الخميس ٢٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم رندة زريق صباغ

سلامات وتداعيات من برلين

ليست المرة الأولى التي تحل فيها ذكرى مجزرة عيلبون خلال تواجدي خارج البلاد، هذا العام أتواجد في برلين لزيارة ابنتي الغالية رجاء، تلك الصبية التي منحت برلين رونقاً خاصاً ومميزاً من الرقي المهذب، من الوطنية المثقفة، من الانسانية الحقيقية كما من الأخلاقيات والمبادىء الواعية، إنها وجاء مثار فخر عائلتنا منذ طفولتها حيث تميزت بكل الصفات الحميدة والتعامل الدمث مع الجميع، رجاء التي تميزت ولا تزال في عدة مجالات ونواحٍ من الحياة.

برلين تلك العاصمة التي ترقى لمستوى دولة صغيرة تبهرني كل مرة من جديد بهذه الضخامة وبهذا الكم الهائل من التعددية الموجودة فيها، تذكرني بنيويورك وتذكرني بدبي، ترى وتقابل فيها اناساً من مل أصقاع الأرض وقل ما ترى أشخاصاً ألمانيين، وإن قابلتهم تنتبه مباشرة لقساوة ملامحهم واستيائهم من وجود الغرباء الذين صبغوا المدينة بأنماط تصرف ونهج حياة غريبة مختلفة تماماً، في برلين تجد مطاعم تقدم اك أشهى الأطباق من مطابخ العالم أجمع، لكن قلّ أن تجد مطعماً ألمانياً يقدم مأكولات المطبخ الألماني، إن وجدت فتكتفي بما يقدمون من شنيتسل مع البطاطا والملفوف المهروس، تحد أيضاً شرائح الخنزير المقدّدة أو المشوية بطريقة تجعلها شهية بالفعل تتناولها مع كوب من الجعة الألمانية الفاخرة، بعدها سوف تزور المطاعم الآسيوية على أشكالها المنتشرة بكثرة، كذلك المطاعم الإيطالية والقليل من المطاعم الأمريكية، ستجد العديد من مطاعم الشوارما ولحم بعجين والبرك وغيرها من المأكولات التركية.

أما إن رغبت بتناول وجبة عربية فعليك بذلك الشارع الكبير الذي يطلق عليه اسم شارع العرب، وما أدراك ما هو شارع العرب في برلين!!! ⁃ منذ اللحظة الأولى التي تدخل فيها هذه المنطقة تنسى أنك في برلين وفي أوروبا عموماً، فشارع كهذا موجود فقط في عمان، رام الله، نابلس، جنين، دمشق، في بغداد مثلاً، في المثلث الفلسطيني، القاهرة وربما بيروت. ⁃ في هذا الشارع الطويل تجد كل ما تشتهيه نفسك من مأكولات عربية، ليس فقط على صعيد المطاعم المنتشرة تنبعث منها روائح ما لذّ وطاب من مشاوي لبنانية، سورية وعراقية سرعان ما تبدأ بتمييز نوعيتها من الرائحة، مطاعم الفلافل مع الحمص والفول التي تذكرك ببلدتك، مطاعم الكبة النيّة اللبنانية بأنواعها وعلى أصولها، مطاعم الكبب المقلية والمشوية المسقسقة بالدهن كما يصفها السوريون، ما أن تتذوقها مزينة بدبس الرمان حتى ترتسم ابتسامة فرح على ثغرك، تجد هنا مطاعم الشوارما والقليل من مطاعم السمك، ولا تنسى مطاعم الفروج المشوى بصلصة ونكهة لن تنساها، أما عن محلات الحلويات السورية فحدث بلا حرج عن هذا التنسيق الجميل وهذه الطعمات السحرية، المدلوقة وحلاوة الجبن هنا ليست كما تعرفها، للقشطة الشامية معنى ومذاق آخر تحول كل ما تلمسه إلى طعم من طعمات الجنة، هنا مثلا تجد بقلاوة بقشطة، وربات بقشطة، معمول سميد بقشطة، تجد أيضا هريسة بقشطة، كما لو أن هذا المنتج الأبيض يسحر بطعمه كل الحلويات، ناهيك طبعا عن الحلويات العربية على أنواعها وأشكالها محشوة ومزينة بالمكسرات الفخمة اللذيذة التي تجعلك تحتار مما تختار خاصة أنت مريض السكر، قد تتناسى أحياناً أنك ممنوع عن هذه الروائع وتردد في أحيانٍ أخرى مقطعاً من أغنية فارس كرم "يلعن أبو السكري".

 دكاكين الخضار والفواكه تعج بكل نوع من خضار هذا الموسم أو ذاك، الخيار البلدي المستورد من الأردن يذكرك بأبي قاسم بائع الخضار المتجول في مسلسل صح النوم "أصابيع البوبو يا خيار"، باذنجان بلدي المكبوس والمكدوس، كما للمحاشي مع الكوسى البلدية. ملوخية خضرة بأغصانها، كل ما تحتاجه لتحضير أطيب صحن تبولة تزينه أوراق الخس البلدي، فول ولوز أخضر طازج، ورق دوالي ، الخبيزة والعلت تتربع بسطة دكان الخضار، أما باقات الزعتر الأخضر اليانعة تناديك رائحتها لتشم من خلالها عبق وطن ابتعدت عنه مسيّراً أو مخيّراً ، ففي برلين لكل امرءٍ قصة وحكاية. ترغب بتناول جبن الماعز أو البقر البلدي؟ موجود،،، تريد لبنة مكدرة؟ شنكليش؟ كشك؟ موجود أيضاً، زعتر بالسمسم والسماق؟ موجود، مخللات ومكابيس عربية على أنواعها؟ موجود أيضاً،،اشتقت للخبز العربي؟ ما عليك سوا أن تتحبّى وتتنقّى، خبز الصاج، الطابون، اللبناني، الخبز العراقي واليمني، المناقيش بشتى أنواع الحشوات المخبوز على التنور أمام ناظريك، أذنيك وأنفك من الزعتر، الجبنة، البصل، المحمرة وغيرها. ⁃ لن تجد في برلين منقرة كوسى أو ثقالة لطنجرة المحاشي إلا في شارع العرب،، لن تجد شرشف بلاستيك ملون بالفواكه أو الورود تغطي به الطاولة حفاظاً على خشبها كما تفعل أمك إلا في شارع العرب،،

⁃ لن تجد العديد من الاغراض يومية الاستعمال في برلين إلا في شارع العرب،،، لن تحد نفسك في برلين إلّا في شارع العرب، حين تجدها ستدرك بوعي إن كان شارع العرب هو مكانك أم لا، أم أنه مجرد مكان يؤكد أن الطعام هو أهم إهتمامات المجتمع العربي الذي تثبت أكثريته أنها تعيش لتأكل في حين تؤكد معظم المجتمعات الأخرى أنها تأكل لتعيش، لو أدركنا الفرق بين النمطين لربما سعى العرب بجدٍ أكثر نحو التغيير بهدف الأنتاج والإهتمام بالثقافة ورحابة الأفق.

⁃ ليست كل المدن قادرة على هذا التنوع غير المتجانس، قد تتساءل بينك وبين نفسك ما الهدف من جمع كل هذه الأقليات تحت سماء واحدة؟! إن بحثت عن الجواب سأجده لكنه لن يفيد ولن يسد حاجة، الأفضل حالياً على الأقل تجاهل هذه النقطة التي قد تتقاطع مع أهداف اسرائيل باحضار هذا الكم المتنوع من كل من قال أن جدته يهودية إلى البلاد، ربما التقاطع هنا عكسي لكنه موجود بكل الأحوال. ⁃ من خلال عمل ابنتي رجاء -وهي حاصلة على اللقب الثاني في حقوق الطفل من جامعة بوتسدام عملت مع اليونيسيف والامم المتحدة- تعرفت على مجموعة رائعة من النساء العربيات:- فلسطين، سوريا، تونس، المغرب، غزة، لبنان، جنوب لبنان، العراق، لفتني أنهن صاحبات هم وتخد يثقل كاهل كل منهن وهو عبء وقهر الحياة في بلادهن التي هاجروا منها الى ألمانيا بحثاً عن العدالة والكرامة، بحثاً عن عمل كامل الحقوق المهنية، الطبية والانسانية. اللافت هنا أنّ كلاً منهن حصلت على مبتغاها من الحكومة الالمانية كما أولادها وأحفاد بعضهن لكن -وهي طبيعة العربي على ما يبدو- لا حمداً ولا شكورا، بل على العكس تعليقات سلبية وكلمات غير لائقة رغم مل المعونات والمساعدات رغم مل الحقوق والكرامة الانسانية التي حصلن عليها.

⁃ أما الرجال العرب في برلين فليسوا أقل نكرانٍ لجميل أنقذهم من براثن حكوماتهم في الأوطان العربية من محيطها لخليجها، التذمر هو سمة حديث معظمهم، كأنهم قادمون من الجنة الى النار وليس العكس، يحصل معظمهم على رواتب وتأمينات صحية، أجرة سكن وغيرها من المستحقات من ما يسمى مركز التشغيل وهم قابعون في بيوتهم أو في قهاوي شارع العرب، بالمقابل فمعظمهم يعمل بالأسود دون ضريبة ودون معرفة الدولة، كما يقوم البعض بتأجير غرفة من البيت الذي حصل عليه من الدولة بالأسود طبعاً وهو أمر ممنوع طبعاُ، إن حدث وعلمت المؤسسة بذلك واضطر لدفع غرامة فإن الشتائم والملام غير اللائق ضد ألمانيا يبدأ ولا ينتهي، العربي تعود على فعل مل ما هو ممنوع ظنّاً منه أن تلك شطارة وفهلوة غير مكترث باحترام قوانين دولة قبلته لاجئاً أو مهاجراً. أبدع العرب فعلاً في برلين وربما في ألمانيا باستغلال كل الموارد، على سبيل المثال:- كل من يتم مسكه في وسيلة مواصلات دون تذكرة مدفوعة يغرّم 60 يورو، أقام الشباب العرب جمعية غير مسجلة يدفع من خلالها كل مشترك 10 يورو شهرياً، اذا تم مسك أحدهم بالجرم المشهود تدفع الجمعية مبلغ الغرامة عوضاً عن المخالِف. الأمثلة كثيرة لكن ليس الآن موضع ذكرها.

⁃ تلتقي في برلين بالسوريين اللاجئين والمهاجرين من كل الفئات، الطبقات، الأطياف والطوائف، تلتقي المؤيد، المعارض، الشبيح، المكوّع، تلتلقي بمن يؤمن بأن خافظ الأسد انتصر في حرب 1973 وبمن يعتقد العكس، بمن يسخر من مؤيدي الجولاني الذي حوّل سوريا لدولة إسلامية عنصرية قائلاً إن هذا الإرهابي أدخل تركيا وأمريكا إلى سوريا فيجيبه إخر: والأسد أدخل إيران وروسيا، فتثور ثائرة الاثنين وتعلو الأصوات وكل يلقي بدلو رأيه وتعليقاته دون إدراك أن هؤلاء الأربعة يتقاسمون أراضي وثروات سوريا براً وبحراً.

⁃ في برلين تلتقي شباباً ونساء من جنوب لبنان، هذا الجنوب الذي رغم كونه قطعة من جمال الجنة إلا أنه مثقل بدناء الشهداء، مثقل بالغارات والاحتلال، منكوب ببيوته المدمرة وعائلاته المشرّدة، في برلين تلتقي بمن يوضح لك الصورة بحذافيرها لتكتشف أن الجنوب اللبناني مقتطع من لبنان عليه قوانين وأنظمة مختلفة، أهل الجنوب فقط هم الذين يعانون في كل المراحل التاريخية في حين لا يشعر بهذا العبء سكان بيروت ومدن لبنانية أخرى، كان أن سمعت عن وقائع تشابه الخيال الكاذب من قسوتها. ⁃ لقصص العراقيين في برلين شجون وشجون حول بغداد والموصل، حول دجلة والفرات، حول دولة عريقة دمرها المارّون بين الكلمات محوًلين ومزوّرين التاريخ حسب أهوائهم.

⁃ باتت قصص الفلسطينيين في عن أوضاع أهلهم في الضفة عادية مقارنة بما يتحدث به وعنه الغزاويون اللاجئون والمهاجرون في برلين، للوجع في غزة طعم القهر والذل يتحدثون عنه والنار تحرق قلوبهم ونحن ننصت بقلوب موجوعة وروح خائفة لا نجد كلمات تخفف وطأة العذاب. ⁃ برلين الضخمة مليئة بأماكن تستحق الزيارة بينها أماكن أثرية والعديد من الكنائس والكاتدرائيات المقدسة بارعة الجمال، جولات قوارب في النهر تتخللها مناظر طبيعية تدهش الناظر خاصة في فصل الخريف حيث تتلون أوان أوراق الأشجار بالأصفر، البرتقالي، الاحمر، البني، الزهري وحتى القرمزي اضافة للأخضر والأخضر الشاحب، ألوان تعيد لك من خلال لوحة طبيعية ساحرة بعضاً من الطمأنينة كونك لا زلت قادراً رغم كل شيء على الشعور بهذا الفرح الصغير يدغدغ قلبك وروحك وتنفرج أساريرك.

⁃ أكثر ما أسعدني في هذه الزيارة وهي العاشرة لبرلين، هذا الكم الهائل من الاحترام الذي حظيت به من قبل كل من عرف/ عمل مع ابنتي رجاء، هذا التقدير اللافت لهذه الصبية التي جعلتهم يستقبلونني بالورود والهدايا، جعلتهم/ن يتسابقون في دعوتنا على ولائم غذاء أو عشاء كل في بيتها عربون محبة لها ولي كوني والدتها، شعرت بفخر كبير جرّاء هذا الكم من كلمات الثناء لوجود رجاء بينهم ومعهم/ن، فرحت من قلبي وحلقت روحي سعيدة، إن دلّ ذلك على شيء إنما على كون أولادنا هم إرثنا الأهم في الحياة وأن التربية السليمة هي عماد هذا الإرث.

⁃ تناقضات قابلة للتناغم في برلين لكنها لا تنجح بوقف تفكيرك في الوطن وفي ذكرى مجزرة عيلبون 30/20/1948، فها هو الأستاذ المحامى يتصل بي لتعيين موعد مناسب لزيارة متحف أمي وللحديث معها عن أحداث المجزرة والتهجير رفقة صديقه الأستاذ الكاتب سمير أبو الهيجا ابن قرية عين حوض الجميلة المهجرة، صاحب كتاب (لما امي تحكيلي) (روايات اجدادنا عن نكبة بلادنا)، يعيدني هذا الاتصال الى هناك استذكر أبي طفلاً عاشقاً لعيلبون عائداً إليها مع جدتي وأعمامي ليكتشف أن أباه نعيم أحد شهداء المجزرة.

⁃ كم هائل من المشاعر والأفكار المتناثرة تحوم في عقلي وقلبي نجحت المغنية المذهلة (ناي البرغوثي) في جمعها تحت سقف إحدى قاعات برلين في سهرة استثنائية امتلأت بجمهور عربي وألماني لنحظى جميعاً بساعتين من الفن الملتزم الراقي، ناي التي غنت وعزفت على الناي رافقها عازف القانون خليل وخوري وثلاثه عازفين أجانب على البيانو، الدرمز والقيثارة الكهربائية، لم تحتج ناي لأكثر من هذا العدد من العازفين كما لم ترافقها جوقة، بل كنا نحن الجمهور بمثابة جوقة لها، نغني معها ونردد اللازمة بكل انفعال وسرور، غنت فأطربت، عزفت فأبدعت، حولّت صوتها لآلة موسيقية وأذهلت، امسية حالمة عرضت الوطنية والانتماء بأحلى صورة، شنّفت آذاننا ونظّفت أسماعنا من تشوهات أغنيات هذه المرحلة، بين الرومانسي والوطني، التراثي والحديث، الفلسطيني والمصري، كما غنت من ألحانها أيضاً، لم تنس ناي البرغوثي أن تنتزع دموعنا خلال أغنية (لسّا بكير) المهداة لروح الطفلة الشهيدة هند رجب وسائر أطفال فلسطين الشهداء. أمتعتنا ناي البرغوثي بأمسية لا تُنسى حيث غنّت لكل ما لا ولن يُنسى، ذكرت خريجة أمريكا وتعيش في هولندا، تفاجأت أن لبلاد العم سام فضلاً على هذا الإبداع الوطني.

⁃ بكل الأحوال فإن برلين جمعت كل هذا الكم من البشر القادمين إليها من الهند والصين، من مصر وفلسطين، من سوريا ولبنان، من تونس والمغرب العربي، من دول أوروبية صغيرة، من أوكراني وغيرها، يجد كل قادم ضالّته في هذه المدينة التي سيتركها يوماً عائداً الى وطنه أو محلّقاً نحو مدينة/ دولة أقل صخباً مع تاريخ أصغر من تاريخ برلين التي تنظّم فيها حتى اليوم أكبر المظاهرات لنصرة الحق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى