الخميس ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم رندة زريق صباغ

بين تشرين و أيار

ها هو تشرين الأول يلملم ما تبقّى له من أيام ليغادرنا فاتحا المجال لأخيه تشرين الثاني.

ها هو تشرين الثقيل على نفوسنا وقلوبنا يحل ضيفا أكثر ثقلا وحزنا هذا العام، فوالدي قد رحل في أيار القريب تاركا أثرا طيبا من جهة، وحملا ثقيلا من جهة ثانية، ليصل تشرين المجزرة وذكرى تهجير عيلبون بغياب الوالد طيّب الذكر فضل نعيم زريق للمرة الأولى في حياة العائلة حياة القرية وللمرة الأولى دو ن أن أدوّن أحداث قيّمة من خابية ذاكرة والدي التي صارعَت الزمان والمكان، صارعَت المرض والتعب حفاظاً على تاريخ قاسٍ حمّلني أمانة تدوينه ونشره للعالم أجمع فأحكي للعالم أحكي له، أشكي دون أن أبكي... وهو وعد قطعته على نفسي كي لا أضعف فأنهزم.

حلّ تشرين النكبة هذا العام ليعلّمني ويلقّنني درسا قاسيا مفاده أن الموت ليس أعظم المصائب، فالموت حق على كل من ولد على هذه الأرض، أما المصائب بشرية الابتكار والصنع فإنها كما الخنجر في القلب يجرحك فلا يميتك تاركا إيّاك تنزف حبا، قلقا وأسى لا ينسى مهما حاولنا أن ننساه..

ها هو تشرين يمتحن حبي للطبيعة... تظهر لي فجأة وقفة الطيور على الأغصان العارية المتمايلة بثبات حتى بعد أن خلعت الأشجار أوراقها، تنفتح أمامي اّفاق شاسعة...عوالم جديدة وفضاءات سماوية مذهلة ومخيفة في اّن.

أتراني قادرة على اكتشاف أغواره؟

وإن ملكت المقدرة على الاكتشاف فهل أمتلك الجرأة على الافصاح عمّا اكتشفت!؟

أمستعدة أنا لدفع الثمن؟ ثمن معرفتي للحقيقة!؟

أمستعدة أنا لتقبل حقيقة لخصها بيت الشعر التالي:-

"رأيت النّاس قد مالوا
إلى من عنده مالُ
ومن ليس عنده مالُ
فعنه النّاس قد مالوا"

ها هو تشرين المجزرة يمتَحنُني من جديد محوّلا إيّايّ لشجرة تكتفي بذاتها في مغالبة الرياح العاتية منها والمدمرة، مدرك هو أنني أصيلة عميقة الجذور، منتصبة القامة ومرفوعة الرأس بشمم؛ وفخر بتربية أمي وأبي على الصدق والمصداقية، على المحبة والتضحية، على الوئام والولاء لأسرتي وأفرادها كبيرا وصغيرا برجاء أن أساهم في تقويم اعوجاج أحد فروعها واجتثاث كل ما لا يليق بوالدتي الطيّبة وذكرى والدي المعطرة بالحبق والياسمين والزعتر.

أحاول سرا وعلانية الحفاظ على الغوالي في شدتهم على حساب وقتي وجهدي، مستنفذةً كل طاقاتي, خبرتي معرفتي، حناني ومشاعري الطيبة لهذا الهدف النبيل ولن أتركهم كريشة في مهب الرّيح، مدركةً بداخلي (أن لا ذنب للريح إن كان أحبابك من ورق...)

ها هو تشرين الخريف يظهر زيف أشجار ضعيفة مهزوزة سرعان ما اصفرت أوراقها وتساقطت أمام أول موجة ريح لتنكشف أغصانها فتظهر دواخلها واضحة للعيان، فلا أوراق تسترها ولا ثمار تستعيض بها عن تقصير أو نوايا خبيثة تخفيها، إنه خريف تشريني بتميز قادر هو على إظهار عظمة الأشجار دائمة الخضرة المعطاءة دون حدود وهكذا فإنه يكرّمني كشجرة لا يزول اخضرارها ومحبة عطائها طوال العام، فتساهم على الأقل براحة للناظر ونقاء للطبيعة.

يصفعني تشرين لأفهم (أنك لا تحصد ما زرعته يداك فقط، وإنما ما زرع أسلافك من قبلك وقد تحصد زرعا لوثه الحاقدون من حولك في غفلة منك).

أدرك تماماً ما ربّاني عليه والدي من ضرورة اكتراثي بمن حولي من الطيبين والأحباب خوفا من تربّص الخبثاء بي وبهم فيكيدون لنا الشر والمشاكل، فأسعى لأدثرهم بعباءة أوراق شجرتي اليانعة المليئة بالمحبة والاهتمام ، يصدمني الواقع ... (قرشك وذراعك) هما ما يضمن لك الأمن والأمان فقط، أما عقلك وفكرك الناضج لا مكان له في سوق النخاسة، وطبعا لا وقت لقلبك النابض رقيا وأصالة.

ها هو تشرين المجزرة والتهجير يزيل تهمة الكيد عن بعض النساء (إنّ كيدهن لعظيم) ليؤكد أن كيدهم هو الاّخر عظيم وأكثر خطورة خاصة حين يتغذّى من كيدهن، فأدرك أنّ من كانت بلا كيد أكلها الكائدون والكائدات ضعاف النفوس.

مجتمع يتبارى أفراده مَن منهم أكثر كذبا ونفاقاً، مجتمع يرتكب أفراده الخطأ تلو الاّخر ويرميه واضعا اللوم على غيره، لن تقوم له قائمة ولن ينصلح حاله، سيمشي إلى الخلف حتى يندثر. فمن لا يعترف بذنبه ويهرب من مواجهة نفسه وغيره إنّما يؤكد ضعفه وكذبه، انطلاقا من الأمثال (الشمس ما بتتخبى بغربال) ، (بذوب الثلج وببان المرج) ، (اللي ما بشوف من الغربال بكون أعمى)... وغيرها.

جذوري راسخة عميقاً في أرض الوطن ورحم والدتي التي تمدّني بالهواء والماء، بالغذاء وحتى الدواء، لست بحاجة للمرائين والمخادعين وطبعا لست بحاجة للمنتفعين الانتهازيين، قادرة على تمييز المصطادين بالماء العكر ولن أسمح لأي سخيف منهم بجرّي للماء الملوّث ، فنقاء نفسي لا ولن تشوبه شائبة.

تشرين المجزرة القذرة بحق أبناء عيلبون والتي لم يحاسب عليها المجرمون بدت لي يوما أبشع الجرائم، ليثبت لي هذا الشهر أن هناك جرائم أخطر بحق الإنسانية على الصعيد الفردي والمجتمعي لا تدخل أصلاً ضمن لوائح القانون، تلك التي لخّصها الشاعر بقوله:-

(إنّما الأمم الأخلاق ما بقيت
إن ذهبت اخلاقهم ذهبوا)

" كلما تقدم العمر وتراكضت السنون نحو الامام.... كلما بات الماضي اقرب منك واليك".

فهل حياتنا كروية هي الاخرى كما الكرة الارضية؟!

نعم إنها كذلك، وإنّ الدنيا دوّارة يوم لك ويوم عليك، يوم عسل ويوم بصل...

فاحذر أيها الإنسان وتذكّر قول السّيّد المسيح عليه السلام

(ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه).

وأما أنا التي لم ولن أساوم يوماً على نفسي ومبادئي وكنت ساطعة كالشمس يكفيني فخرا كل ما حققته ووصلت إليه ويكفيني أميرات ثلاث بمنتهى الروعة، وأم بمنتهى الرقي والعظمة، وأب غادر الحياة بمحبة واحترام جعلني أشعر أنني صغيرة جدا أمام حشود المعزّين، وأمام هذا الحب الغامر من المتقاطرين من أقصى البلاد وأدناها، لأدرك فعلا أنه لا يمكن أن يستوي اللذين لا يعلمون باللذين يعلمون رغم كل المحاولات.

إنّه الوقت المناسب لغربلة وتنخيل ذاكرتي احتفاظا بالجميل ، أمّا الثقيل فأتناساه لأنساه بعد حين رغم إدراكي أنّ الأسى ما بِنتَسى وأنّ ظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة من جهة وأنّ وجع وحزن ذوي القربة يذيبني حزناً وشوقاً إليهم.

تشرين قرين أيّار الذي زرع بداخلي محبة أكبر لنفسي ولإسمي الذي أضفَيت عليه معنى وأضَفت له ثقلاً وزخماً، شمماً وكبرياء لأزينَ كلَّ ما حولي بزهر الرّند ورائحة الريحان والأرجوان.

هذا الاسم وقد اختاره أبي وملأ مسمّاه بالثقافة والفكر الناقد الوضّاء... لي
هذا الاسم وقد طرّزته أمي بماء الذهب ومسك الروح كما عنبر القلب... لي

وقد تكون أغلى هدية تلقيتها من أستاذي حين خطّ بقلمه على كتابي:-

"إلى رندة وفقط، فذكر أيّة صفة بعد الاسم تحدّد وتخصّص فتُفقدُ المسمّى كثيراً من صفاته".

هذا الاسم والمسمى سيبقى عاليا ومثمراً كشجرة نخيل باسقة.

الراء:- رفعة و رؤيا راقية.
النون:- نباهة ونباغة نقية.
الدال:- دفاع دافئ.
التاء:- تاج تقوى على رؤوس الأحباب سليمي النفوس.
كان اسمي رندة وصار اسمي رندة.

وقد اتضّحت الرؤيا لدي تماماً بفضل قساوة تشرين الأول وها أنا ذا أتخذ قراري وامضي قدماً لأحيا وأعيش كما لم أفعل من قبل مستمرة بنثر ورود المحبة، بذور الثقافة وشذا الأخلاق أينما حللت مع ضرورة الحفاظ على كرامتي وكرامة أفراد أسرتي أولاً وأخيراً ، والأهم أنني سأظل على وعد وعهد أبي بأن أكون تعويضه عن نكبة واستشهاد والده على يد الصهاينة.
ها هي الرؤيا تتضح لي كاملة واضحة في حين يتذبذب البعض متخبطين مذعورين من

خيالاتهم مختبئين خلف أصابعهم الملوثة غير مصدقين أنني على حالي مهما حدث، لن تغيّرني الرّيح ولا عمق البحر ولا محاولات المغرضين... (واثق الخطوة ومنتصب القامة تمشي ملكا).

ها هو تشرين الأول يغادرني مشكوراً وقد حمّلني وزراً جديداً ، أعد روح والدي، وأعد أمي كما أخوتي، زوجي وبناتي رغم قساوته التي أكدت أن (الضربة اللي ما بتقتلك بتقويك) ويا جبل ما تهزك ريح وأنّ الجبل الحقيقي لن يتمخّض لينجب فأراً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى