الخميس ٧ شباط (فبراير) ٢٠١٩
بقلم محمد جمال صقر

بلاد الملح سيوة

إن واحة سيوة إحدى محميات مصر الطبيعية العالمية الثلاثين، اللواتي اشتملت من الكنوز العتيقة على ما خِيفَ تبدُّده فحُمي من التعدي عليه، وإن من زار واحة سيوة ربما رآها أجدر بأن تُجعَل محميَّة الملح؛ فقد زحف إليها قليلا قليلا، وأحاط بها حتى طبعها بطابعه؛ فصارت من المزارات السيوية المعروفة الملّاحات (البحيرات المالحة)، التي يجف فيها الملح ويتراكم، فأما المتماسك المتصخّر منه فيأخذه السيويون ليصنعوا منه بعض أشيائهم، وأما المتفكّك المتفتّت فيشتريه الأوروبيون ليذيبوا به ثلوجهم ولا يعود إلى السيويين من تجارته غير ما تؤذيهم به شواحن نقله الضخمة!

لما عزمنا صباح الثلاثاء 22/1/2019، على زيارة قرية جعفر السياحية بالجبل الأبيض -واسمه بالأمازيغية أدرار أبلال- وخرجنا إلى السيارة الفارهة المنتظرة أمام فندق شالي الذي نقيم فيه، ووجدنا عندها مع صاحبها رجلا آخر صحبناه من قبل إلى مزارات سيوية أخرى، وعرف وجهتنا- قال: ما قرية جعفر هذه إلا مزرعتنا نحن أولاد موسى -واسمه الحاج يوسف أولاد موسى- التي هجم عليها الملح فأفسدها فباعها أبي واشترى مزرعة غيرها يأمن فيها على تمره وزيتونه المعروف بهما -قال- فجعلها مشتريها قرية سياحية، رمّم بيوتها، وأضاف إليها مثلها، وتحرى فيها الطراز السيوي القديم، ليصير سعر ليلة الإقامة فيها من أغلى الأسعار!

وصلنا إلى قرية جعفر، فاحتفى بنا المسؤولون عنها إكراما لمحمد بيه رئيس شرطة سيوة السابق ابن أخي زوجتي -وهو ضابط صالح محبوب- حتى أدخلونا البيت الكبير هذا المصوَّر هنا، الذي كانوا قد هيؤوه لإقامة بعض كبار الزوار -والعادة ألا يتاح عندئذ لأحد- وجالوا بنا فيه كله، ثم لقينا رئيسهم الحاج حبّوب، فقص علينا قصة بناء القرية كلها الذي شارك فيه مئة وخمسون عقلا، حتى انتهى إلى هذا البيت الكبير الذي كان له -ولعله من أولاد موسى السابق ذكرهم- فاشتراه منه صاحب القرية، ومن حكمته أنه أبقاه رئيس المسؤولين! وقد ذكر من زواره نفرا من الوزراء المصريين والعرب، ثم ذكر من زواره الأمير تشارلز الإنجليزي المحبوب وأسرته، وأن من عجائبه أنه كانت تُحمل له معه في ثلاجة خاصة أكياسُ دمٍ من فصيلته خشية الطوارئ؛ فمازحته بأنه الدم الملكي!

على مثل طراز هذا البيت الكبير كانت بيوت القرية، مبنية من حجر الكرشيف الممتزج فيه الملح والرمل والطين بحيث يشتد إذا جفّ اشتداد الإسمنت، وخشب أشجار الزيتون الفاخر، وخشب النخيل وجريده وسعفه، ثم كان أعجب ما فيها أسرّتها وبعض مجالسها ولوازمها المصنوعة من الملح المتصخّر، وأن من أقام في هذه القرية اعتزل الدنيا مختارا أو مضطرا، فلا كهرباء ولا ما اتصل بها من أجهزة -مهما كانت- إلا الشموع في أوعيتها الملحية والشعل في مشاعلها، ثم هناك على مقربة من البيوت عين ماء فوارة عذبة تقوم على مزرعة تكفي حاجة القرية، وبحيرة كبيرة مالحة لمن شاء السباحة أو الإبحار القريب، قد أُعِدَّ كل شيء بحيث ينسى المقيمُ زمانه ومكانه اللذين عرفهما؛ لعله إذا ما رجع إليهما عرف أنه لم يعرفهما!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى