بنية الترميز في رواية «رباط المتنبي» لـِ: حسن أوريد
نروم في هذا المحور مقاربة جانب من الحمولة البلاغية للنص ومحاولة استشراف الصورة الكلية التي تلتئم عندها الخيوط العامة للمعمار الروائي في رواية «رباط المتنبي»، حيث تصب جداول الأحداث ومعمارية الشخصيات وتقابلات الأمكنة والأزمنة. ونحن حين نتحدث عن البلاغة، فإننا لا نعني بذلك أننا سنبحث عن استعارات ومجازات بطبيعتها اللفظية، بل نقصد محاورة الصورة البلاغية بطبيعتها المفهومية القائمة على المماثلة، والتي تصنفها البلاغة ضمن صور الفكر،.
إننا ننطلق من قول محمد أنقار بأن «البلاغة ليست حلية، بل كشف عن الوظائف»(1)، ويجدر أن نقر بأن الكشف عن وظائف المكونات السردية في «رباط المتنبي» أمر غير يسير، لأن الرواية انبنت على مفاهيم وتصورات وأفكار، وليس على موضوعات محسوسة ومكونات ملموسة. وإدراك ما تعنيه العلامات اللغوية في النص يستدعي إدراك الفكرة التي ترمز إليها، وكذا السياق الذي وردت فيه، ناهيك عن إدراك علاقات التكيف والتبادل بين تلك العلامات وإيحاءاتها المتشابكة.
ومعلوم أن الصورة، في حدها البلاغي الضيق، تتسم بصفات محسوسة، في حين أن هذه الرواية ترتبط بمعان مجردة، لذلك علينا أن نرقى في تذوق بلاغتها من المحسوس إلى المجرد، ومن علاقة المشابهة إلى علاقة المجاورة، دون الاقتصار على المجاورة الذهنية، بل الانفتاح على الإطلاق التصويري الذي يقتضيه جنس الرواية، كما ذهب إلى ذلك ستيفن أولمان. (2)
إن المكونات الأساسية للصورة الروائية في «رباط المتنبي» هي المماثلة والتناظر والمطابقة، وقد أدت وظائفها التصويرية بعيدا عن الانزياحات البلاغية بالمعنى الضيق، لذلك فالذي يثير القارئ الناقد في هذا النص، ليس الاستعارات والمجازات، لأنها حتى وإن كانت موجودة، فهي لا تستفز ذائقة القارئ الحصيف بقدر ما يستفزه التنضيد الغامض للرموز والعلامات اللغوية، إذ تصل أحيانا إلى درجة المحاجاة والمعاياة، بالنظر إلى ما نستشعره من لحن وإلغاز وتلويح وتعريض وغيرها من صنوف بلاغة الإشارة. وقد رأينا في محور سابق مقدار الأسئلة الموجهة والمُعجِزة أحيانا، كما رأينا حجم المماثلة والتناظر بين الراوي والمتنبي (الشاعر)، وفي الآن نفسه وقفنا على حدة المقابلة بينهما بلغت حد القطبية والصراع في صورة سوريالية مفارقة جمعت بين المماثلة والمقابلة في آنٍ، وعلى نفس الغرار تجلت علاقات باقي المكونات السردية الأخرى، مما يجعل مقاربة بلاغة النص من باب التكثيف المجازي فقط، قاصرا عن إدراك المفاهيم والدلالات التي تتقصدها الرواية.
ولعل المجاز الوحيد الذي يمكن أن يُعتد به في «رباط المتنبي» يتمثل في استعارة شخصية المتنبي، ونحن إذا حاولنا قراءة هذه الاستعارة في طبيعتها اللفظية وفي حدها البلاغي الآني والضيق القائم على المشابهة، لن نحصل على أية نتيجة جمالية روائية، لأن المتنبي يغمر بأثره النص كله، وتصير الكلمة صفة يتقاسمها ، سرديا، كل من الشاعر والبطل السارد، مما يقحمها في سيرورة درامية معقدة يجعلها أكثر من استعارة تاريخية محدودة، ويصير المتنبي مجازا ممتدا يلامس مستوى رمز وقناع متغير، يدخل في دوامة من الدلالات والإيحاءات والترميز المحكم. لذلك فإن الاختراق البلاغي للنص يجدر أن يتم من باب الترميز، على اعتبار أن الصور الروائية فيه تقوم على علاقة مبهمة بين شيئين، أحدهما حاضر يتمثل حسيا بدال، والثاني غائب تسعى الدلالة إلى إدراكه.
وتجدر الإشارة إلى أنني لا أقصد بالترميز الإكثار من استعمال الرمز والتوسع فيه من باب التفعيل، أي التكثير، بل أقصد به شحن العلامة بإيحاءات نفسية وثقافية وسياسية، من خلال توظيفها في سياق يستدعي تلك الإيحاءات ويبرزها (3)، كما أقصد به إدخال اللغة في نظام رمزي يتجاوز حدود النظام المنطقي الصارم. ففي رواية فكرية يفترض إفراز تصورات ومفاهيم، والبدائل عن المفاهيم تكمن في الدلالات، والدلالات ليست سوى أنساق من الترميز.
ونحن إذ نروم محاورة بلاغة النص من مدخل الترميز، فإننا لن نتعامل مع الرمز بمعناه الضيق، بل نأخذه بمعناه المجرد ودلالته العامة بوصفه مساحة غامضة بين دال مادي وبين ما يستحضره من قيم غائبة أو دلالات بعيدة، وسنتعامل معه استنادا إلى موقعه عند البلاغيين، فقد عدَّه ابن رشيق من الإلغاز، وجعله من باب الإشارة، وهو باب مستقل عنده إلى جانب الإلغاز والتعمية واللحن والتورية (4). كما اعتبره السجلماسي نوعا من الإشارة وعده من ألوان التعمية إلى جانب اللحن والتورية والحذف (5)، وجعله السكاكي قسما من أقسام الكناية، حيث قسمها إلى تعريض وتلويح ورمز وإيحاء وإشارة (6)، وكل هذه الأقسام البلاغية تستبطن سمات الغموض والإخفاء والتعمية، مع اختلافات عرَضية في المسافة الدلالية وبُعد المرمى وحجم الوسائط بين المعنى الحرفي والمعنى المكنى عنه، أو الحصيلة التي يطاردها التأويل.
وعلى هذا الأساس، فنحن نُقحِم سمة الترميز في سياق بلاغي رحب وعام، يضم كل هذه التلاوين البلاغية التي ساهمت في إكساب الرواية سمة الباطنية التي أبرزناها في محور سابق، إذ تقصدت، من بين ما تقصدت، حفظ الأسرار من خلال التعبير عن المفاهيم والتصورات بواسطة الرمز، نظرا لما يتسم به من طابع السر المقدس الذي هو روح الباطنية.
وقد سبق أن بيّنَّا، في محور سابق، أن النص تشكل في معترك بلاغتين هما؛ بلاغة الكناية وبلاغة التورية (7)، وتجلت التورية بوصفها منهج بناء، والكناية بوصفها منهج دلالة، وبينهما صنوف بلاغية أخرى من قبيل الإلغاز واللحن والتلويح والإشارة والتعريض وغيرها، بوصفها وسائل للتكثيف الدلالي، حيث تنهار معالم المادة، أي المكونات السردية وعلاقاتها الطبيعية وفق منطق السرد، لتقوم على أنقاضها علاقات جديدة محكومة بالرؤيا الذاتية للكاتب.
وأكاد أجزم بأن جميع مكونات رواية «رباط المتنبي» تحمل دلالات رمزية، على اعتبار أنها رواية الشخصية الواحدة والمرايا المتعددة، فكل الأشياء لا وجود لها إلا في حلم البطل الراوي أو هلوساته أو جنونه أو فورة وعيه ولا وعيه، مما يجعل كل العناصر السردية الأخرى ترميزات تبلور الرؤيا والتصورات وحتى الرغبات لدى البطل السارد. كما أن الرواية انبثقت عن خيال وقراءة خاصة للتاريخ، في بنية سردية تبدو غير منطقية بالنظر إلى تجاور الأزمنة وتداخل الشخصيات وتحولاتها الخيميائية، ولم يكن من مبرر لنقص المنطق سوى الترميز، فلم يكن ممكنا، مثلا، قبول حلول المتنبي في هذا الزمن إلا كرمز، بل وربما كقناع لتمرير أفكار وتصورات. وقد سبق أن أبرزنا أن اسم «المتنبي» جسد تورية، إذ دل على الشاعر كمعنى قريب، وعلى البطل الراوي كمعنى بعيد وعميق، كما لامسنا صور التماثل والتناظر والمقابلة بينهما في ثنايا المنعطفات السردية وتناميها الدرامي ومقصدياتها السياقية، وتبين لنا أن الراوي استقطر كل السمات الإيجابية من المتنبي الشاعر واكتسبها بالمرآة، وألصق به سمات أخرى هجينة، واستحضره كطرف في معادلة تناظرية ومبارزة حول الأحقية بصفة «التَّنبِّي» وبأشياء أخرى، وبينما كانت صورة الشاعر تتهاوى كانت صورة البطل تتسامى.
وقد تبلورت الصورة المتسامية للبطل من خلال ترميزات بعضها قريب المأتى والتأويل وبعضها غائر وعميق، منها احتكاكه بالشيخ الخلوفي واغترافه من روحانيته وتصوفه، والتطهر بالماء، والدخول في تجربة الجنون كحالة من التسامي وامتلاك الحقيقة وطرق سبل الخلاص والسفر الأثيري ومحادثة الأموات، إلى جانب سمة الغنوص التي تجلت من خلال ربط الراوي الأخلاق بالنفس والعقل، وكذا من خلال الحديث عن الكشف والمشاهدة والرؤية بالبصيرة والعقل وغيرها من مظاهر الفلسفة الإشراقية، إذ يقول في أحد سياقات بوحه: «انقدحت ذبالة من ذهني أرى بها في عتمة الطقوس وظلمة النصوص». (8)
وارتقت صورة البطل لتلامس مفهوم «النبي المسلح»، من خلال تكرار وتأكيد اعتقاده بالفكر والفعل في أكثر من مناسبة سياقية، على خلاف المتنبي وقومه، إذ يقول عنه البطل: «ولكنه لم يبرأ من أدواء بني جلدته، القول الفخم والغزو والسبي، وأنا أشمئز من كل ذلك وأنفر. أنكر خطابا بلا عمل وقولا بلا فعل...». (9)
على أن صورته تصل إلى درجة القداسة من خلال بعض العبارات التي ترد في السياق ورودا خفيفا بلا حوافر تثير القارئ، لكنها تكتنز دلالات وأبعادا عميقة تعزز سمة التسامي، من ذلك قول البطل الراوي في سياق حكيه عن حزنه وانزوائه في بيته بعد اختفاء قرينته «بشرى»:
«جثوت بعدها، جثم علي الحزن. فراق بعد ألفة، وألفة بعد مودة، وهجر بعد وصل.
قمت إثرها وأنا أرتجف من البرد. اشتملت ببرنوسي من وبر الإبل. تمددت على السرير». (10)
إن التصوير هنا روائي بما تحمله الكلمة من معنى، قائم على التدرج، يحاكي حركة المشاعر، ويبلور حجم الغصة، بجمل قصيرة متدفقة بوداعة دون روابط، ما جعل التصوير بانوراميا. غير أن ثمة جملة مدسوسة قد لا ينتبه إليها القارئ في غمرة قراءة عادية، وهي جملة: «اشتملت ببرنوسي من وبر الإبل»، فالحديث عن الملابس لا يكتسب قيمة وظيفية في السرد إلا إذا كان مقصودا لإشارة أو ترميز، والذي اشتهر بوبر الإبل هو القديس يوحنا المعمدان، فقد ورد في إنجيل متى أنه «كان لباسه من وبر الإبل، وعلى حقويه منطقة من جلد، وكان طعامه جرادا وعسلا بريّا» (11). من هنا يتبين أن تلك الإشارة لم تكن من قبيل الترف السردي، إنما أومأت إلى حالة من القداسة لدى البطل الراوي، شايعها في سياقات عديدة بالإشارة إلى طعامه الزاهد، منها قوله: «شربة وجبنة وزبادي مع تمر، هو عشائي. ظللت وفيا لجذوري الصحراوية». (12)
وقد رأى البعض أن لباس يوحنا كان مناسبا لدعوته الإصلاحية ضد الشر، كما أن نظامه الغذائي كان ضروريا للقوة العقلية والبصيرة الروحية اللازمة لفهم وممارسة بعض الحقائق(13)، ولعل استلهام البطل الراوي لتلك السمات والإشارات فيه نوع من التلويح بأنه يتقصد نفس الأدوار.
ويرتقي البطل الراوي، سرديا، بسماته ليشارف منزلة المخَلِّص، في صورة إيمائية تتحدث عن المتنبي ونيتشه، فقد أشار العقاد إلى التشابه بينهما، ورصد حامد طاهر فلسفة القوة بين المتنبي ونيتشه (14)، غير أن الراوي في «رباط المتنبي» له رأي آخر، إذ يقول في سياق بوحه للدكتورة عن أن المتنبي طلب منه أن يأخذه إلى نيتشه: «... أما أن يحل المتنبي عند نيتشه فأمر عسير (...)، عالم الإنسان المتحرر الذي لا يدين بوجوده لأحد، عالم يأتم بالعقل والحرية»(15)، حيث تبرز هذه الصورة المتنبي قاصرا عن مستوى الإنسان الأسمى، وقد عبر الراوي عن خيبة أمله فيه، إذ يقول بهذا الخصوص: «كنت أظنه نيتشه عربيا، يحقق الإنسان الأسمى...». (16)
وفي ذلك انحدار بصورة المتنبي، إذ يجرده من سمة التسامي، في مقابل الارتقاء بالذات وإكمال الرحلة إلى عالم نيتشه، حين هرب المجانين وعددهم سبعة، والتقطوا عشر صور أرسلتها الممرضة «جميلة» إلى الماجور مع سبع رسائل، وكل هذه الشيفرات تحتاج إلى تفكيك.
إن الرقم عشرة، وهو عدد الصور، لم يوضع عبثا، والتركيز على عدد الصور كان ظاهرا من خلال أرقامها الترتيبية، والرقم عشرة يحمل كل التغيرات الجديدة للحياة مع عامل الحظ، يحمل طاقات القيادة والتفاؤل والاستقلال والنجاح، وهو رمز الحب والحياة؛ إيزيس وأوزيريس (17)، وكل هذه السمات والترميزات باحت بها الصور من خلال مظاهر الفرح والثقة والحب التي بلورتها.
كما أن الرقم سبعة، وهو عدد المجانين، يربط العالم المادي بالعالم الروحي، يرتبط بيوم السبت، وهو في تقديرنا يوم هروب المجانين، طالما أن الراوي يقول إن الخميس كان عطلة والجمعة قنطرة، بما يستدعي الاحتمال بأن الهروب كان يوم السبت. والسبعة هو مجموع أربعة وثلاثة؛ أربع نساء وثلاثة رجال، وهو الطيف الممتد الذي يأخذه التاو الكامن للتعبير عن العناصر الأربعة والعودة للكمون من جديد (18)، وقد عبر الراوي عن دلالة العودة والكمون بما ورد في الرسالة الثالثة: «... سنستجم مرحليا قبل العودة والانغمار في المجتمع». (19)
ونحن إذا تأملنا علامات رحلة المجانين، نجد أنها تحاكي قول نيتشه: «جمال المتفوق زارني كالطيف في الجزر السعيدة، إنه المخلص الموعود، إنه المتفوق الذي يقر أن البشر غير متساوين ولا ينبغي أن يتساووا»(20).
فالرحلة كانت إلى جزيرة، وعدد المجانين سبعة، هو عدد ألوان الطيف، وجميلة (من الجمال) هي من أرسلت الصور والرسائل السبع إلى الماجور، ولا يبقى إلا الاستخلاص بأن الصورة ترمز إلى شق طريق الخلاص، وأن المخلص الموعود هو المتنبي (الأستاذ)، أي البطل السارد، زعيم المجانين. كما أن فكرة التفوق التي وردت في قول نيتشه مطروحة بقوة في الرواية، من خلال دفاع الراوي عن عقليته الآرية وذهنيته الهندسية، وكذا من خلال التشهير بالعرب على امتداد الرواية، بل إن صفة «المتنبي» في حد ذاتها فيها دلالة التفوق، بالنظر إلى أنها في جانب من جوانبها المعجمية مشتقة من «النَّبْوة»، أي المكان المرتفع من الأرض، والفعل «نَبَا» بلا همز(21). والمتنبي بهذا المعنى هو المرتفع أو المتفوق، ولعل انتزاع الراوي هذه الصفة من الشاعر وإسنادها لذاته، كما أبرزنا في محور سابق، فيه تكريس وتمرير لفكرة أنه المتفوق.
هكذا بنى البطل الراوي صورته السردية على حساب المتنبي (الشاعر)، وتدرجت علاقته به من المماثلة إلى التناظر إلى المقابلة، وهي مفاهيم بلاغية جسدتها الرواية سرديا وحكائيا، وتقمص فيها المتنبي وظيفة كنائية ممتدة، حيث ورد كناية عن قوم وتاريخ، مثلما تقمص فيها البطل وظيفة كنائية ممتدة كذلك، إذ ورد كناية عن عرق وجغرافيا. وأصر الراوي على أن يبرز المتنبي كضيف يحتاج إلى الرعاية، إذ نقرأ في سياق حوار مع محجوبة:
«... هو يشكو الهجر وقد جفاه أهله، ويلزمني حسن الرعاية به. ردت بسذاجة:
– ما فهمت ش أسيدي، أنت كاع اللي مقطع به لحبل ترفدو. يمشي عند أهلو. كل شاة كتعلق من كراعها».(22)
واضح هنا أن الحوار يحاول أن يكرس فكرة أن المتنبي طرأ كضيف، وأنه خان أصول الضيافة، يقول الراوي: «عدت إلى بيتي بعد طواف وأنا أحمل ذبالة الأنوار، ولم يكن المتنبي يسكنه فحسب، بل تسلل في غفلة مني ليسكن قلب ليلي والأدهى جسد ليلي. مؤلم أن يخونك من ائتمنته على بيتك». (23)
يبدو أن الكلام هنا سردي، لكن الصدى تاريخي، وكأن الكاتب يعيد كتابة التاريخ من منظوره وتصوره، ووظف المتنبي رمزا وكناية عن قومه، ويتعزز هذا الصدى التاريخي في صور أخرى تبدو عامة وبعيدة، إلا أنها تندغم في إطار الصورة الكلية وتخدم أغراضا سياقية تصب في مسألة كتابة التاريخ بشكل رمزي، منها صورة وردت في سياق حديث البطل عن أحوال بني يعرب، وعن بيت شعري للأخطل يهجو فيه الأنصار، يُعقّب عليه الراوي بقوله: «ومن اللئيم بالله عليك؟ من آوى ونصر، أو من أُوِيَ ونُصِر، وانقلب بعد ذلك؟». (24)
رغم أن الصورة وردت في سياق يوهم بالموضوعية من خلال الحديث عن شيء من الماضي، إلا أنها مقصودة للتشهير، وتجسد كناية عن حالة محددة ومقصودة، هي حالة المغرب، خصوصا بعد أن ظهر المتنبي يتحدث بالدارجة المغربية (25)، وهو أمر ليس اعتباطيا، إنما قُصد به تخصيص الحالة، أتبعه الراوي بتعويم المتنبي، إذ وزعه في مدن المغرب، يبيع السجائر بالتقسيط، ويبيع الخضر والفواكه، ويشتغل ميكانيكيا... (26).
هكذا بدت صورة المتنبي كعربي طارئ، نزل ضيفا ثم استحكم على الأمر، وقد جعله الراوي سبب المأساة، إذ يقول في أحد سياقات البوح تحت الحقن: «دكتورة، المتنبي هو سبب المأساة أو جزء منها».(27)
على أن الصورة التي رسمها الكاتب، سرديا، عن المتنبي لا تكتمل إلا بفك رموز أخرى على رأسها «بشرى» و«ليلي»، وهما رمزان شخصيان، أي أنهما من وضع الكاتب وتفكيره، وهذا ما يميز الرمزية الحديثة، إذ تكون شخصية واعتباطية تمثل أفكارا في ذهن الكاتب، على عكس الرمزية التقليدية المتسمة بمنطق وتحديد ومواضعات معينة، وهذا يمثل مصدر صعوبة تحليل بنية الترميز في الغالب، ينضاف إلى ذلك حدة التعمية التي رامها الكاتب في هذا النص، إذ أحاط مقصدياته بكثير من الإلغاز والإخفاء المقصودين. والتعمية والغموض، كما قال إبراهيم عبد الفتاح رمضان، قد يكونان «غرضا أساسا في التعبير لغرض حفظ الأسرار وعدم إفشائها، وتقوم التورية هنا بدور كبير»(28).
ومع ذلك يستطيع القارئ أن يتعقب السمات النصية والهفوات السردية والتلميحات الخاطفة أحيانا ليرصد دلالة الرموز من خلال سماتها وتداخلاتها مع باقي المكونات الحكائي، وبالنسبة إلى بشرى، نجد أن الراوي وصفها بقرينة، يقول في سياق سرد استضافته للمتنبي: «وجدت رسالة من قرينتي بشرى بالفرنسية، مع صورة من شاطئ دار بوعزة». (29)
ولعل صفة «قرينة» فيها احتمالات تورية، حيث تدل على الزوجة، كما قد تدل على مثيل أو ندّ، أو على روح تلبست الإنسان، وتدل كذلك على نوع من التواطؤ في مزاج أو ذوق. وكل هذه المعاني الإيحائية محتملة في سياق هذه الرواية ونتوءاتها الدلالية الباطنية والصوفية، مما أكسب بشرى بعدا روحانيا يتعمق في قول الراوي: «أنا مدين لها في هذا الولع الذي يسكنني بتراث الأندلس، ولكن من قدح تلك الشرارة غير الشيخ الخلوفي؟ وما بشرى إلا روح الخلوفي سكنتها». (30)
واضح أن هذه الصورة ترتقي بسمات بشرى للدلالة على أكثر من مجرد امرأة، إذ تتقمص دلالات روحية بالنظر إلى روحانية الشيخ الخلوفي وأن بشرى هي روحه. وتتعقد سمات هذه الشخصية أكثر حين نقرأ صورة وردت في سياق استرجاع البطل لذكرى اعتكافه في زاوية الشيخ إذ يقول: «بشرى هي التربة التي احتضنت غرس الأندلس. الخلوفي هو من غرس البذرة ووضعها في حشاشتي، بشرى أنا من صغتها وليست هي من صاغتني، أو على الأصح أنا من بعث فيها تراث الأندلس». (31)
إن هذه الصورة تقذفنا بقوة في زوبعة من التعمية، إذ تقفز فيها اللغة من مستوى دلالي إلى آخر، وتنسج أحجية تبدو فيها بشرى تربة، وهي التي احتضنت الغرس، والخلوفي هو من غرس البذرة، ثم يقول الراوي إنه من صاغها. هذه المتاهة اللغوية تؤكد أن بشرى أكثر من مجرد امرأة، وأنها فكرة محنطة ترتبط بالأندلس وترمز إليها. يتعزز هذا الافتراض المبدئي حين تظهر ممتدةً في التاريخ، في سياق سرد البطل الراوي زيارته للأندلس، يحكي عن سيدة عجوز قال إنها تشبه بشرى وتتلبس روحها: «دلفت إلى المرأة في خشوع وقبلت يدها، لم تسحبها. استكانت للأمر كما لو أنها كانت تنتظر أن أفعل. افتر ثغرها عن ابتسامة حبور ورضى. كنت أقبل الفكرة.. تقبيلي ليدها آصرة، بل عروة وثقى. قبلت فكرة سكنت امرأة». (32)
هذا التعويم لبشرى ومدها في التاريخ واستنساخها في صورة امرأة مسنة، يؤكد أنها ليست امرأة بل هي فكرة تلقفها الراوي في هيأة ذكرى، وأحاطها بكثير من السرية والإخفاء، وعبر عنها بتلاوين المعاياة والمحاجاة. وبهذه السمات يكون البطل الراوي اتخذها كمعادل رمزي للأندلس، وأبرزها كحالة ونموذج يُحتذى، وذكرى ينبغي الإنصات إليها، بل وإحياؤها وتحويلها إلى فكرة، لكن هي بالتأكيد ليست أية أندلس، بل الأندلس التي يتصورها السارد إذ يقول:
«الأندلس ليست لأبناء طائفة يوظفون ميراثا، بل نتاج لأرض، لأرض تفاعل فيها أقوام من أعراق مختلفة، وعقائد متباينة. أنا امتداد للأندلس مثلما هي امتداد لي، أنا من بعث فيها الحياة. وأنا من أنقذها، وأنا من احتضنها.. لدي تصور للأندلس قد لا يطابق ما تواتر عند الناس». (33)
يبدو في ظاهر الصورة أن الكاتب يطرح تعاقدات جديدة حول الأندلس، تقوم على التعايش والتجاور والتشارك في إرثها، لكنها تحمل كذلك عمقا حجاجيا، من خلال تجاور النفي والإضراب، هو حجاج في وجه الذين يصدرون عن ارتباطات أسرية من الأندلس، يواجههم فيه بأنه أحق بتراثها بحكم أنه من بعث فيها الحياة وأنقذها واحتضنها، وهي إشارات تاريخية يسهل التقاطها، تشير إلى طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين وأرض المغرب. وبذلك يحاول الراوي إثبات أحقيته ببشرى بما هي رمز للأندلس الفكرة. وهذا المعنى يعد ضلعا جوهريا في مقصديات الرواية، وقد تناوله الراوي في مناسبات سياقية عديدة يصعب التطرق لجميعها.
هكذا شكلت الأندلس موضوعا لمناظرة تاريخية حول الأحقية بتراثها، في توازِ وتداخل مع حكاية المتنبي والبطل الراوي حول الأحقية ببشرى، مما يوحي بأن الأخيرة تضطلع بدور رمزي وتمثيلي في الرواية، إذ ترمز إلى حضرة الأندلس، وتمثل فكرة نمت فيها وصارت ذكرى.
إن شدة التماهي بين بشرى والأندلس، تجرنا إلى التخمين بأن اسم «بشرى» لم يختره الكاتب اعتباطا، وإنما كان مدروسا ومخططا برؤية هندسية ومرجعية جغرافية، فلم يكن ليختار اسم علم عربيا خالصا، خصوصا في ظل حدة التشهير بالمتنبي والعرب وإقصائهم من كل مشهد إيجابي في النص. لذلك، وارتباطا بمؤشرات نصية من قبيل البيازين، وذكرى الأموات، وأنَّة الموريسكي، والجماع المعلن بين الراوي وقرينته، وغير ذلك مما ورد في سياقات الحكاية، يمكن القول؛ إن اسم هذه الشخصية ليس «بشْرى» بتسكين الشين، بل هو «بُشَرى» بفتح الشين، وقد استخلصه الكاتب من كلمة «البُشَرات»، وهي منطقة جبلية معروفة بالأندلس، تحمل دلالات تاريخية وإنسانية وثورية، مما يجعل هذه الشخصية رمزا لحالة خاصة، يتمثلها الراوي كفكرة نمت في الأندلس وحملها كذكرى يريد أن يبعث فيها الروح، لكن في مكان آخر، ومن خلال شخصية أخرى هي «ليلي».
قد يعتقد القارئ أن ليلي هي بشرى نفسها، وأن ما ورد في القسم الثاني من الرواية مجرد تكرار لما سبق سرده في القسم الأول، إلا أن الأمر ليس كذلك، حيث إن ليلي تجسد حالة مستقلة، يرى الكاتب أنها مشابهة لحالة بشرى، ومررها الراوي في إطار من التحول السيميائي، والرابط بينهما هو المتنبي الذي قدمه التصوير الروائي على انه يسطو على ما ليس له.
لقد سبق أن وقفنا في محورين سابقين على بعض مظاهر التحول، وقلنا إن النص خضع لجدلية الثابت والمتحول، حيث ظلت بعض العناصر ثابتة واستمرت، سرديا، إلى نهاية الحكاية، منها البطل السارد، والمتنبي، وروبيرتو وفابيوس وغيرهم، وكلهم يمثلون رموزا تاريخية، وفي المقابل نجد بعض المكونات تحولت، فبشرى تحولت إلى ليلي، وهما رمزان جغرافيان، وخولة عواد تحولت إلى منى فنيش، وهما تجسدان إيديولوجيتين مختلفتين، كما تحول مستشفى الرازي إلى مصحة بوسيجور، وهما يشيران إن منظومتين متمايزتين. وهذا التحول لم يكن زائدة سردية بالنسبة إلى الراوي، بل هو تشكيل رمزي أريد به استيعاب دلالات باطنية والتعبير عن حمولة شعورية وإعادة كتابة التاريخ بطريقته وتمريره حسب تصوره، في شكل سردي وفي حصة استشفائية مفارِقة، إذ عوض أن يعالج الطبيب المريض، فقد حول الراوي هذه الجدلية بأن جعل المريض يقوم بالعلاج من خلال بوحه، بدليل أنه أثر في الطبيبة وخاضت معه مغامرة هروب المجانين.
إن من يعتقد بأن ليلي هي بشرى نفسها، يجانب الحقيقة السردية، ونحن إذا ما دققنا في سمات الشخصيتين، نجد أن بشرى وَسَمَها البطل الراوي بالقرينة، والقرينة صفة عامة لا تعني بالضرورة الزوجة، في المقابل فإن ليلي حظيت بألقاب القرينة والزوجة والحليلة، من ذلك قول البطل في سياقات بوحه: «كل ما أعرفه هو أن المتنبي أخذ مني حليلتي»(34)، وكذلك قوله: «لم تعد ليلي مخلصة لي، أفهم أن تنأى عن ذكرى روبيرتو وقد انفصلت عنه، وأما أنا زوجها، من عاش معها لأحقاب. فلِمَ ترتبط بعلاقة جانبية؟.. ومع المتنبي؟ جرثومة العروبة...».(35)
تستبطن هذه الصورة السردية دلالات ورموزا ومقصديات، تبدو فيها ليلي أقرب إلى البطل وأكثر حميمية من بشرى، حيث إن هذه الأخيرة مجرد قرينة، والاقتران يجسد فقط نوعا من التواطؤ، أما ليلي فزوجة ممتدة عبر أحقاب، وهكذا تبوح العبارة برمزية تاريخية ممتدة للبطل، طالما أنه يتحدث عن أحقاب، وأما روبيرتو فمجرد عابر سبيل زمني اقترن بليلي من غير زواج ثم انفصل عنها وصار ذكرى، حسب ما ورد في الصورة، بما تحمله الكلمة من دلالة تاريخية تتصل بفترة رومانية. وبذلك جعل الراوي ليلي أكثر شرعية وأقرب إليه من بشرى.
من جانب آخر، فإن بشرى حسب الحكاية، لم تمت، بل صارت خارج التغطية، هي والمتنبي والعرب، إذ نقرأ في سياق حديث البطل الراوي عن اختفاء بشرى: «بشرى، المتنبي، العرب، كلهم خارج التغطية»(36)، وهي عبارة تشير إلى سقوط الأندلس من باب اللحن بما هو «تعريض بالشيء من غير تصريح أو الكناية عنه بغيره»(37)، شأنه في ذلك شأن اللحن في كلمة «الاقتران» التي فيها تعريض بمعنى الاستعمار.
في المقابل، فإن ليلي ماتت، قتلها المتنبي، والبطل يتمسك بأمل بعثها، إذ يقول في أحد سياقات بوحه: «عودي سيرتك الأولى، لا تنسي صلتنا اللاتينية وتراثنا الروماني وجذوره الإغريقية»(38). ولعل أمل العودة إلى السيرة الأولى، والحديث عن الصلة اللاتينية والتراث الروماني، إضافة إلى الارتباط لأحقاب بين البطل وليلي، يجعلها أكثر من مجرد امرأة، حيث ترمز إلى حمولة جغرافية متفاعلة مع عناصر تاريخية وعرقية. ولعل غياب أي أثر عربي في هذه الصورة ينطوي على دلالة الإقصاء والإخراج من المعادلة، وقد سبق للراوي أن دافع عن الآرية وعن ارتباط العرق الأمازيغي بالعقلية الإغريقية، وقدم تصوره حول هذا الأمر، مما يقحم معنى الصورة أعلاه في معترك حجاجي ومناظرة حول الأحقية بليلي التي يبدو أنها تضطلع بوظيفة رمزية ودور تمثيلي.
إننا إذا تأملنا كلمة «ليلي» نجد أن لها علاقة اشتقاقية باسم «أُليلي»، وهو الاسم الأمازيغي لمدينة «وليلي» الأثرية، التي تحمل أثر الرومان. وبذلك نفترض أن الكاتب أخضع الاسم لتشكيل ذهني واستخلص منه رمزا شخصيا قائما على الخيال والترويض الذهني، على غرار صناعة الرمز عند الرومانسيين، فقد «أرجع كولردج إنتاج الرمز إلى الخيال، فهو القوة التي تذيب المادة لخلقها من جديد، أما الوهم فهو أساس الاستعارة والمجاز، لأنه طريق من طرق التذكر الذي يجد مادته حسب قانون التداعي».(39)
إن اسم «أُليلي» تمثله الراوي في هيأة كُنية أمازيغية يمكن ترجمتها بـِ «بنت ليلي»، على اعتبار أن «أُ» بالأمازيغية تعني «بن أو بنت»، وطالما أن المدينة ابنة بلدها، يمكن القول إن «بنت ليلي أي أُليلي» تعني «بنت المغرب»، وباختزال كلمة «بنت» يتبين أن ليلي هي المغرب
يتعزز هذا التخريج بالنظر إلى أن البطل الراوي تحفظ في مناسبة سردية سابقة على تسمية المغرب، حيث نقرأ في سياق تواصل البطل مع قرينته عبر البريد الإلكتروني عقب حلول المتنبي عنده: «أريد أن أصوغ أملا ها هنا، فيما تواتر على تسميته بالمغرب...».(40)
ما من شك في أن الإطناب في عبارة «ما تواتر على تسميته» ليس عبثيا، بل له وظيفة دلالية، إذ يشير إلى نوع من التبرم من الاسم وما بعده من الأسماء التي تدل على شمال إفريقيا، لتترجح فرضية أن «ليلي» تجسد الأرض وترمز إليها.
هكذا تشكَّل الإطار العام للصورة الكلية في رواية «رباط المتنبي»، وهي صورة قوامها الترميز المكثف والامتداد، لا تحاكي حادثة أو حكاية فحسب، بل تحاور التاريخ وتحاول إعادة كتابته بشكل سردي مُداوِر، متشابك ومحكوم برؤية باطنية ومشفوع برسالة من نوع ما يستشعرها القارئ. مثلت فيه بشرى حضرة الأندلس وجسدتها كذكرى، ومثلت فيه ليلي حضرة المغرب كمجال لتحويل الذكرى إلى فكرة، وظهر فيها البطل، ببعده الأمازيغي، كصاحب حق في كل من بشرى وليلي، إذ صور نفسه أولى بتراث الأندلس، من خلال بشرى، وأولى بإرث وجغرافية ليلي ، بينما المتنبي تم استحضاره ببعده التاريخي ورمزيته القومية وكنايته عن العرب، وتم تصويره بوصفه مجرد ظاهرة صوتية، وأنه يسطو على ما ليس له، وأنه سبب المأساة التي حلت ببشرى وليلي والبطل السارد وغيرهم، كما تم وصفه في صورة سردية، وقفنا عليها سابقا، بـِ «جرثومة العروبة»، والتركيب فيه إضافة إلى مصدر، هذا ما يجعل الأمر يتجاوز المتنبي كشخص إلى اسم معنى ينفتح بمطلقيته على قوم وانتماء.
وبهذه المحددات، فإن الصورة الروائية في النص ليست تزيينية، بل هي من نمط الصور الوظيفية التي تنتج رموزا ممتدة(41)، تعززت بترميزات أخرى شكلت إكسسوارات ضرورية لاكتمال العالم الروائي والدفع بدينامية الحكاية وتوترها السردي، فروبيرتو، بالنظر إلى اسمه والسمات التي ميزت شخصيته نصيّاً، يرمز إلى التاريخ الروماني في كل من الأندلس والمغرب، وفابيوس أو سامي يجسد إرثا تاريخيا وحضاريا معدنه غربي أو آريّ، بمفهوم الآرية كما بسطه الراوي في الرواية، ويرمز كذلك إلى مرجعية فكرية وشعورية قائمة على الثالوث الأفلوطيني، حيث نقرأ في سياق حديث البطل عن علاقة روبيرتو وليلي: «... وحينما كف الحب بين ليلي وروبيرتو افترقا... أثمر اقترانهما ولدا، فابيوس أو سامي.. إسم مركب. فابيوس أو سامي هو في نحو من الأنحاء ابني... زهرة هذه الحياة...».(42)
قد يعتقد القارئ أننا أما اسمين مفصولين بأداة التخيير، غير أنه في الواقع اسم واحد مركب، وقد صرح الكاتب بذلك بعفوية مزعومة، وبذلك فإن «أو» التي تفصل بين الاسمين تستحق القراءة بضم الهمزة وليس بفتحها، إذ يتجاوز الاسم معترك التخيير إلى التركيب، و «أُو» في الأمازيغية تعني «بن»، ويصير الاسم المركب «فابيوس بن سامي». وبالنظر إلى اسم فابيوس، فإن أصوله نوبيّة، وهو يتضمن جزأين؛ «فاب» يعني الأب أو الروح، و «يو» يعني الأم أو المادة (43)، أما «سامي» فارتبط، سياقيا بدلالات العقل. وبذلك يستبطن الاسم، كاملا، دلالات الثالوث: المادة والروح والعقل، وهي الأعمدة الدلالية التي ترومها مقصدية النص ورسالته الباطنية، خصوصا وأن الراوي وصفه بـِ «زهرة الحياة» التي تحيل على هندسة مقدسة سرية سنستجليها في محور آخر.
واضح إذن، أن الأسماء لم توضع عبثا أو اعتباطا، بل شكلت ترميزات وخضعت لتشكيلات ذهنية لتكون متلائمة مع الدلالة ومشاركة في إنتاجها، وهذا ملمح غنوصي، حيث إن الغنوصيين يزعمون أن للحروف والأرقام أسرارا (44)، وقد سبق أن أبرزنا أن الغنوص سمة تكوينية لشخصية البطل السارد، وها هي تتدعم بالاستثمار العرفاني للأسماء ودلالاتها وأبعادها، كما أن الراوي أشار في أحد سياقات النص بأن الحروف لها معان لا يدركها «بنو يعرب».
وعلى نفس منهج الترميز تحضر شخصية «خولة عواد»، حيث تشير إلى شيء مخوَّل مع إيحاءات بالصهوة في كلمة «عوّاد»، بما توحي به من سمات السلطة، وقد اقترنت خولة بالحلم، حيث إن الراوي وصفها أكثر من مرة بحلم، وحين نبحث عن استعمالات أخرى لكلمة «حلم» في النص، نجد أنها دلت على السلطة، حيث نقرأ في سياق تفاعل البطل مع قصيدة شعب بوان وكشفه هموم المتنبي: «وتبدد حلمه في منصب مع كافور»(45)، ليتبين أن الحلم يدل على السلطة، وأن خولة وصفت على امتداد النص بالحلم، ما يشير إلى أنها ترمز إلى السلطة، وقد كانت هذه الشخصية ميالة إلى المتنبي وإغرائه، وانعكس ذلك على البطل إذ أحس نفسه مجرد صدى أمام المتنبي الذي يجسد الصوت.
وفي المقابل فإن «منى فنيش» يحمل اسمها دلالة الأمل والشيء المرغوب فيه، من خلال كلمة «منى»، وفي الآن نفسه يحيل على دلالات التمرد والرفض، بالنظر إلى أن اسم «فنيش» له علاقة اشتقاقية بِـ: «الفنيشية»، وهي حركة إيديولوجية سياسية واجتماعية واقتصادية(46)، وقد بلورت الدكتورة «منى فنيش» هذا المنحى الدلالي في الرواية، إذ جسدت معاني التمرد، حيث هيأت هروب المجانين، وانخرطت معهم، وظهرت في علاقة غرامية مع البطل.
وتضمن النص كذلك ترميزات تناصية عديدة، من خلال الحديث عن كتب وأفكار وتواريخ وأحداث وأسماء أعلام تاريخية مختلفة المشارب والمجالات، وشكلت كلها لبنات دلالية محايثة للصورة الكلية للرواية ومكملة لرؤيا الكاتب للعالم والوجود ومبلورة لمشاعره. من هذه الرموز الحاكم بأمر الله، وقد أوهم الراوي القارئ ببعض الإسقاط استثمره لإلهائه بالتفكير في دلالة مباشرة، غير أن الاسم ينخرط في إيحاء عميق لا يكتمل إلا برمز تاريخي آخر ورد بشكل خاطف في ثنايا المحكي، يتمثل في مصطفى كمال أتاتورك، حيث نقرأ في سياق حوار بين بشرى والبطل الراوي أثناء زيارتهما لتركيا:
«- لِمَ لمْ ينبعث منا مصطفى كمال؟
– لأنه تجلي لانكسار. كاد العقد أن ينفرط، وهو من جمع نثار العقد». (47)
إن سياق الحوار كاملا يظهر فيه البطل مترددا بين تمثال بديع الزمن النورسي وتمثال مصطفى كمال، ولعل الميل إلى هذا الأخير يرمز إلى ميله لمشروع سياسي، ذاك الذي أنجزه أتاتورك، غير أن الجمع بينه وبين الحاكم بأمر الله فيه تلويح بمشاعر ونوايا، خصوصا وأنهما يلتقيان عند رمزية عددية جبرية باطنية رهيبة، قد يطول الكشف عنها وتبريرها بمقومات التصوير الذهني.
ويكاد يكون القاسم المشترك بين عناصر الترميز في النص، بمختلف مظاهرها البلاغية، هو ثيمة البعث، أو الرغبة في البعث، وقد سبق أن وقفنا على صور وإشارات عديدة تروم هذا المنحى الدلالي الرمزي، أبرزها غرس البذرة التي ترمز إلى البعث، وكذا بعث ذكرى الأندلس وتحويلها إلى فكرة، والأمل في بعث ليلي، وغير ذلك. بيد أن في الرواية صورا تنطوي على تناقض، منها قول البطل في أحد سياقات بوحه: «أريد أن أبعث روح قرطبة»(48)، حيث إن الراوي تحدث في سياق سابق حديثا تشهيريا وسلبيا جدا عن عبد الرحمان الناصر والحكم وحاشيتهما(49)، وختم ذلك بقوله: «هل تستحق هذه الأندلس كل هذا الحنين؟».(50)
إن وجه التناقض يتجلى في أن عبد الرحمان الناصر والحكم من خلفاء قرطبة، ويحكي التاريخ عن أن في فترتيهما عرفت قرطبة ازدهارا، والراوي إذ يتحدث بسوء عنهما وعن حاشيتيهما، ويتحدث عن الخلاعة والسائس والخيانات، يبرر أن أندلسهم لا تستحق الحنين، وفي المقابل يعبر عن رغبته في بعث روح قرطبة. وهنا يطرح السؤال نفسه: ما روح قرطبة التي يريد البطل بعثها؟ هنا تكمن الرسالة الخفية التي تحملها الرواية، إذا تمكنا من تحديد المقصود بهذه الروح نستطيع بالتأكيد قراءة الرسالة، ويكفي أن نقرأ الأحداث التاريخية بتمعن، خصوصا تلك المرتبطة بتاريخ قرطبة في عهد عبد الرحمان الناصر، لنستخلص المقصود بروح قرطبة.
الأكيد أن تصور الراوي للأندلس يختلف عن تصورنا، كما صرح في صورة سابقة، إنها بالنسبة إليه ليست الفردوس المفقود، إذ لا يبدي أي أسف لفقدانها حين يقول: «والقيمون عليها حاليا يحسنون التعبير عنها أحسن مما صنعه أسلافنا»(51). إنها بالنسبة إليه شيء آخر، حالة يتناولها بمنطق القياس، ويقاربها بتصور مضمر وسري، ويتخذها نموذجا ينبغي الاقتداء به. وفي ثنايا الرواية نستشعر، من خلال نبرة الراوي وبعض مظاهر التناقض في الحديث عنها، أنه تحدث عن أندلسين؛ أندلس تستحق الحنين وإحياء ذكراها، وأخرى لا تستحق الحنين، ما جعلها لغزا فيه كثير من التعريض، والتعريض كما ورد في علوم البلاغة «نوع لطيف من الكناية، يطلق فيه الكلام مُسارا إلى معنى آخر يفهم من السياق أو المقام الذي يُتحدَّث فيه».(52)
وهذا ما هو حاصل مع الأندلس في هذه الرواية، وقد كشف عنه التناقض في الصور السردية أعلاه، حيث بدا أن الراوي يتحدث عن الأندلس كما هي في التصور العام، لكن السياق يتجه إلى معنى آخر، ليس صعبا على القارئ الفطن أن يستلهم باطنيته ويتحسس بعده الثوري.
هكذا إذن شكل الترميز سمة مهيمنة في رواية «رباط المتنبي»، وساهم، إلى جانب سمات أخرى في بناء الدلالة وإخفائها، من قبيل سمة الخيمياء والغنوص والروحانية والارتداد السردي وغيرها من السمات، وتميزت الرموز التي استثمرها الكاتب وبناها بكونها من الموجود والتاريخي، وانبثقت في سياق أشبه بالحلم والتداعي، وجاءت بلغة شديدة التكثيف الدلالي، إذ تنتقل العلامات اللغوية من مستوى دلالي إلى آخر. وبذلك تقمص الرمز في الرواية كل الأبعاد المميزة له، يقول نور الدين محمد أفاية «ربما أمكننا تقسيم الرمز إلى ثلاثة أبعاد: الكوني، فهو يستمد بعض أشكاله من العالم المرئي. وهو حلمي، أي أنه متجذر في الحركات والذكريات المنبعثة من الأحلام. وهو شاعري بمعنى أنه يستدعي اللغة في تعبيراتها المتدفقة».(53)
إن شدة الترميز التي ميزت النص، أكسبته طبقتين سرديتين؛ طبقة سطحية ظاهرية استدعت المتنبي للعيش في زماننا، وتلقفها القارئ كما لو أن الأمر يتعلق بتاريخ يعيد نفسه، وحاول البعض، بناء على ذلك، أن يلصق بها صفة الرواية التاريخية. وطبقة عميقة باطنية كشفت أن النص يتضمن رسالة ويحمل مشروعا. ومع أننا قد نختلف مع مضامين المحكي وحمولته الشعورية، إلا أن ذلك لا يمنع من الإقرار بجودة البناء السردي وتجاوب مفاصله وانسجام خيوطه، رغم حدة تشابكها وتداخلها وتنافرها أحيانا. هده الحبكة المتناهية التحكم، تدعونا إلى تلمس سمة أخرى في محور لاحق سيكون الأخير، يتعلق الأمر بسمة «هندسة».
الهوامش:
محمد أنقار، بناء الصورة في الرواية الاستعمارية- صورة المغرب في الرواية الإسبانية، مكتبة الإدريسي- تطوان، ط1- 1994، ص: 14.
عن محمد أنقار، سابق، ص: 35.
عن: محمد الحمامصي، إلا رمزا: قراءة في الرمز والترميز في الثقافة العربية. .middel-east-online.com
ابن رشيق القيرواني، العمدة، ج 1، تحقيق: النبوي عبد الواحد شعلان، مكتبة الخانجي- القاهرة، ص: 187.
أبو محمد القاسم السجلماسي، المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، تحقيق علال الغازي، مكتبة المعارف، 1980- الرباط، ص: 268.
السكاكي، مفتاح العلوم، ضبط وتعليق: نعيم زرزور، دار الكتب العلمية- بيروت، ص: 411.
البشير البقالي، رواية رباط المتنبي بين سمات الروائية وملامح الباطنية، ديوان العرب.
حسن أوريد، رباط المتنبي، المركز الثقافي العربي، ط 1- 2019، ص: 235.
نفسه، ص: 221.
نفسه، ص: 128.
إنجيل متّى، إصحاح 3.
رباط المتنبي، سابق، ص: 142.
لماذا ارتدى يوحنا المعمدان ملابس من وبر الإبل؟، biblask .org.
د. حامد طاهر، فلسفة القوة بين المتنبي ونيتشه، 14 يونيو 2014، hamedtaher.com.
رباط المتنبي، سابق، ص: 222.
نفسه، ص: 213.
د. قيصر زحكا، رمزية الأرقام في الحياة النفسية، موقع معابر.
أنظر: رمزية الأرقام في الحياة النفسية والعصبية، سابق.
رباط المتنبي، سابق، ص: 344.
عن: أحمد ريس، الوجه الآخر للحرية والديمقراطية في فكر فلالسفة الغرب، منشورات الهيأة العامة السورية للكتاب، 2017، ص: 140.
محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مختار الصحاح، مكتبة لبنان، ص: 644.
رباط المتنبي، ص: 31.
نفسه، ص: 265.
نفسه، ص: 235.
نفسه، ص: 159.
نفسه، ص: 324.
نفسه، ص: 212.
إبراهيم عبد الفتاح، الغموض الفني في البلاغة العربية، دار الكتاب الثقافي، 2018، ص: 39.
رباظ المتنبي، ص: 28.
نفسه، ص: 62.
نفسه، ص:63.
نفسه، ص: 154.
نفسه، ص: 115.
نفسه، ص: 253.
نفسه، ص: 274.
نفسه، ص: 141.
ابن وهب، البرهان في وجوه البيان، تقديم وتحقيق: د. حنفي محمد شرف، مكتبة الشباب، ص: 109.
رباط المتنبي، ص: 275.
سي. دي. لويس، الصورة الشعرية، ترجمة أحمد نصيف الجنابي، مالك ميري وسلمان إبراهيم، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، دار الرشيد، بغداد-1982، ص: 17.
رباط المتنبي، ص: 28.
حدد محمد أنقار وظائف عديدة للصورة الروائية، منها وظيفة إنتاج الرمز. أنظر: بناء الصورة في الرواية الاستعمارية- صورة المغرب في الرواية الإسبانية، سابق، ص: 35- 36.
رباط المتنبي، ص: 253.
عمرو محمد عباس، تأملات نوبية (1) الميثولوجية النوبية، sudanile.com، 19 يناير 2015.
أحمج دعدوش، الغنوصية والباطنية، al-saeel.net.
رباط المتنبي، ص:45.
أنظر :ويكيبيديا.
رباط المتنبي، ص: 149.
نفسه، ص: 270.
أنظر: رباط المتنبي، ص: 152- 153.
رباط المتنبي، ص: 153.
نفسه، ص: 116.
د. محمد أحمد القاسم وذ. محيي الدين ديب، علوم البلاغة (البديع والبيان والمعاني)، المؤسسة المدمجة للكتاب، طرابلس- لبنان 2003، ص: 248.
محمد نور الدين أفاية، المتخيل والتواصل: مفارقات العرب والغرب، دار المنتخب العربي، ص: 25.