الخميس ٢٣ أيار (مايو) ٢٠١٩

بين الأشغال الشاقة المؤكدة.. والأفكار الشاقة المؤبدة!

عرفه عبده على

بيرم التونسى، الثائر الساخر.. فنان الشعب الذى لم يستجد يوماً بفنه، أدرك قيمة الإنسان، ووظيفة الفن، انحاز لقضايا وطنه وأبناء الشعب المقهورين، وكشف زيف المواقف والزعامات، ارتبط بعامة الناس وعاش معاركهم ضد الاحتلال الإنجليزى والسلطة وحتى: المجلس البلدى!

تربع بيرم على عرش مملكة الشعر الشعبى باعمالة الخالده، وقدر له أن يعيش طفولته المضنية فى مسقط رأسه الإسكندرية بين حواريها وأزقتها، بين الكتاب والدكان، ومسجد ابو العباس و البوصيرى، و بيته المـطل على المينا الشرقية وذاق مرارة الجوع والتشرد، محروماً من العطف والحنان!

كان جده مصطفى بيرم تونسياً نزح إلى مصر واتخذ من الاسكندرية مستقراً ومقاماً وتزوج من احدى بناتها بعد أن أصبح تاجر أقمشة،لفت ذكاء بيرم والده الحاج محمد مصطفى فألحقه بكتاب الشيخ جادالله بحى السيالة، وسرعان ما كره الكتاب والشيخ بسبب قسوته، وطلب من أبيه أن يعمل معه فى تجارته ليسير على دربه، ولكن الوالد يأبى إلا أن يسير ولده فى درب المعرفة ليكون عالماً فقيها فألحقه بالمعهد الأزهرى بمسجد ابى العباس المرسى وكان من المفترض أن يسلك سبيل التعليم الدينى إلى نهايته لكن وفاة والده، وهو فى الرابعة عشر، اضطرته للإنقطاع عن المعهد، وتنكر له بنو عمومته فخرج مـن تجارة أبيه صفر اليدين، وضاقت به سبل الرزق وحاصرة الفقر وواجه الحياة وحيداً، ولكنه كان يشعر فى قرارة نفسه انه يملك موهبة لم يكشف عنها بعد.. كان شغوفاً بقراءة كتب التراث ودواوين الشعر والصحف والمجلات وعرف فى صدر شبابه قيمة القلم وقدر شرف الكلمة، وكانت البداية قصيدته الشهيرة ضد المجلس البلدى الذى كان يسيطر عليه الأجانب فى الإسكندرية فألهب بها ظهور السادة، كما ألهب بها مشاعر الناس الذين راحو يرددونها فى كل مكان وكان لها صدى بعيد، وأنشدتها مختلف الفئات والطبقات وكتبها الخطاطون فى لوحات علقت فى الأماكن العامة وكانت بداية الشهرة فى عالم الفن الأدبى قال فيها:

قد أوقع القلب فى الأشجان والكمد
هوى حبيب يسمى "المجلس البلدى"
أمشى وأكتم أنفاسى مخافة أن
يعدها عامل للمجلس البلدى
إذا الرغيف اتى، فالنصف آكله
والنصف أتركه للمجلس البلدى
كأن أمى بل الله تربتها.:. أ
وصت فقالت: أخوك المجلس البلدى

أصدر بيرم التونسى مجلة المسلة فى الرابع من مايو 1919 أثناء عنفوان الثورة المصرية، فكانت صوتاً جريئاً ضد الإحتلال، ويتألق بيرم وتضيق بآفاقه الإسكندرية، واجتذبته القاهرة كما إجتذبت سيد درويش وواصل حملته ضد الإحتلال وعملائه فى العدد الثانى الذى حمل عنواناً ظريفاً: المسلة لا جريدة ولامجلة.. وكانت الحماية الفرنسية لجده امتيازاً حماه من بطش الحكومة، بعد مصادرة اعدادها، فأصدر الخازوق وكان مصيرها نفس مصير المسلة! ونجحت الحكومة بالاتفاق مع القنصلية الفرنسية فى اصدار أمر بنفيه عن مصر في ليلة عيد الأضحى،هاجمت قوة من البوليس مسكنه فى درب الطواشى المتفرع من شارع عبدالعزيز وينفى إلى تونس، ويشرع قلمه دفاعاً عن حقوق الشعب التونسى ويشتد حنينه إلى مصر التى دخلها متسللاً بعد عامين، ولكن سرعان ما يقبض عليه ويرحل إلى فرنسا ليعيش أياماً قاسية وتقلب فى أعمال شاقة: حمال، عامل فى مصنع للحديد والصلب، عامل فى مصنع بسكويت ثم فى مصنع للخمور ثم شيالاً فى مكتبة هاشيت كبرى دور النشر فى باريس! وصهرته التجارب فأبدع قصائد خالدة عبرت عن حنينه الطاغى إلى مصر، متابعاً الأحداث فيها بقلبه ووجدانه، لم يستطيعوا أن يسكتوا صوت الفنان، بل إنهم زودوه بأسباب شخصية للسخط والثورة وواظب على إرسال ابداعه إلى مجلات: النيل والشباب والفنون وغيرها،لقد أبعدوه عن مصر لكن صوته عبر البحر واخترق الحدود ووجد سبيله إلى قلوب ومشاعر المصريين.

ورحلات النفى والتشرد والآلام التى عاشها بيرم ما بين باريس وتونس ثم دمشق واللاذقية استغرقت نحو عشرين عاماً، حافلة بالتفاصيل من آلام الغربة وتجارب الحياه، حتى صدر الأمر بنفيه من اللاذقية إلى مارسيليا، وتمر السفينة بميناء بورسعيد فى صيف عام 1938 فيتسلل مرة أخرى إلى وطنه الحبيب وتتغاضى السلطات والملك عن وجوده!

وأنشد عقب هروبه من السفينة:
فى بـورســعيد السفيـنة
رســيت تـفــرغ وتمــلأ
والبيــاعـيـن حـوطـونا
بكارت بوستال وعـمله
لكــن بوليـس المديـنـة
ما تزغش من جنبه نمله
يا بورسعيد والله حسره
ولسـه يــا اسـكندريــة
هتف بى هاتف وقال لى
إنزل، ومـن غير عزومه
إنزل، دى ساعة تجلـى
فيها الشياطين فـى نومه
إنــزل دا ربـــك تمــلـى
فوقك وفـوق الحكومة!

ولعلنا نلاحظ أنه خلال رحلة النفى الطويلة التى عاناها بيرم لم يحكم عليه بالسجن ولكن حكم عليه بما هو أفظع: النفى من مصر معشوقته! وبسببها ووسط الأشغال الشاقة المؤكدة لم ينس: مهنة الأفكار الشاقة المؤبدة! فكتب أروع أشعارة فى الحنين إلى مصر!

وكان من تقاليد صحيفة الأهرام نشر قصائد أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وخليل مطران فى الصفحة الأولى لمكانتهم وكانة الفصحى، وكانت قصيدة بيرم بعد عودته من المنفى، هى الإستثناء الوحيد بالعامية، فنشرت فى الصفحة الأولى!

فى حى السيدة زينب الشعبى العريق، استقر بيرم التونسى فى 2 شارع النواوى، بالقرب من ميدان زينهم والمدبح، فى هذا البيت كان يلتقى أحبائه وأصدقائه: يحيى حقى، ومصطفى حمام وعبدالحميد الديب وكامل الشناوى وفؤاد حداد وصلاح جاهين وغيرهم من أعلام الأدب والشعر والصحافة وأهل الحتة من أولاد البلد! وفيه عايش الطبقة الشعبية التى كانت ودائماً محور فكره وإبداعه، مما أسهم فى إثراء عبقريته وعطائه الفنى، رصد مظاهر الحياة بكل تفصيلاتها، وعـادات النـاس وتقاليدهم الموروثة فى الزواج وشوار العروس على عربات الكارو، المعازيم والصباحية، الموالد ومواكب دراويش الصوفية، الولادة، وزيارة المقابر والخمسان، المحمل، صوم رمضان، الأعياد، زفة المطاهر، الزار والكودية، الأحجبة والنذور والحسد، الإعتقاد فى الأولياء والجن والعفاريت، الذوق الشعبى فى الأطعمة والمشروبات والملابس والأثاث، المقاهى والحانات وروادها، الكتاتيب والمدارس، الحمير وعربات سوارس وأفاض فى الحديث عن النسوان و بنت البلد، الخاطبة، الماشطة، الدلالة، البياعة، زوجة التاجر والجزار والسجان، التلميذة، الفلاحة، الثرية والفقيرة ومقارنات بين المرأة المصرية والمرأة الأوروبية, كل ذلك فى إطار من الفن الساخر والنقد اللاذع الرائع لكافة المتناقضات الإجتماعية فى روح مصرية ومزاج شعبى:

أربع عساكر جبابرة يفتحوا برلين..
ساحبين بتاعة حلاوه جايه من شربين
شايله على كتفها عيل، عينيه وارمين
والصاج على مخها يرقص شمال ويمين
ايه الحكاية يا بيه؟ جال: خالفت الجوانين!

لقد كان بيرم التونسى فناناً عبقرياً وانى لأتسائل لماذا اختفت العبقريات فى حاضر مصر؟!
لماذا خلت الساحة من القامات الشامخة فى جميع المجالات،لماذا أقفرت أرض الفراعنة الجميلة من آلهة الفن والجمال والذوق الراقى والابداع الحقيقى شعراً وقصة ورواية وغناء وسينما ومسرح وفنون تشكيلية، لماذا تبدو مصر وكأنها لم تغن بالامس وهى التى كانت دفاقة دائماً بالحياة والخير والعطاء والعبقريات؟!

عرفه عبده على

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى