاً من جملةِ (أين أنت) وكإختصار لها، ولهذه الكلمة جماليتها وإيقاعها وَوقعُهَا على المُتلقي.

وتقول الشاعرة في القصيدة:

("على اطلالِ قصَّتنا قضيتَ العمرَ ظمآنا
ولم أعهَدكَ مرتحلا / يرى في البعدِ نيسانا //
خريفي خانَ أضلاعي // أيا مَنْ كنتَ نيسانا//
تركتَ الحبَّ للأيامِ..للإنسان.. للأحزان تنهشنا
مواويل سقتني المرَّ ألوانا ")

إنَّ الشاعرةَ لم تكن تتوقَع غيابَ ورحيلَ زوجها في ريعان الشباب وأوج والعطاء وأنها ستناجيه في البعد وكأنهُ حيٌّ تخاطبهُ.وهي الآن كأنها في فصل الخريف..أي حياتها خريف كخريف الأشجار المتساقطة الأوراق أو القريبة من الذبول والموت.. إن مشاعرَها وأنوثتها وأحلامَها أصبحت خريفا شاحبا وممحلا وكان الزوجُ الراحلُ هو نيسانَ الدائم وهو الربيع المورق والمزهر لها ولكيانِها كإنسانة وكامرأة الذي يعيد لها دورة الحياة والشباب والنضارة والتألق. لقد رحلَ هذا الزوجُ وتركَ الحبَّ للأيامِ والنسيان وللأحزان تنهشُهَا " مواويل سقتها المرَّ ألوانا " - حسب تعبير الشاعرة -.

وتخاطبُ الشاعرةُ زوجَها في القصيدةِ فتقولُ:

(أما عاهدتني يوما //
أيا قلبي إذا ما الموتُ أعيانا // معا في لحدِنا حبًّا نُسَجَّى
والهوى يقى لنا في اللحدِ عنوانا// أترحلُ تاركا وجعي....).

أي يكونان مع بعض في نفس اللحد جسديًّا وأرواحُهُمَا في العالم الآخر في جنةِ الخلد، ولكنه قد رحلَ لوحدهِ ولم يأخذها معهُ في رحلتهِ وسفره الأبدي وتركَها لوحدها مع آلامِها وأحزانها. وتقول له:

(" أخنتَ العهدَ أم خانتكَ أمنيتي // هي الأطلالُ تصوغ الحزنَ أكفانا ")

وتتساءلُ: (فلا موت يراودني).. أي لا يأتي الموتُ إليها ويخطفها... وتستعملُ كلمة يراودني وكأن الموتَ رجلٌ ولا يريدُ أن يُرَاوِدَهَا ويتقرَّبَ إليها، وحياتها وعمرها لا يكونان به كما يبدو لأنه لا يريدُ الٌإقتراب منها ومراودتها، وهي تشيخ بدمعتها.

وفي نهايةِ القصيدة تعطينا الشاعرةُ صورةً رائعة للحبِّ الحقيقي الصادق ونموذجا لكرمِ الأخلاق والوفاءِ والفداء لأجل الحبيب والمصير المشترك الذي يجمعُ الإثنين أسوة بالشعراء العذريين، مثل: مجنون ليلى، وجميل بثينة وعروة بن حزام وتوبة بن حمير.. وغيرهم... إلخ.

وتقولُ في نهاية القصيدة:

(أعِدْ للقلب بسمتهُ //
وَهَيِّىءْ مَهدَكَ الورديَّ في الصَّحراءِ أغصانا
سآتي رغمَ أنفاسي
أعانقَ سمَّ منفانا
وَأنهي بُعدَنا رغمًا
فبي شوقٌ لِمَا كانا ").

أي انها تطلبُ الموتَ وتنشدُهُ لتلتقي بزوجها وحبيبها في العالم الآخر (يظهر هنا عنصرُ وطابع الإيمان بالله والحياة الخالدة والمثالية والعادلة بعد الموت - في السماء...في ملكوت الله)، وليس جميع الشعراء يؤمنون بهذه النزعة ويفكرون من هذا المنطلق في حياتهم وسلوكهم اليومي..إنَّ هذه النزعة (الحياة الخالدة بعد الموت الجسدي وهذا المنحى والمنطلق ينعكس بشكل إيجابي وإبداعي على إيمان وأشعارها وعلى كتابات وإبداعات كل فنان وشاعر وأديب مبدع عنده روح الإيمان والتفكير بالعالم الآخر الخالد بعد الموت الجسدي لأن الروح خالدة والجسد نهايتهُ إلى التراب والفناء).

وستأتي رغم انفاسها المتعبة لتعانقَ سمَّ المنفى (منفانا - منفاها وزوحها في العالم الآخر). وتنهي قصة البعد رغما عن كل شيىء فهي في العالم الأرضي وهو في العالم الآخر ولديها الشوق الكبير ليلتقي بها كما كان.. ومهما جرى وكان من مصير زوجها والموت الجسدي وانتقال روحه للعالم الآخر. فعنصر الإيمان يظهر هنا بشكل لا مباشر وعفوي، والشاعرة إيمان متأثرة كما يبدو من الشعراء العذريِّين القدامى الذين كانوا أوفياء لاحبائهم وماتوا بعد موتهم بفترة قصيرة جدا. وتمتازُهذه القصيدةُ بالسلاسةِ والعذوبةِ الجمال وبألفاظِهَا الحلوةِ المتناغمة والمُمَوْسَقة ومعانيها الفلسفية العميقة وبالتوظيفات الدلاليَّة الموفقة،وفيها العديد من المصطلحات والتعابير والأستعارات البلاغية الحديثة التي لم يستعملها شاعر ٌعربي من قبل، وهنالك معاني وصور شعريَّة وتشبيهات وقوالب بلاغية جاهزة ومستعملة من قبل ولكن الشاعرةَ إيمان تضيفُ إلى هذه القوالب الجاهزة الجديدَ والمبتكرَ من فكرها وموهبتها وخيالها الإبداعي المجنح، وتصوغُ وتنسجُ هذه الصور الشعرية بطابع وأسلوبٍ جديد وبنكهة وأريج مميز وتجعل من هذه الصور الشعرية عملا فنيًّا إبداعيا رائدا مشعا بفنيّتهِ وبألوانهِ الزاهية وحداثتهِ.

وقصيدة: (الدمع يروي لهيبا - صفحة 17) وهي في رثاء شقيقتها سناء السعيد مصاروة، جاء فيها:

"أقولُ قولا ولي في البُعدِ ما يُبكي ليتَ السَّناءَ وليتَ الحزنَ يُقصينا
قد فارقتني بصمتٍ جلَّ مُرتحِلاً أدمى الحياةَ بما جادتْ مآقينا
خانتكِ دنيا بما تروي فلا تهبي أنتِ الحياةُ وأنتِ الذكرُ يُحيينا
قد طافتِ الروحُ تسمو في أعِنَّتِها تُهدي السلامَ لمَنْ بالذكرِ داعينا
اللحدُ روضُكَ في صبرٍ يُحَدّثنا إنَّ الرّضا بقضاءِ اللهِ يرضينا
صبرًا على وجعٍ قد باتَ يَنثُرُنا إنَّ السَّعادةَ بعدَ الصبر تسقينا
فاللهُ هيَّأ للأرواحِ ما صبرَتْ خُلد الجنانِ لِمَنْ كانوا رياحينا
ربِّي إليكَ رجاءُ القلبِ مُبتهلٌ والدمعُ يروي لهيبًا ماضيًا فينا "

القصيدةُ كلاسيكيَّة على وزنِ البسيط وقافيتها جميلة، ولغتها قوية ومتينة متماسكة وأبياتها منتظمة من ناحية تسلسل ورتابة المعاني والمواضيع،وهي مترعةٌ وَمُشِعَّة بالحكم والمواعظ والإرشادات، ويشعرُ القارئ وبشكل تلقائيٍّ يعتقدُ كأنَّ شيخا طاعنا طاعنا بالسن عاركَ الحياة وعاركتهُ وامتلأ بالتجارب والحكمة قد نظمَ هذه القصيدة، والجديرُ بالذكر إنَّ إيمان لديها تجربةٌ مختمرة وثريَّة ونضوج وتألق مبكر في الشعر والأدب وفي مقارعة الحياة وخطوب الدهر، وتضاهي تجاربُهَا وحكمتُها وفلسفتها الحياتيَّة تجاربَ وحكمة الكهول والشيوخ الذين أثقلت كاهلهم التجاربُ والرزايا وخطوب الحياة. وفي مراثيها لأختها، وفي هذه القصيدة بالذات تنعكسُ أفكارُها ومبادؤُها ومفاهيمُهَا بشكلٍ تلقائي وعفوي ومباشر تتحدثُ في القصيدةِ عن هول المصاب والفراق المؤلم والقاتل ألا وهو وفاة شقيقتها الشاعرة الكبيرة المبدعة سناء وهي في ريعان الشباب وأوج العطاء...هذه الشاعرة التي أصدرت عدةَ دواوين شعرية ولم تأخذ حقهَا كما يجب من الشهرة والانتشار الواسع محليا وعربيًّا، بل ظلمت كثيرا لدرجةٍ أنه بعد وفاتها في صراع مرير مع المرض لم تكتب أيةُ صحيفة ووسيلة إعلامية محليَّة خبرا عن هذا الأمر(وهذا يعكس مستوى ونزاهة ومصداقيَّة الصحافة المحلية على جميع أنواعها - المقروءة والمسموعة والمرئية ومستوى النويقدين المحليين)، تنزفُ الشاعرة إيمان ألما ودما لهذا المصاب الأليم والحادث الجلل ولكنها تتشَّبثُ بالصبر والجلد والحكمة،مع أن القصيدة تنضحُ بالحزن والشّجن واللوعة،وهذا ممَّا يميِّزُ إيمان عن معظم الشاعرات العربيات الكبيرات منذ الجاهلية، وابتداء بالخنساء إلى عصرنا الحديث وشاعرات المراثي كفدوى طوقان وعائشة تيمور وغيرهما..اللواتي رثين أخوتهنَّ وأحباءهن. فالخنساءُ مثلا التي رثت أخاها صخر بشعر رائع وقوي السبك ومؤثر. ولكن حتى في كل بيت وكلمة نظمتها الخنساء أو فدوى طوقان في رثاء أخويها إبراهيم ونمر نشعر ونحسُّ بطابع الأنوثة والرقة المتناهية والحزن والضعف واليأس والإستسلام أحيانا..وأما في شعر إيمان الرثائي فيظهرُ الحزنُ العميقُ المتزن والمترع والمسربل بالحكمةِ والتروِّي والصبر والصبر والجلد. فشعرها الّرثائي والوجداني جميعهُ هو مزيج بين الرقة والعذوبة والشفافية وبين القوة والصبر والجلد والحكمة.

تخاطبُ إيمان أختهَا سناء في هذه القصيدة فتقول لها: إنَّ الدنيا قد خانتك فلا تهنِي لأنك أنتِ الحياةُ وأنتِ الذكرُ الذي يحيا، وقد كان فراقُ أختِها بصمتٍ وبهدوء وبشكل تدريجي حيث كانت مريضة. وهذا الموتُ الخاطفُ أدمى الحياة.. أي جعل حياةَ إيمان نازفة بالدماء..حياة كلها حزن ولوعة،وفي البيت الذي يليهِ تتحدَّثُ إيمان عن روح أختِها البيضاءالشفافة الطاهرة وعن الوداع حيث طافت الروحُ تسمُو في أعنتها. وتستعمل هنا كلمة (أعنتها) أعنة الخيل وكانت تستعمل هذا الكلمة في الجاهلية كثير..وأصبح اللحدُ هو الروضة والمكان الذي تقيمُ في أختُها الفقيدة، وهذا اللحدُ يحدثهم أنَّ الرضا بقضاء الله سوف يرضيهم. وهذا التشبيهُ المألوف (تشبيه القبر بالروضة) إستعملهُ العديدُ من الشعراء بحذافيره،مثل الشاعرة عائشة تيمور التي تقول في قصيدة رثائية لها مؤثرة وفي قمةِ الحزن واللوعة على لسان ابنتها المريضة التي ماتت بعد معاناة طويلة من داء عضال ألم بها *1: (فالقبرُ صار لغصنِ قدِّي.روضة ً.وترون. نعشي. كالعروس. يسيرُ)

وأنا استعملتُ أيضا هذه التشبيه والإستعارة في إحدى قصائدي الرثائيَّة. ولكنَّ إيمان تضيف لهذا التشبيه (اللحد كالروضة) في الشطرة الثانية من البيت معنى وبعدا آخر فيصبحُ كأنه صورة شعرية جديدة، فهذا اللحد الذي أصبحَ روضة للفقيدة ينبىءُ ويعلمُ إن الرضا بقضاء الله سيرضي الجميع. وفي نهاية القصيدة يظهرُ عنصر وطابعُ الإيمان، وهذا الموضوع يظهر في الكثير من قصائد إيمان. فالشاعرةُ مؤمنة بالله خالق الكون جل جلاله وبعدالتهِ المطلقة، والله عزَّ وجل هيَّأ للأختِ التي مرضت وعانت وصبرت على حالها ومرضها ووضعها الأليم ولكل الذين مثلها عانوا وتألموا وصبروا ورضوا بمشيئةِ الله مكافأة كبيرة لأجل هذا الصبر والرضى وهي حلة الجنان للذين كانوا رياحين وورودا في حياتهم على هذه الأرض وأفادوا الناسَ والمجتمعَ مثل أختها سناء.

وفي نهايةِ القصيدة توجِّهُ إيمان كلامَها مباشرة إلى الله خالق الكون وتقول: (ربِّي إليكَ رجاءُ القلب مبتهلٌ) واستعملت هنا مصطلح وعبارة (رجاء القلب مبتهل) بدل كلمة القلب لوحدها.. وهو تشبيه واستعارة بلاغيَّة جميلة لتؤكِّدُ على قوة الإيمان بالله والمآلُ والرجوع إليه والاتكال عليه وليس على غيره لأنَّ الله هو الرجاء وهو المآل والمرجع والمعتمد في كلِّ شيء، وفي نفس الوقت دمعها منهمر كالسيل يروي لهيبا ماضيا ومستمرًّا في مسيره الحياة.. أي مسيرة الحزن والألم التي تعيشُها الشاعرةُ بعد الفراق، ولا يوجد معينٌ وناصر وَمُصَبِّرٌ لها في هذه المأساةِ إلا الرب جَلّت قدرتُهُ.

قصيدة أخرى بعنوان:) خطى حائرة فوق الثرى – صفحة 19 - 24) والقصيدة في رثاء أختها الشاعرة (سناء) وهي على وزن الكامل، وتقول فيها:

" إني كتبتُ ولم أزِنْ أشعاري ونزفتُ دمعًا مشعلَ الاوتارِ
حرفي كليلِ البؤسِ متّشحًا رَوَى ما فاضَ من ألمي ومن أفكاري
ليلٌ طيلٌ سرمديٌّ هزَّني بفراقِ روحٍ أثقلت أوزاري
عيني ستبكي ما بكت خنساءُ في صخر ٍ سأبكي رٍقَّة َ الأزهارِ
والقصيدةُ في قمّة الحزن والحرقة واللوعة وتطلقُ الشاعرةُ أنينها وزفراتها الحَرَّى لفقدِ شقيقتها التي كانت كلَّ شيءٍ بالنسبة لها بالإضافةِ إلى زوجها.

تقولُ الشاعرةُ إنها لم تزن أشعارَها ولم تفكر في انتقاء الكلمات والأبيات لأن كلمات وأبيات القصيدة خرجت عفوية وبشكل تلقائي،وهي تعبيرعن ألمها وفجيعتها الكبيرة بموت أختها، وحروف كلماتها سوداء كليل البؤس (تعبير للحزن) ويجسد ويروي ما يفيض من ألم وأحزان. وتقول: إن عينها ستبكي بشدة ودونما انقطاع أختها كما بكت الخنساء (الشاعرة الجاهلية) أخاها صقرا. لقد شبهت إيمان نفسها وموقفها الحزين الماساوي بالخنساء شاعرة الرثاء- وحسب رأيي لا يوجد فرق بين الشاعرتين في هول المأساة التي عصفت بهما وألم الفجيعة الفراق.

وتتابع إيمان قصيدتها فتقول:

(يا أختُ فيمَ تعجّلتْ أيدي الرَّدَى؟ هل ضقتِ في الدنيا كأمطارِ ِ
عينايَ لا تغفو ببعدِكِ لحظةً أنتِ الجمال بسدرةِ الأنوارِ
قد فاحَ منكِ عبيرُ صمتٍ راحلٍ نبكيهِ، نبكي لجَّة َ الأسفار ِ
سفرٌ بعيدٌ مُوحشٌ يا حسرتي في الهجرِ ترسو قبلتي ومزاري
عقَّت يدايَ حروف قلبٍ مُتعبٍ ناجاكِ لحدُ الموتِ في إبصارِ
واللهُ يا قمرًا سبتهُ مرارةٌ ما زلتَ نوَّارًا بساح الدَّار
كوني ملاكًا في رحابِ إلهنا فلكم ذكرتكِ في رُبَى الأشعارِ
للهِ درّكِ يا أخيَّةُ عشقنا لا موت يُبعدُ في الهوى إعصاري
جودي عليَّ بطيفِ روحك إنّني مُشتاقةٌ روَّت ظلامَ الدارِ
إكليلُ من رحلت تهيَّأ باسمًا وإذا بلحدِكِ جنَّةُ الأخيارِ
إنَّ الوداعَ مرارةٌ وَتأوُّهٌ وأرى بذكركِ سلوتي ودياري

تخاطبُ إيمان في هذه القصيدة أختهَا الراحلة وتسألها: لماذا أسرعت أيدي المنايا في أخذكِ واختطافِكِ، وهل لأنك ضقت في هذه الدنيا كالأمطار.. وإن عينيها لا تغمض تغمض وتغفو لحظة واحدة بعد فراقها، وهي الجمال والبهاء والروعة بسدرة الأنوار (المكان الطاهر والخالد الذي يجمع للمؤمنين والأتقياء والقديسين والأولياء -جنة الفردوس).وإيمان ربما تكونُ أولَ شخص يستعملُ تعبيرَ ومصطلح ومصطلحَ سدرة الأنوار بدلا من سدرة المنتهى...ورحيلها هذا يفوحُ منه عبيرُ الصمتِ..وهذا أيضا تعبير واستعارة بلاغية جديدة لم تُستعمل من قبل على ما أظن..والجميع (الشاعرة إيمان أو الأهل والأقرباء والأصدقاء) يبكون هذا الفراغ والصمت الذي يفوح عبيرا الذي تركتها أختُها سناء.وكان هذا الرحيلُ والسفر الذي ليس منه عودة ورجوع متوغلا بعيدا في لجج المجهول والغيب...وإنها لتعابير واستعارات بلاغية قد تبدو كأنها عادية ولكنها مستحدثة وجميلة، وهذا السفرُ بعيد وموحش ومخيف، وهنا تقصد أولا الرحيل الجسدي حيث أختها تقيمُ وتقبعُ الآن في اللحد.. المكان المظلم والموحش..ودائما في هذا المكان الجديد ترسو وتحط قبلاتها وأشواقها ولواعجها..حيث تزورُ هذا قبرها بشكل دائم وتقبله بلوعة وحرارة وتذرف سخيَّ الدموع. وتتابعُ الشاعرةُ حديثها ومخاطبتها لأختها فتقول لها: قسما (بالله) يا أيها القمر الذي سبته المرارة (المرض والموت) ما زلت أيها القمر منيرا وَمُشِعًّا بباب الدار..وهذا البيت الشعري هو نديبٌ ونواح بكل معنى الكلمة وأصدق وأوجز وأروع من مليون بيت شعر مستهلك..لأن الشاعرة تصلُ هنا إلى قمة الحزن واللوعة ويتحولُ كلامُها وشعرُهَا إلى نديب ونواح... وهذا البيت الشعري يصلح لكل مأتم وللرثاء وللقول على كل فقيدٍ غال وعزيز جدا على ذويه رحلَ بشكل مفاجىء وأليمٍ وموجع... وفي الشعر العربي القديم والحديث نجدُ هنالك قصائد وأبيات شعرية لشعراء كبار وجهابذة على هذا النحو تعتبرُ من النواح والندب على الفقيد.. ومن الذين اشتهروا بشعر الرثاء والنديب: الخنساء في العصر الجاهلي وفدوى طوقان في العصر الحديث، في ومراثيها لأخويها الشاعر إبراهيم طوقان ووشقيقها الصغير نمر الذي توفي حادث سقوط طائرة. ونجدُ بعض الأبيات الشعرية على هذا النحو لإمرىء ألقيس،وخاصة في رثائهِ لأبناء أعمامه من بيت آكل المرار الكندي*2.. وهنالك قصيدة قديمة للبيد بن ربيعة العامري تعتبر نموذجا النديب والنواح يرثي فيها عَمَّهُ الفارس والشاعر المشهور (عامر بن مالك العامري الملقب بملاعب الأسنة) حيث مات ميتتة مأساوية انتحارا بالسيف، وتكرِّرُ بعض الروايات أنَّ ملاعب الأسنة (أبا براء) وضع حدًّا لحياتهِ حين هرمَ وأسنَّ وخرجت بنو عامر عن طاعتهِ وخالفت آراءه متهمة إياهُ بالعجز والخرف وذهاب العقل. ويقول لبيد في قصيدته*3:

(قُوما تَجُوبانِ مع ِ الأنواح ِ في مأتم ٍ مُهجَّرِ الرَّواح ِ
وَأبِّنا مُلاعِبَ الرّماح ِ أبا بَرَاءٍ مِدْرَهَ الشّياح ِ
يا عامرًا يا عامرَ الصَّباح ِ وَمِدْرَهَ الكتيبةِ الرّداح ِ)

ولنرجع إلى قصيدة الشاعرة إيمان حيث تتابعُ حوارها ومخاطبتها لأختها وتقول لها: كوني ملاكا في رحاب الله في السماء.. لأنك بالفعل أنت ملاك ومكانك الطبيعي بين الملائكة والقديسين في السماء، وأما على هذه الأرض فلا مكان للملائكةِ والقديسين والأولياء لأن هذه الأرض مليئة بالرجس والآثام ولقد دنسها ولوثها الإنسانُ. ولم تقل لأختها أنتِ الملاكُ وإنما قالت:

كوني ملاكا في رحاب إلهنا لأن الحياة الأخرى الثانية الخالدة في العالم الآخر تختلفُ عن الحياةِ الأرضية، ففي السماء - في الجنة – الطهارة والنقاء والعدالة المطلقة، ويكون الإنسانُ المؤمن والصالح في حياته الأرضية جسدا ماديا تشغلهُ أمورُ ومشاكلُ الحياة المادية ولا يستطيعُ أن يكون ملاكا نيِّرا أو إنسانا كاملا روحيا (روحيا فقط)..وأما في السماء فيكونُ روحا وجوهرا وطهارة وخلودا أبديا يرتعُ ويستمتعُ في نعيم الطهارة والنقاء.. ويظهر هنا، في هذا المعنى، البعدُ اللاهوتي وعنصر الإيمان بالآخرة والعقاب والثواب. والشاعرةُ إيمان دائما تذكرُ أختهَا في أشعارها، وهذا الموت جعلَ أحزانهَا أعاصيرَ شعواء مستمرة دونما إيقاف، وتطلبُ من أختِها أن لا تبخل عليها بطيفها وخيالِها - طيف روحها حتى في الأحلام ليعطيها قليلا من العزاءِ والراحة النفسية لأنها مشتاقة كثيرة لها ولرؤيتها حتى لو في الخيال والأحلام، فقد أظلم عندها كل شيء..أظلم قلبُها ووجودُهَا وعالمُهَا والدارُ التي تسكنها من شدةِ الحزن.

وتقول: إن إكليلَ من رحلت تهيأ باسِمًا..أي إكليل الورد الذي على ضريحها تهيَّأ وتحفّزَ للابتسام وإذا بلحدِها أصبح مشعًّا ويبدو جنة الأخيار،لأن وجودَها (وجود جسدها الطاهر وهي من خيرة الأخيار) بهذا القبر الموحش المظلم زادَهُ رونقا وجمالا وإشراقا. وإن الفراقَ بالتأكيد حزن ومرارة وتأوُّهٌ وَيُؤَجِّجُ إطلاقَ التنهيدات وزفرات الألم والحسرة..ولكنها بذكرها تجدُ سلوتها وعزاءَهَا واستقرارها النفسي ودارَها وموطنها الهادئ.
وهذه القصيدةُ بالإضافةِ إلى آفاقها الواسعةِ وتموجاتها البيانية والبلاغية ومعانيها العميقة والمؤثرة والواضحة والتي بدون تكلف تمتاز كلماتُها بسلاستها وجماليتها و بانسيابها وبوقعِها المؤثر على المُتلقي.

وأما قصيدة:)على أنين العروبة – صفحة 48)، وهي أيضا على بحر الوافر، فيها يمتزجُ الهمُّ الذاتي مع الهَمِّ الجماعي والبُعدِ الوطني، وتقولُ:

"أأبكي صَابرا سكنَ الثريَّا ولم يسكن ثراهُ سوى عتابي
وَأنصفُ مقلةً بالدمعِ حتى ترى أكفانها وقفت ببابي
شربتُ السُّقمَ من فقدٍ وَما بي منَ الانفاسِ ما يُبقي شبابي
بكيتُ الشهدَ لا أبكي عليًّا وهل يبكي الحيِيُّ على اغترابي

تُظهرُ الشاعرةُ في هذه القصيدة حزنهَا الشديد ولوعتهَا على زوجها الفقيد، وتتساءل: أأبكي الذي سكنَ الثريا..أي أنَّ منزلتهُ كانت عالية وساميه حيا وميِّتا، وحتى بعد موته الجسدي فهو ساكن في السماء، في الثريا (رمزا لعلوِّ المكانة والخلود والنعيم الأبدي،وأما ثراهُ وضريحهُ فلم يسكنهُ ويُقِمْ فيه سوى عتابُها الدائم على رحيله ِالأبدي عن هذه المعمورة، وهي شربت السقمَ والضعفَ والنحولَ بعد فقدهِ ولم يبقَ منها من الأنفاس والطاقة ما يبقي ويديم شبابَها وحياتها وكأنهاعلى عتباتِ الشيخوخة المبكرة وعلى وشك الزوال مع أنها زمنيًّا وبيولوجيا ما زالت في ريعان الشباب وربيع العمر، وإنها في بكائها ونواحها تبكي الشهدَ والحياة الجميلة التي كانت تحياها ولا تبكي فقط عليًّا زوجَها كجسدٍ راقٍد لأنهُ الشَّهدُ والرضابُ كان لحياتِهَا ولعمرِها الغض...وإنها الآن في دارِ غربةٍ،غريبة في هذه الحياة وكأنها ميتة، وأما الزوجُ فهو الحي الخالد في جنان الخلد. وتسألُ بحيرة:هل هذا الحي في السماء يبكي على غربتها واغترابها وعلى وضعها وحالها في حياتها الأرضية المؤقتة على هذه الأرض، إن أبيات القصيدة سلسة ومنسجمة ومنسابة كالجدول الجاري في رتابتها وتدفق معانيها،وموسيقاها جميلة جدا وأخَّاذة (الموسيقى الداخلية والألفاظ المُنمَّقة والموقعة والموسيقى الخارجية التقليدية)، والمعاني التي فيها تبدو كأنها مألوفة وعادية،ولكن الشاعرة إيمان تصقلُ وتطورُ هذه المعاني والصور وتضيفُ إليها - من خيالها وموهبتها الفطرية الفذه - ألوانا وأبعادا جديدة وتعابيرَ بلاغية حديثة. وفي هذه القصيدة توظفُ العديدَ من الشخصيات الأدبية والتاريخيه، مثل: الخنساء والنبي يوسف وإخوته ورابعة العدوية المتصوفة التي كرَّسَت حياتها لله. والشاعرة تبكي حالهَا ووضعهَا المريرَ والصعب لفقدان زوجها وأبِ أولادها، وتبكي أيضا وطنهَا الجريح والمكلوم (فلسطين) والوطن العربي بأكمله الذي يمرُّ بمراحل حرجة وصعبة جدا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا،وخاصة بعد مرحلة الربيع العربي المزعوم، وتقول: إن دُموعَها قد نزفت بغزارة على مصابها الأليم بموت زوجها..وإذا أسعفها الدمع وبقي لديها دموع ستبكي موطنَها (الموطن العربي بأجمعه ووطنها فلسطين) فتقولُ:

(أما والدّمع أسْعَفنِي فإنّي سأبكي موطنا يهوى احتطابي
(فكم ناحت على العتباتِ أختٌ ببابِ الشَّامِ تندبُ للمصابِ
ربيعٌ فرَّقَ الآفاقَ فينا فأضحينا هشيمًا كالسرابِ

وتقصدُ وتعني هنا الربيع العربي الذي فرَّقَ ومزَّقَ شملَ العديدِ من البلدان العربية وبدلَ أن يكون ربيعا حقيقيا كان خريفا جافا ومرعبا، وحسب تعبير بعض رجال السياسة العرب:هذا الربيعُ عبارة عن عكاز يتوكأ عليه الاستعمار (الدول الغربية) لتحقيق أهدافهِ ومطامعه الاستعمارية اللئيمة في هذا الشرق.

وتتابعُ الشاعرةُ قصيدتهَا فتقول:

(وأخوةُ يوسفَ الفرقاءُ خانوا يقينَ العهدِ في لونِ الثّيابِ
سلامُ الله يا وطنا تولَّى على الأمجادِ في لحدِ الإيابِ
دعُوا الخنساءَ تلبسكم نحيبًا يُشَقُّ بجزنهِ ثوب التّصابي
لعلَّ الرشدَ يسعفكم فتأوى أسودُ الخلدِ للفعل الصّوابِ
وقفتُ ببابِ رابعةٍ وَحُزني كلونِ مَغيبِها يُدمي هضابي

وفي نهاية القصيدة تذكر بشكل مباشر وووضع الأمة العربية فتقول:

(فلسطين العروبةُ قد أريقت بصمتِ الذلِّ بيعَتْ للغيابِ
سأرثي في العروبةِ كلَّ دمع ٍ يهزُ الليلَ من هولِ العذابِ
لعلَّ بريقَ فجرِ الحقِّ يأتي منَ الزَّمنِ الكريمِ يد الشبابِ
يعودُ الحقُّ منتصرًا عزيزًا ويهوىي الظلمُ مُنكسرَ الحِرابِ

هي تتحدثُ هنا بشكل واضح ومباشر عن القضيةِ الفلسطينيَّة والوضع العربي الأليم وكيف بيعت فلسطين بكلِّ سهولة وخسَّة وأريقت دماؤها رخيصة من قبل الأعداء الأغراب أمام الصمتِ العربي الذليل. والشاعرةُ ترثي في العروبة كلَّ دمع جارح حارق وصادق...تبكي دموع الثكالى والأرامل والمشردين والنازحين عنوة عن الوطن...دموع الفلسطينيِّين ودموع النازحين من البلدان العربية الذين نزحوا من دولهم وأوطانهم وتشردوا في بقاع الأرض نجاةً بأرواحهم. وتنهي الشاعرة قصيدتها بنبرة ولهجة كلها تفاؤل وكلها قوة وعنفوان..فهذه الدموعُ النازفة والحارقة في الأوطان العربية المكلومة ستهزُّ الليل من شدةِ العذاب ولعلها ستذكي بريق وسنا فجر جديد قريب جدا في زمن كريم من يد الشباب والجيل الجديد الذي سيصنعُ التاريخ والمستقبل الجميل ويحقق الاستقلال والحرية والأمن في بلاده. وسيعود الحقُّ وسينتصرُ في نهاية المطاف وسيندحرُ الظلم ويتلاشى دونما رجعة،وستنعم البلدانُ العربية بالحرية والاستقلال والكرامة.

إن هذه القصيدة رائعة بكلِّ معنى الكلمة فتعبِّر وتجسدُ واقعَ ومشاعرَ وآمالَ وتطلعات إيمان مصاروة. إن إيمان قد عانت من الأمرين..عانت من غربتها في وطنها حيث عاشت متنقلة بين القدس والناصرة فأهلها من الناصرة وزوجها المرحوم من القدس، وواكبت نضالَ شعبها الفلسطيني في الضفة والقطاع ضدَّ الظلم والاحتلال، وقضايا الأمة العربية، وعانت في حياتها الشخصية والذاتيه حيث توفيت أختها ثم زوجها وكابدت الكثير من أجل إعالة عائلتها وبيتها وأولادها بعد وفاة زوجها، وهذه القصيدة واقعية وترجمة ذاتيَّة وتعكس بالضبط مشاعر وأحاسيس إيمان وواقعها، واليوم نادرا ما نجد شاعرا صادقا أمينا وفيا ملتزما بالمبادئ والمُثل وشعره وكلامهُ ينطبقُ على حياتهِ وأعماله وسلوكه اليومي.

قصيدةٍ أخرى بعنوان: (أودعتُ قلبي في الثرى - صفحة 57- 60)، ترثي فيها زوجها،والقصيدة على بحر الكامل ومطلعها:

(لا الضَّادُ ضادي، لا البلادُ بلادي من بعدِ فقدِكَ أسقِطَتْ أعيادي) وإنّهُ لمطلعٌ جميل وافتتاحيةَّ رائعة لقصيدةٍ رثائيَّة صادقة خارجة من أعماق القلب ولواعج الذات والوجدان،وفي هذا المطلع تضعُ الشاعرةُ خلاصة وفحوى الموضوع..وإنهُ بموتِ ورحيل الشخص المرثي (زوجها) قد تغيَّرَ وتبدلَ كلُّ شيء رأسا على عقب..تغير شكلُ وتضاريس البلاد وتغيَّرَ شكلُ اللغة والضاد لم تعد ضادا، والأعيادُ كلها أسقطت وأزيلت من وجدانها وذاكرتها، ووظفت الشاعرة هنا البلاد والأوطان الغالية عليها وعلى كل إنسان عنده ضمير ومبادئ ومشاعر وحسٍّ إنسانيٍّ ووظفت لغة الضاد التي ترمزُ للأمةِ العربية لأنَّ العربَ هم الشعب الوحيد على وجه الأرض الذي ينطق بحرف الضاد. وأصعبُ وأسوأ شيء على الإنسان هو عندما يغتربُ روحيًّا وإنسانيًّا وذاتيًّا ويتنصل وينفصلُ رغما عنه عن معالمه وجذوره وكيانه وهويته ويحسُّ أنه غريب في وطنه وبين أهله وذويه. وهذا التشبيهُ والمعنى الذي في الشطر الأول من البيت الشعري ربما إيمان هي أول شاعرة تطرقهُ وتنسجهُ بحسِّها الشاعري المرهف وخيالها المجنح واللامتناهي. وأما الشطر الثاني من البيت فقد يبدو التشبيه عاديا ومألوفا ولكنه جميل وحديث نوعا ما ويتلاءَمُ للموضوع وللظرف الحالي، ومطلعُ هذه القصيدة يذكرنا بمطالع بعض القصائد الرثائية للشاعر العبَّاسي الكبير (الشريف الرضي) والتي يعظم ويضخِّمُ فيها هول المصيبة والطامة بموت الفقيد (المرثي)، وأن كل شيء تغير وحال وانقلب رأسا على عقب، وخاصة في هذا المطلع الجميل لإحدى قصائده الرثائية *4:

(منابتُ العشبِ لا حَامٍ ولا راع ِ مضى الرَّدَى بطويلِ الرُّمحِ والباع ِ)

وتوظفُ الشاعرةُ في هذه القصيدة الخنساء وفي الكثير من قصائده الرثائية أيضا..الخنساء التي أصبحت رمزا ومثلا منذ العصر الجاهلي إلى الآن للحزن الدائم واللوعة ولرثاء وندب الأحبَّاء وسكب ونزف الدموع والدماء عليهم بعد الرحيل.فتقول:

(أبكي ويبكي الزهرُ فقدًا إنني أغشيتُ وجهَ الليلِ لونَ سوادِ
ما قالتِ الخنساء ُ يوما عن فتًى لمْ يشفِ جُرحًا نازفا بمدادي).

وإنها مهما رثت زوجَها بروائع الأشعار كما رثت الخنساءُ أخاها صخر الفتى المغوار والمقدام والكريم والمثل الأعلى للعزةِ والإباء في الجزيرة العربية لم يشفِ هذا الرثاءُ جرحًا نازفا يهمي ويقطر من خلال مدادها (الحبر) الذي يترجمُ وَيُجَسِّدُ ويسجل حزنها وألمَها ومصَابَها العظيم.
وبعد موتِ زوجها أصبحَ كلُّ شيء في الدار وحياض الدار يبكي عليه.. الحديقة والروض والياسمين والأولاد. وذكرت هنا ابنتها (روشان) التي تيتّمت صغيرة وذاقت مرارة اليتم وفقدان الأب، تقول الشاعرة:

(أودعتُ قلبيَ في الثرى عَلّي بهِ أشتمُّ روحَكَ والدُّموعُ تنادي
تبكي وتبكي ياسمينة ُ روضِنا روشانُ فيكَ تيتَّمتْ بسُهَادي

وتنهي الشاعرة هذه القصيدة بأبيات مؤثرة جدا تنضحُ بالألم والحزن:

(آهٍ عليٌّ وقد أطلتَ فراقنا عُمري يناجي طلَّة َ الإسعادِ
ستعودُ حيًّا قالها وفؤادُهُ ملكُ اليقينِ وقد أتاكَ يُنادِي
لن يخلفَ الميعادَ قلبي في الدُّنا يا وردةً في ملّةِ الحُسَّادِ
قلبي عليٌّ والسَّماءُ تظلنا والروحُ تس
 
مُو في حنينِ ودادِي).
 
... أي أنها وضعت قلبَها ونبضَها وكلَّ مشاعرهَا وجوارحَها في الثرى وديعة لأن زوجها موجود ومدفون في التراب، وهي تشتمُّ وتتحسَّسُ روحَهُ وكأنهُ حيٌّ وموجودٌ معها، ودموعها دائما تنادي.. أي تهمي وتتساقط بغزارة وتبكي الفقيدَ الغالي الذي ذهب دونمَا رجعة...وتبكي معها في نفس الوقت الياسمينةُ التي في روضة الدار (ياسمينة روضنا)،وفي الشطر الثاني من البيت يكتملُ ويظهر المعنى بوضوح حيث تذكر الشاعرة اسم ابنتها (روشان) استمرارا لياسمينة الروض فهي ياسمينة روضنا (للشاعرة وزوجها وحياتهما التي كانت كلَّها سعادة ورغد وهناء قبل الرحيل)،وهذه الياسمينة (الطفلة روشان) تيتّمَت منذ الصغر وتوشَّحت حياتها بالسهاد الطويل ولم تعد تعرف النوم الهانئ.
 
وبعد هذا البيت تنتقلُ الشاعرةُ إلى مخاطبة زوجها وتقول له: لقد أطلت الفراقَ والبعادَ عن العائلةِ والأولاد وانك ستعودُ حيًّا..هكذا تشعرُ الشاعرةُ بقلبِ ومشاعر زوجها لأنَّ فؤادَهُ ملكُ اليقين والصدق..وإنها وفية ومخلصة له، ولن يخلف الميعاد قلبها وضميرها في هذه الدنيا، وزوجها هو الوردة اليانعة الزكية والفواحة في مِلّةِ وأعراف ومفاهيم الحساد لأنهم كانوا يحسدونه لبهائه ووسامته ونظارته وإطلالته النيرة جسدا وروحا..وإن قلبها دائما وأبدا هو زوجها علي والسماء تظللهم..أي حبهما صادق وقوي ومبارك من السماء..من الرب،وأرواحهما كانت وستبقى في سُمُوٍّ وانتعاش وتألق شعشعانيٍّ نيِّر لأنهما دائما في مودةٍ وَمحَبَّةٍ كاملة متناغمة.
 
قصيدة: (لي غربتان بنزع الروح – صفحة 65 -66) على بحر البسيط، وفي هذه القصيدة ترثي أختها وزوجها وتسردُ بإسهاب ووضوح هول المصيبة والمأساة الكبيرة بوفاة أعز وأغلى الناس على قلبها.والقصيدةُ من الناحية الشكلية يغلبُ عليها الطابعُ واللونُ التقريري، بيد أنها عميقة في معانيها وتموجاتها الفلسفية.وهي سلسة ومنسابة بتلقائية وبجمالية وعذوبة، وتقول في مطلع القصيدة:
 
(أهدرتُ صبري ونزفُ العينِ أفقدني روحي فبتّ على الأطلالِ يا ناعي ماذا وكيف وهل للعمرِ مِن سِعةٍ بعدَ اغترابٍ هوَى من مُرِّ أوجاعِي؟). وهذه المقدمة جميلة ومناسبة وملائمة كافتتاحية لقصيدة رثائية حزينة، وتقول الشاعرة: إنها أهدرت وأباحت صبرها..أي لم يعد هنالك صبر وجلد لعظم وهول المصيبة.ونزف العينين أفقدَها روحَها.. (استعملت كلمة النزف وليس الدمع أو الماء والسيل لأنها تبكي دماء بدل الدموع فالمصابُ جَلل وأليم)...أفقدَها روحَها (أغلى وأعز الأحباء) وهي تبيت على الأطلال...أطلال الذكريات. وتتساءلُ بحيرة وتستعمل عدة أدوات استفهام:(ماذا) و (كيف) و(هل) للدلالة والتأكيد على الوضع والجو القلق والملتهب الذي تحياه.. تتساءلُ هل للعمر من بقية واتساع (سعة)، وكلمة سعة شاعرية وجميلة جدا ولها وقعها الأخاذ على القلب والنفس والوجدان.. والكثيرون من الشعراء استعملوها - قديما وحديثا. ولم يعد لها سعة ومتسع ومكان للعمر بعد الاغتراب الذي تعيشها والضياع في موطنها وبين أهلها وذويها لفقد أعز الناس عندها..وحتى حالة الاغتراب التي تعيشها فقد هوت للدرك الأسفل وللحضيض من مرارة الأوجاع (بعد اغتراب هوى) دلالة على فقدان الأمل والرجاء من كل شيء ولم يعد هنا كما يدعو للبقاءِ والاستمرار في هذه الحياة الأرضية الزائلة. والشاعرةُ لا تعيش في مصيبة واغتراب واحد فقط، بل بغربتين وكارثتين (موت الزوج والأخت) فتقول:
 
(لي غربتان بنزعِ الروح مِن مقلي أختٌ وزوجٌ وموتٌ قضَّ أسماعي)
وهاتان الغربتان (فقد الزوج والشقيقة جعلاها تعيش في سوداوية وانطوائيَّة وفي غربة أليمة،وكانتا السبب بنزع الروح من مقلها. وقالت (مقلي) ولم تقل جسدي) كاستعارة وتعبير بلاغي، والمقل (العيون والنظر) هي من أثمن وأغلى الأشياء عند الإنسان وتعادلُ الروح، فالإنسان بدون نظر ورؤيا يعيش في ظلام وفي غربة أليمة. والشاعرةُ بعد موت أعز الناس لديها لم تعد ترى أي شيء جميل في الحياة..لقد نُزعت الروح والحياة الهانئة منها ورؤية الأشياء الجميلة والأضواء من عيونها ومقلها. وفي البيت الشعري الآخر الذي يلي هذا البيت يظهر عنصرُ وطابعُ الإيمان بالخالق جلت قدرته، فتقول إيمان:
 
(يا ربُّ ضاقت وهل للضيقِ من فرج يغشى الحنينَ بليلٍ هزَّ أضلاعي؟
 
تخاطب الله هنا وتسأله: هل هنالك مخرج من هذا الألم وفرج لهذه المصيبة.
 
وهنالك بيت فلسفي ومبطن بالإيمان، وهو:
 
(عشتُمْ وروحي لنبع الجودِ قد رحلت دونَ اللقاءِ وما لليأسِ من داع ِ)
 
تخاطبُ هنا الراحلين عن هذه الدنيا- الأموات الأحياء - (زوجها وأختها) وتقولُ: عشتم.. أي أنتما اللذان تحيان الآن في العالم الآخر الخالد - في السماء، وأما هي فبعيدة عنهما بروحها وبجسها لأنها أسيرة ومقيدة بهذا العالم الترابي الأرضي، ولا تستطيعُ أن تصلَ إليهما وتتواصل معهما إذا لم تمُتْ جسديا وتفارق روحُها الجسد وتصعد بعد ذلك للسماء لتلتقي بالأحبة والأصدقاء والراحلين الأعزاء...وإن روح الشاعرة - كما تحسُّ تشعرُ - لبخيلة وضنينة ومن بعد أن كانت كريمة سمحاء قد فارقت نبع الجود والكرم وهي متمسكة بجسدها الفاني ولا تريد الإنعتاق والتحرر منه والخروج والصعود إلى السماء.. إلى النعيم الأبدي الخالد لملاقاة الذين رحلوا عنها وفارقتهم وفارقوها بموتهم الجسدي (أختها وزوجها).
 
وفي البيت الأخير من هذه القصيدة تخاطبُ زوجها وبنفس التوجّه والفكرة والموضوع المطروح في الأبيات السابقة.فتقول:
 
(قبَّلتُ فيكَ قبيلَ الفجرِ أمنيتي حانَ الصعودُ مللنا نكسة َ القاع ِ)
 
أي أنها قبلتهُ قبل الموت الجسدي(الفجر) والموت الجسدي للشهيد وللإنسان العظيم والمؤمن يعتبر فجرا وأضواء وخلودا وانتقالا لعالم شعشعانيٍّ نيِّر أرقى وأسمى وأفضل وأجمل وأنقى وأطهر من العالم الأرضي الترابي.. عالم خالد أبدي في السماء. وزوجها الفقيد هو بالنسبة لها كل شيء، هو كل الأماني والأحلام، وعندما قبلته قبلت أحلامَها وأمنياتها ومستقبلها ومصيرَها وكيانهَا وفجرَها الساطع الذي رحلَ عنها..وأنها الآن بعد موته تعيش في فراغ وألم وحزن وقد آن وحان لها الصعود..صعود روحها إلى السماء لتكونَ بجوار ربها ومع زوجها وأحبائها الذين رحلوا عنها. ولقد ملت نكسة القاع.. البقاء في الحياة الأرضية الفانية والمؤقتة والمؤلمة... وجملة نكسة القاع لها بعدٌ سياسي ووطني أيضا.. فالأمَّة العربيَّة والشعب الفلسطيني عاشوا ظروفا صعبة ومرُّوا بالعديد من النكسات الأليمة وهم في القاع والحضيض ألما وحزنا وخيبة ومرارة. والشاعرة تريدُ أيضا أن تنطلقَ وتخرج من غربتها في وطنها ومن المآسي التي تعيشها ويعيشها شعبها (في الضفة والقطاع) ألما وحزنا لتنتقل إلى العالم السماوي حيث هنالك لا يوجد ظلم واحتلال ولا قتل وانتهاك حقوق.
 
وهذه قصيدة أخرى من الديوان بعنوان " (ما زلتَ حَيًّا يا أبي - صفحة 67 – 71) وعلى وزن الكامل، ومطلعها:
 
(ضاقت عليَّ مرابعٌ ووِهادُ والدَّمعُ فيكَ مُرَتّلاً سيُعَادُ
يا ليلُ أسرعتَ المسيرَ كقاتلٍ أدمى الغيابَ بقسوةٍ تزدادُ)
 
إن كلَّ شيء قد ضاق في وجه شاعرتنا بعد موتِ زوجها..الأوطان (المرابع) والوهاد الرحيبة.
 
ودمعها المنساب دونما انقطاع لأجل رحيل زوجها يُرَتّلُ.. (استعارة جميلة) انه سيُعادُ وسينهمرُ دائما وباستمرار ولن ينقطعَ هطولهُ وجريانهُ. وتخاطبُ الشاعرةُ الليلَ هنا.. والليل هو رمز للألم والحزن الخطب الفادح...ولقد أسرع هذا الليل البغيض كالقاتل والمجرم والسفاح..وهذا التشبيه قريب نوعا ما في معناه لتشبيه وتعبير بلاغيٍّ جميل جدا استعمله الشاعرُ الكبير محمود درويش في قصيدته الأولى التي كتبها بعد ان غادر البلاد وهي موجة لأمِّه، ويقول فيها *5: (الليلُ يا أمَّاه ُ " ذئبٌ جائعٌ سفاحْ "// يطاردُ الغريبَ أينما مضى ودونما مصباحْ //. ويظهر هنا بوضوح التشابه والتقارب في التشبيهين والاستعارتين البلاغيتين.
وتتابع الشاعرةُ كلامها فتقول:
(يغفو حبيبي لا يموتُ ثناؤُهُ ويموتُ نسيانُ الذينَ أشادُوا
روحي وقبلةُ خافق ٍ وتأمُّلي فيكَ الأبوَّةُ يشتكي الأولادُ
ما زلتُ أرسمُ وجهَهُ كعباءَةٍ فيها من العطفِ الجليلِ سُهادُ)

...يظهرُ هنا الغزارةُ والتكثيفُ في المعاني في نفس البيت وحتى الشطرة الواحدة. ومع أن شكلَ القصيدة وبناءَها الخارجي كلاسيكي تقليدي بيد أن مفادها وفحواها مترع بالحداثة، وتحاولُ الشاعرةُ أن تضعَ الكثيرَ من التقنيات الحديثة والمبتكرة والجمالية في هذه القصيدة. وهذا الأمر والحال موجود بشكل واضح في جميع قصائد إيمان التقليدية والتفعيليَّة أيضا حيث نجد المعاني العميقة والصور الشعرية الجديدة والمبتكرة في جميع أشعارها، بل نجد في نفس البيتِ الشعري أو الجملة الشعريَّة وحتى في الشطرة الواحدة أكثرَ من معنى وموضوع وصورة شعريّة جديدة، وهذا ما يُمَيِّزُهَا عن معظم الشعراء الكلاسيكيين - قديما وحديثا.. وهي تنتمي إلى المدرسةِ الكلاسيكية الحديثة.. بل إلى ما بعد الحداثة، وإيمان كتبت القصيدةَ العمودية التقليدية وقصيدة التفعيلة والقصيدة النثرية الحديثة المتحررة من قيود الوزن والقافية وأبدعت أيما إبداع في جميع هذه الأنماط والألوان، وخاصة في الشعر الكلاسيكي الصعب والممتنع وهنالك قاعدة تقول: إنَّ الذي لا يجيدُ كتابة القصيدة العمودية لا يستطيع كتابة القصيدة النثرية الحرة، وهذا الكلام صحيح مئة بالمئة،لأن معظمَ الذين يكتبون قصيدة النثر المتحررة من الوزن والقافية اليوم لا يعرفون كتابة الشعرَ الكلاسيكي ولا يعرفون الأوزان الشعرية (العروض) ولا قواعد اللغة العربية (أكثر من 99 بالمائة من الشعراء والشويعرين المحليين تقريبا وأكثر من 95 بالمائة على امتداد العالم العربي).والذين يكتبونه ويخربشونه ليس شعرا بل هذيان وترهات وهراء..فالقصيدةُ النثرية الحرة لها شروطها وأسسها، مثل: التكثيف في المعاني والمواضيع، والتكثيف من الصور الشعرية الجميلة والاستعارات البلاغية الجديدة والمبتكرة، التحلي باللغة الأدبية الشعرية المنمقة الساحرة وبالموسيقى الداخلية الأخاذة، وهذه الأشياء غير متوفرة وموجودة في معظم قصائد النثر التي تكتب اليوم، فمن بين كل ألف أو عشرة آلاف قصيدة قد نجد قصيدة واحدة تستحق أن نطلق عليها قصيدة شعرية.
وفي هذه القصيدة إن الشاعرة تمدحُ زوجَها وتنعتهُ بأفضل الصّفات.. وإن زوجَها يغفو الآن (ينام) ولم تقل (يَمُت) لأنه يحيا في قلوب ووجدان الجميع وكلِّ من يعرفه، وثناؤهُ وأعمالهُ ومناقبهُ المُشِعَّة لن تموتَ وتتلاشى أبدا وستبقى خالدة.. أما الذين شيَّدُوا المباني والصُّروح وحققوا مكاسبَ وإنجازات مادية كبيرة وابتعدوا عن الأشياء والأمور الجوهرية والروحيَّة سيموتُ ذكرهم ويتلاشى والناس ستنساهُم بعد فترةٍ زمنية، وحتى النسيان أيضا الذي سيكون مصيرهم ومآلهم سيموت -حسب قول الشاعرة - (تعبير بلاغي جميل).

وهذا الزوجُ المخلصُ والوفيُّ والحنونُ هو كلُّ شيء...هو روحها ووجدانها وقبلة خفقها وصميم قلبها النابض وإكسير حياتها.. وهو الأبوة بكل معانيها وأبعادها المثاليَّة السامية التي ينشدُهَا الأولاد. والشاعرةُ ما زالت ترسم وبالأحرى ترى وجهَ زوجَها الفقيد كعباءةٍ (والعباءةُ دائما هي رمزٌ لزعيم ولشيخ القبيلة أو العائلة الذي يجتمعُ كُّل فراد القبيلة على كلمته ويكونون ملتئمين وموحدين تحت عباءته ويشكلون كتلة وجسما واحدة ونسيجا اجتماعيا متماسكا ومتينا، وهذا الزوجُ هو العباءةُ السحريةُ التي تراها زوجتُهُ الشاعرة والتي تشع حنانا ومودة وطيبة وعطفا تغمرُ وتحتضنُ وتكتنف الأولاد والزوجة والبيت جميعَهُ، وينعمُ الجميعُ بالأمن والهدوء والاطمئنان تحت أكنافها. واستعملت وأدخلت الشاعرةُ هنا كلمة سهاد في نهاية هذا البيت:

(ما زلتُ أرسمُ وجهَهُ كعباءَةٍ فيها من العطفِ الجليلِ سهادُ)

وتعني بكلمة سهاد هنا الراحة والاستقرار النفسي والروحي والنوم بهدوء وأمن وطمأنينة دون خوف وقلق ودون كوابيس مزعجة. فالعطفُ والحنان الذي كان يمنحهُ الزوجُ الراحل لأسرتهِ (لأولاده وزوجته) يجعلهم في قمة السعادة والهناء والسرور والاستقرار والتوازن النفسي والروحي..فيخلدون للنوم كل ليلة ويغفون بشكل طبيعي وهم تحت مظلة وعباءة الأب وحنانة بارتياح وطمأنينة ووداعة وسلام وحبور.

وتنتقلُ الشاعرةُ بعد هذه الأبيات إلى ابنتِها روشان وتصوغُ باقي أبيات القصيدة على لسانها وتصفُ شدة حزنها ولوعتها لفقد والدها، فتقول في القصيدة:

(رُوشانُ تمسكُ بالحروفِ أنينهَا لتجودَ من سفرِ الوُجودِ جيادُ)

وتستعملُ هنا الجناس في الشطرة الثانية من هذا البيت كتجميل لفظي وشكلي ("لتجودَ" و "جِيادُ "). وتتابع الشاعرة القصيدة على لسان ابنتها:

(سوداءُ كلُّ ضفائري من حَسرةٍ كالليلِ إن حجبَ الضياءَ مُرَادُ
مالي سواكَ ومن يُكفكفُ عبرتي وجعًا يصوغُ الحُزنَ فيهِ مُرادُ
اليومَ لا فجرٌ يُداعبُ مقلتي فلدَى الثرى ما تعشقُ الأكبادُ
حملوكَ فوقَ أكفهم وتسابقوا والدَّمعُ في عينِ السَّماءِ مِدادُ
لا تأخذوهُ دعوا لقلبي نظرةً تغشاهُ حيًّا للثرى ينقادُ
ما زلتُ في ركنِ الحياةِ كدميةٍ تُدمى بفقدٍ سلَّهُ الميعادُ

وتخاطبُ الفتاة الصغيرة أمها على لسان الشاعرة الأم في القصيدة:

(أمٍّي أنحيا والفراقُ سميرُنا والليلُ ذكرى والنسيمُ رمادُ
أأبي إلى ظلمِ اللحودِ مضَوا بهِ دونَ اللقاءِ لمَن هواهُ الزّادُ
أو كيفَ أحيا واللقاءُ مُحَرَّمٌ والعُمرُ بعدك يا فراقُ حِدادُ
أبكيهِ عُمرًا لا يكافىءُ حسرتي وأضمُّ مِسكًا خانهُ الإبعادُ
حُزني عليكَ كحزنِ يعقوبَ الذي فهِمَ اليقينَ وقد تلتهُ عبادُ
ستعودُ حيًّا والقميصُ إمارةٌ ودليلُ صدي ما رواهُ فؤادُ)

تتحدث الشاعرة على لسان ابنتها اليتيمة في هذه القصيدة، وتقول: إن ضفائرها (جدائل شعرها) سوداء من شدَّة الحسرة والحزن كالليل الدامس إذا حجبَ الضياء كليًّا ويكون مرادا بل تربا وزميلا له.. لليل. وليس لهذه الطفلة اليتيمة سوى والدِها الراحل الذي كان يكفكفُ و يمسحُ عبرتهَا عندما تكون مريضة ومتألمة، واليوم لا يوجد فجرُ (رمز للضياء والنور وللطهارة والنقاء) يحنو عليها ويكفكفُ مقلتها لأن والدَها قد توفي وكان الفجر المضيء لها وللبيت بأكمله، وهو الآن راقد في هذا الثرى (التراب)..لقد مات من تحبٌّهُ وتتمناه الأكباد..أي الأبناء والزوجة. وتذكرُ يومَ موته وجنازته عندما حملوهُ فوق الأكتاف إلى مثواه ومرقده الأخير (القبر) وكانت السماءُ تبكي وتذرف الدمع عليه كالمداد...دمعا أسودا من شدة الحزن (تعبير بلاغي جميل). وتطلبُ الطفلة من المشيِّعين وحاملي الجثمان الطاهر إلى اللحد أن لا يتعجلوا في أخذه إلى مثواه الأخير وليتركوا لقلبها نظرةَ وداع أخيرة تملأ فؤادَها وعيونها منه وكأنه حي ولتكن زادًا في فترة الفراق والغياب الطويل..وهي الفتاة الصغيرة التي ما زالت في هذه الحياة كالدمية ولا تستطيع أن تخوضَ معتركَ الحياة وتتحملَ المسؤوليات والخطوب الفادحة بنفسها لأنها ما زالت غضة الإهاب ليِّنة العود. وتخاطبُ الفتاةُ الصغيرة أمَّها - حسب قول الشاعرة - فتقول: كيف سنحيا والفراق واللوعة أصبح رفيقنا وسميرنا اليوم، والليلُ دائما يذكرنا بالأب الرحيم والطيب، والنسيم الذي يهب كأنهُ رماد يدخل إلى العيون فيزيدها حرقة ودموعا. أبي إلى ظلمة اللحود يذهب، يأخذونه ويمضون به بعيدا ولم يعد لنا من لقاء وملتقى معه وهو كان الزاد والقوت لنا والهواء والبلسم والدواء وكل شيء.. وكيف سنحيا ونستمرُّ في البقاءِ بعد هذه الكارثة التي ألمَّت بنا واللقاء معه ممنوع ومحرَّم لأنه في العالم الآخر وهنالك برزخ يحجبنا عنه إلى يوم الحشر والدين..ولا أمل من رجوعه إلينا.. والحياةُ بعد فراقهِ ستكون كلها حدادا وحزنا ودموعا...ولو بكيتهُ طيلة عمري لا يعادل ويكافئ هذا مقدار وحجم حسرتها وحزنها فهو المسك والعطر والأريج الساحر وكل شيء جميل كان في هذه الحياة.. وحزنها عليه كحزن النبي أيوب على ولده يوسف الصديق (وتوظف هنا شخصية النبي يوسف والنبي يعقوب) وكان حزنُ يعقوب جليلا عظيما عندما أخبَرُوهُ أنَّ يوسفَ قد أكله الذئبُ.. ولكن يعقوبَ بعد مدة كان عنده إحساس أنه سيلتقي بابنه الغائب وكان القميصُ الممزق هو العزاء وهو الإمارة واليقين لرجوعه حيا إلى والده وإن لم يكن في الحياةِ الأرضية سيكون هذا في الحياة الأخرى في جنان الخلود والأمجاد السماويَّة.

وإلى قصيدة أخرى بعنوان: (دعوا قلبي – صفحة 80 – 83)، على بحر الكامل، ومطلعُها:
(مَهْلاً عليهِ دَعُوا قلبي يكفنهُ إنِّ قُتلتُ بفقدٍ صاغني طللا

مطلعٌ ومقدمةٌ مؤثرةٌ بالطبع وملائمةٌ لقصيدةٍ رثائية، ويمتاز مطلع هذه القصيدة عن معظم قصائد إيمان مصاروه الشعريَّة أن صدرَ البيت وعجزه لا ينتهيان بنفس القافية. وتدخلُ الشاعرةُ هنا، في القصيدة، بشكل مباشر إلى جوِّ الحزن ووصف ساعة الوداع وتطلبُ من المُشَيِّعين الذين بقرب جسد الفقيد المُسَجَّى، كما يظهر من خلال هذه الصورة والمشهد الشعري، أن يتريثوا قليلا وينتظروا ولا يأخذوا جثمانه إلى القبر..بل هي تريد أن تكفنهُ بقلبها.. وإن هذه الفراق (الفقد) الرهيب لزوجها قد قتلَ كلَّ شيء فيها وجعلهَا كالطلل البالي الخالي من كلِّ شيء. والشاعرةُ استعملت كلمة الطلل كتعبير واستعارة بلاغية وهي موفقة وفي مكانها، ولأنها متأثرة كثيرا بالشعر الكلاسيكي القديم الذي يتحدث دائما عن الأطلال، وقد استعملت كلمة الطلل والأطلال في أكثر من موضع في هذا الديوان.

وفي هذه القصيدة تستعملُ الشاعرةُ بعضَ الصور الشعرية والتشبيهات المألوفة والقديمة، ولكنها تطورُ هذه الصور والاستعارات وتصقلها بشكل عفوي وتضيف من خيالِهَا وروحِهَا وإبداعها الجديد والجميل والمبتكر.

وتقولُ:

(كيف ابتسمت لموتٍ غادرٍ دنفٍ ألقى عصاهُ فإذ بالدَّمعِ قد هطلا)

تخاطبُ زوجها وتقول له: كيف ابتسمت َ لهذا الموت الغادر المخيف والمؤلم. ويبدو هنا التشبيه مألوفا والفكرة عاديَّة. ولكنها تضيفُ كلمة دنف...وهي كلمة ٌ ومصطلحٌ جيد وجميل تشبِّهُ وتنعتُ به الموت (الدنف هو ازدياد شدة المرض وثقله وتفاقمه).. وكلمة دنف تطلقُ على العاشق المتيم الحزين والمتألم الذي أظناه الحب والهيام وأسقمه وأصبح مريضا. فكأن الموت العاشقُ المعذب الدنف والمتألم قد ألقى هذا الموتُ عصَاهُ وخطف روح الزوج وحياته فإذا بالدمع يهطل غزيرا من عيون الشاعرة المكلومة. وكلمة ألقى عصاه كانت تستعمل قديما للذي يقيم في مكانه ويتوقف عن السفر والرحيل.

وقد تمثلت عائشة أم المؤمنين ببيت من الشعر للمعقر البارقي على هذا النحو والمعنى عندما وصلها نبأ موت الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وهو:

(وألقت عصَاها واستقرَّ بها النوى كما قرَّ عينا بالإياب المسافرُ)
.. فأخذت إيمان هذا التشبيه ووصفت به الموت وأنهُ ألقى عصاهُ عند زوجها وأقام عنده وأخذه معه.

وتتحدثُ الشاعرةُ في القصيدةِ بتوسع عن هول فجيعتها بموتِ زوجها فكان هو كل شيء بالنسبة لها..ولم يكن لها سندا وعونا سواه ولما رحلَ تراكمت كلُّ الهموم والمصائب عليها. وهو الأصلُ وهو معين الروح. وبعد موته أصبح الدمعُ هو الكحلَ والأثمدَ لعيونها.وتذكرُ في القصيدة أيضا سببَ موتِ زوجها، وهو إصابته بمرض السرطان الذي لم يمهله طويلا، فتقولُ:
(تبًّا لقاتلِ مَن أهوى بلا أسفٍ إنَّ السقامَ بخبثٍ أسقطت جدلا
تبًّا لهُ سرطانُ الموتِ أرقنا فاخلُدْ عليُّ شهيدًا جلَّ وارتحلا)

وكلمة سرطان هنا تُفهَمُ وَتُفسِّرُ كتشبيه للموت وكأنَّ الفقيدَ لم يمت بالسرطان، وإنّما الموت الغاشم والمخيف كالسرطان قد خطفه ولم يتأسف على فعلته وجريمته النكراء وهي خطف وسلب روح أعز شخص لديها.

وسأنتقل إلى القصيدة الأخيرة من الديوان (صفحة 98 - 94) وهي على نمط شعرا لتفعيلة وبعض المقاطع فيها جاءت كلاسيكية بشكل تلقائي وعفوي وَتضُمُّ نفسَ عدد وترتيب التفاعيل وتنتهي بنفس القافية. ويظهر أن الشاعرة لم تستطع التحرَّرَ كليا من الطابع الكلاسيكي لأنها متأثرة كثيرا بالشعر العربي القديم الموزون والمقفى، ومنذ بداياتها الأولى بدأت تكتبُ الشعرَ العمودي التقليدي وقطعت شوطا كبيرا فيه، وعندما تريدُ أن تكتبَ قصيدة تفعيليه أحيانا لا تستطيع أن تتحرَّرَ كليًّا من اللون الكلاسيكي فتخرج بعضُ الأبيات في القصيدة على النمط الكلاسيكي..وقد حدث هذا الأمر مع الشاعرة الفلسطينية الكبيرة فدوى طوقان فكانت تكتبُ في بداياتها الأولى الشعرَ الكلاسيكي العمودي، حيث لم يكن قد ظهرَ بعد شعر التفعيلة (أول القصائد في شعر التفعيلة ظهرت أواخر عام 1946 للسياب ونازك الملائكة والبياتي والدكتور لويس عوض وكانت مغامرة في الشعر العربي الحديث لم يكن أحدٌ يتوقعُ أن يكتب لها الحياة وقد نجحت)*6. وعندما حاولت فدوى أن تكتبَ أولَ قصيدة تفعيلية وجدت بعض الصُّعوبة في هذا الأمر لأنها اعتادت على كتابة الشعر القديم الموزون والمقفّى..وحدث هذا الأمرُ معي أيضا في بداياتي الأولى لأنني كنت أكتب فقط الشعرالكلاسيكي العمودي الموزون والمقفى.هذا وتلخصُ الشاعرةُ في هذه القصيدةِ حالتهَا النفسية والوجدانية ومشاعرَها وأحاسيسَها وحياتها وظروفها ووضعها بعد الفراق، وتقول فيها:

(" إذا ما كنتُ راحلة وجيد العمر في الأكفانِ
يسري في مرارته
أنا يا موتُ فيكَ
وأنت في بعدٍ سقاني من
جراح البؤس أوجاعا تقضُّ الروحَ في المنفى انتفاضا
وتهوى في ربيع العمر بيدا
ألم تعلم بأن النبضَ غافٍ
بريقُ العمرِ، يسكبهُ صَديدا
سأكتبُ راثيا للموتِ حالي
فما في النفس من شجنٍ ونجوى // ترى في التربِ موعدهَا الجديدا
أكلمُ من رموا قلبي بنارٍ رواها الهجرُ
فانتبذت وريدا //
سأسكنُ شاطىءَ المنفى لعلِّي
أرى لحدي بأرضكَ خير روض ٍ
فيكتبني الرثاءُ بريقَ خلدٍ
يسافرُ في خطايَ إلى رباكَ لأستعيدا
أنا نبضٌ تولَّى حينَ أولتني المنايا
جراحا أسقتِ القلبَ الصَّديدَا
أنا طللُ المحبَّةِ في ابتعادٍ
يُمنِّي النفسَ أن يغدوا بعيدا) //

.. أي الذي يغيِّرُ نمطَ الحياة ويقلبُ الأمور والموازين رأسا على عقب وكانه منها وموجودة فيه.
ونهاية القصيدة كما يلي:

(رثائي لي تراتيلٌ دعتني
فأودعتُ السَّلامَ بكلِّ روح ٍ
رَواها الحرفُ مُبتهلاً سَعيدا).

تحليلُ القصيدة: القصيدة ليست طويلة في مساحتها الجغرافية ولكنها عريضة وعميقة بمعانيها المُبَطنة والفلسفيَّة،وتخاطبُ الشاعرةُ في البداية الموتَ هذا الشبح المخيف الذي يُغيِّرُ نمط الحياة ويقلبُ الأمور والموازين رأسا على عقب وكأنها موجودة فيه وهو بعيد وقد سقاها جراح البؤسَ والأوجاع والخطوب الجليلة (موت أختها وزوجها)، وهي تعيُش في وطنها المكلوم كأنها في منفى، وجراح الأحبة الذين أخذهم الموت الذي تخاطبه الآن متفاقمة. وهذه الآلام جعلت روحَها تقض انتفاضا في غربتها الأرضية في وطنها. وجعلتها هذه الخطوبُ، التي تركها الموت وراءَه،تهوي في ربيع عمرها ونيسانها المزهر والمشرق إلي جفاف ويباب وتتحول إلى بيد مقفرة. وأصبح حتى نبض عروقها غارقا في سبات..والعمر عندها قفر يباب،والرثاء سيكتبُهَا ويوثقها ببريق خلد..شعاع ونور خالد سيسافر في خطاها إلى مجال فيه بعض البريق (التشبث والتمسك بالحياة وحب البقاء).. وهذا البريق وما تبقى من شعاع الأمل - الرمق والفتيل الأخير يسكب النبض صديدا.. القيح والدم. وأما القسم الثاني من القصيدة فتتحدثُ الشاعرةُ فيه عن نفسها ومعاناتها وعن أحبائها الذين خطفهم الموتُ، وبلغة ونبرة حزينة مؤثرة وبطابع حماسي خطابي نوعا ما. وإن ما في داخلها من أحزان ونجوى تجعلها ترى في الترابِ.. الموت الجسدي موعدها الجديد، لأنها وصلت إلى قمة الحزن واليأس... وتقول: إنها تكلم الذين رموا قلبها بنار بعد هجرهم ورحيلهم.. والهجر روَّى هذه النيران التي في داخلها...وتخاطب وطنها أيضا في القصيدة وربما زوجها الراحل الذي بالنسبةِ لها هو الوطن وكل شيء.. وأنها ستسكنُ شاطئ المنفى.. أي الغربة في موطنها فعلّها تجد لحدَها في وطنها بعد ذلك أجمل روضة غناء مزهرة، والرثاء سيكتبها ويوثقها ببريق خلد، شعاعَ ونور خالد يسافر في خطاها إلى المُبتغى المنشود (إلى رُباك) - لكي تستعيدَ الوطنَ (تمزج اللوعة واليأسَ مع الأمل والبريق).
وفي نهايةِ القصيدة تستعملُ الشاعرةُ بعضَ التعابير والاستعارات البلاغية التي تشيرُ إلى هولِ المصيبةِ والخطب وإلى الوضع النفسي والوجداني الذي تحياهُ. فهي في قمة اليأس..وهي الآن عبارة عن نبض تولى وذهب حينما أولتها وأعطتها المنايا جراحًا عميقة وأليمة (موت الأحباء) وأسقت القلبَ الصديدا..وتعيدُ الشاعرةُ هنا نفس الكلمة والمعنى الذي وردَ في مقطع سابق في القصيدة.. الصديد الذي ينزُّ وينزف من عروقها وقلبها ولكن بصيغةٍ وشكل يختلفُ قليلا عما ورد في مقطع سابق من القصيدة. فتقول:

(أنا نبضٌ تولَّى حين أولتني المنايا
جراحًا أسقتِ القلبَ الصَّدِيدَا
وتنهي الشاعرةُ القصيدةَ بهذه الأبيات الجميلة:
(أنا طللُ المحبَّةِ في ابتعادٍ
يُمَنِّي النفسَ أن يغدوا بعيدَا
رثائي لي تراتيلٌ دعتني
فأودعتِ السلامَ بكلِّ روح ٍ
رواها الحرفُ مُبتهلا سعيدَا).

أضيفَ في نهايةِ هذا المقالة:إنَّ هذا الديوان من أحسن وأفضل الدواوين الشعرية التي صدرت محليًّا من ناحية المستوى والبعد الفني، وجميع القصائد التي يحتويها تتمحورُ في موضوع الرثاءِ فقط. ولقد اطلقوا قبل عشرات السنين على الشاعرةِ الفلسطينيةِ الكبيرة فدوى طوقان لقب (خنساء فلسطين) لأجل قصائدِهَا الرثائيَّة الحزينة في أخويها الشاعر الكبير إبراهيم طوقان وشقيقها الصغير نمر*7. وأنا أرى ان الشاعرة إيمان مصاروه تستحقُّ أيضا هذا اللقب بجدارة (خنساء فلسطين) لأجل قصائدها الرثائية التي في قمة الحزن واللوعة والأسى لزوجها ولشقيقتها الشاعرة سناء مصاروة ولوطنها المكلوم ولشهداء الوطن. وللأسفِ الشديد إن شاعرتنا إيمان مصاروه لم تأخذ حقها كما يجب من ناحية الشهرة والإنتشار الواسع محليًّا وعربيا وعالميا رغم مستواها الإبداعي العالي في مجال الأدب والشعر والذي لا يقل جودة وإبداعا عن مستوى الشاعرات الكبيرات والمشهورات في الوطن العربي ورائدات التجديد في مسيرة الشعر العربي الحديث، مثل: نازك الملائكة، فدوى طوقان، سلمى الخضراء الجيوسي، جليلة رضا، عزيزة هارون..وغيرهن. وإيمان مصاروه هي أكثر شاعرة عربية عاشت وواكبت قضايا شعبها: السياسية والوطنيَّة، حيث بدأت تكتبُ الشعرَ الوطني والسياسي منذ نعومةِ أظفارها، علما أن الشاعرةُ الفلسطينيَّة الكبيرة فدوى طوقان قصائدُها الأولى كانت في الأمور الذاتيةِ والغزل والوجدانيات فقط، وبدأت تكتبُ الشعرَ الوطني والسياسي وتعالجُ همومَ وقضايا شعبها في شعرها في مرحلة متقدمة من عمرها لأنها كانت بعيدةعن معترك الأحداث الثقافية والسياسة في البداية وتقضي معظم أوقاتها في البيت كمعظم النساء والفتيات العربيات قبل أكثر من 80 سنة، وبعد وفاة شقيقها الشاعر الكبير إبراهيم طوقان (شاعر فلسطين قبل النكبة) عام 1941 أراد والدُهَا أن تملأ فدوى لو قليلا الفراغ الذي تركه ابراهيم، وكان يشتري لها الصحف التي كانت تصدر آنذاك لتقرَأها وتطلعَ على مجرى الأحداث ولكي تكتبَ الاشعارَ الوطنية والسياسية لخدمةِ شعبها الفلسطيني، وهي تعترفُ في مذكراتها التي أصدرتها في كتاب اسمهُ رحلة صعبة ورحلة جبليَّة ونشرت حلقات وفصولا منه في مجلة (الجديد) الحيفاويَّة في أواخر السبعينيات من القرن الماضي* 8 انها كانت لا تعرفُ الوطن وكانت بعيدة وغريبة عن الوطن وتجهله ولا تعرف كيف ستكتبُ أشعارا لوطنها..كان هذا في بداياتها الشعريّة الأولى بعيدة عن مجال الشعرالسياسي والوطني*9..على عكس شاعرتنا المتميزة بكل أغراض الشعر إيمان مصاروه. ولا أحد ينسى أن وسائلَ الإعلام المحلية اليوم وللأسف الشديد ما زال لها دور سلبي وخطير أدبيًّا وثقافيًّا في صدد الإشهار أو التعتيم، فالكثيرون من المسئولين والعاملين في هذه المنابر والأوكارإذا صحَّتِ التسمية يحاولون إشهار من يريدونه من رعاع وحثالات ومسوخ المجتمع من شراذم الشويعرين والمستكتبين المأجورين المتطفلين على الأدب والثقافة، ويعتمون في نفس الوقت على المبدعين والعمالقة والجهابذة الأفذاذ وعلى خيرة الأدباء والشعراء الوطنيين الشرفاء والأحرار ويحاولون تهميشهم بشتى الوسائل والطرق، بل حتى وأدهم ودفنهم بالحياه إذا أمكن هذا الأمر، وهذا كله متفقٌ عليه ومبرمج وموجَّهٌ من سياسةٍ سلطوية عليا معادية لشعبنا الفلسطيني وثقافتهِ وفنهِ وحضارتهِ ورقيه وإبداعه ومعادية للقومية العربية وللقضايا العربية بشكل عام كما يبدو واضحا للجميع، هذا الذي يجري عندنا بالضبط على الصعيد المحلي - ثقافيا وأدبيا وفنيا. وشاعرتنا إيمان واحدة من عشراتِ الشعراء المحليين الكبار والعمالقة الذين حاولت بعضُ الجهات والأطر الإعلاميَّة الصفراء - محليًّا - ومن يدور في فلكها وسراديبها مع بعض النويقدين المستكتبين المأجورين والمرتزقين التعتيم عليهم وعلى أدبهم وكتابتهم، ومن الشعراءِ الذين عتم عليهم محليًّا: الشاعر الكبير سليمان دغش وهو أول شاعر فلسطيني من الداخل (عرب ال 48) يحصل على جائزة إتحاد الكتاب العرب العام في الدول العربية والشاعر المرحوم محمود الدسوقي والشاعر شفيق حبيب والشاعر والأديب يوسف ناصر وأنا (حاتم جوعيه) كاتب هذه السطور.

المراجع:

* 1 كتاب جواهر الأدب - تأليف أحمد الهاشمي.

* 2 ديوان امرؤ القيس – دار إحياء العلوم - بيروت - لبنان

* 3 ديوان ابيد بن ربيعة العامري - إصدار دار الارقم بن أبي الأرقم - بيروت - لبنان

*4 ديوان الشريف الرضي - دار صادر - بيروت - لبنان

*5 ديوان محمود درويش - المجلد الأول - إصدار دار العودة - بيروت.

* 6 قضايا الشعر المعاصر - تأليف: نازك الملائكة.

*7 ديوان فدوى طوقان - إصدار دار العودة - بيروت.

*8 فدوى طوقان - كتاب رحلة صعبة - رحلة جبلية.

* 9 مجلة الجديد الحيفاوية (عدة أعداد - سنة 1979)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى