السبت ٢٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم سلامة عودة

تحليل الخطاب وعبق الدلالة

خطاب يتجاوز النص، وخداع بصري

لا شكَّ في أنَّ اللفظةَ اللُّغويةَ حمولةُ دلالات، ومصدرٌ خصب للتأويل، فمن يتأمل نص بيت من الشعر ينظمه الشاعر ويقف عند دلالة الألفاظ في سياقها النصي وحقلها الخطابي يجد قدرات جديدة لهذا الشاعر الملهم للقارئ، بحيث يدفعه لسبر غور تلك الألفاظ وكيف وردت في سياقها النصي، وبالولوج في أبيات الشاعر الجاهلي امرئ القيس وتحليلها تحليلاً لسانياً يجد قدرات خارقة انطلق منها هذا الشاعر، إن امرأ القيس يقدمُ شعره من خلال خطاب قصائده وليس بالوقوف على قصيدة واحدة، وأحسبه يريد من القارئ أن يقرأ قصائده وحدة موضوعية وليست وحدة عضوية، فالأفكار الذي يبثها في جسم القصيدة يجعلها مفتوحة ويتمم موضوعها من خلال قصيدة أخرى ؛ ليقول لك إن ما انظمه في المعلقة يحتاج منك أيها القارئ أن تتغنى بالقصيدة الأخرى لتجد جواباً لنسجي وبناء معماري الفني ونسق قصيدتي.

ففي المعلقة التي مطلعها:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ · بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُول فَحَوْملِ

نجده وضع لنا بيتين من الشعر يقول فيهما:

وَقَدْ أغْتَدِي والطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا
بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأَوَابِدِ هَيْكَلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاً
كَجُلْمُوْدِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

وبالوقوف على تحليل الخطاب نجد الشاعر يقدم لنا نشاطاً رائعاً تجلى في أنه يسبق الطير في الاستيقاظ من نومه وركوبه حصانه، وقد استخدم مصطلح يدل على قوة هذا الحصان وسرعته عندما وظف تركيب (قيد الأوابد).

وقد كان يقصد امرؤ القيس بـ "قيد الأوابد" صفة لحصانه السريع جداً في صيد الوحوش البرية (الأوابد)، وأنه يدركها ويقيد حركتها لئلا تهرب، فيُشبّهه بـ "قيد" يمنعها من الفرار، ويُظهر براعة الشاعر في ابتكار التشبيهات الفريدة لوصف سرعة حصانه وقدرته على اصطياد الأوابد.

وهذا التفسير لسرعة حصانه يدفع القارئ للسؤال الآتي:

لماذا هذا النشاط في الصباح الباكر وقبل أن تخرج الطيور من وكناتها؟ وإلى أين وجهة هذا الشاعر؟

امرؤ القيس شاعر يعيش في بلاط الرفاهية الملكية، وهو ملك فما الذي يجعله يركب حصانه في هذا الوقت المبكر، وحقه أن يتنعم في حياته؟ إن المسؤولية الملقاة على كاهله تدفعه إلى ذلك، فهو ينهض مبكراً للبحث عن مرابع الكلأ ومصادر المياه لقومه، وهو يركب حصانه الذي يسابق الريح ويتغلب على الطيور كي يصل إلى تلك المرابع قبل أن يصلها أحد وتكون خالية من المضارب أو الأقوام الرحل، ولكن لم يكشف عن هذه الحقيقة في معلقته، وإنما تجد هذه الإجابة في قصيدة أخرى نظمها الشاعر، وكي تتناص القصيدة الثانية مع قصيدة المعلقة أعاد الشطر الأول من بيت المعلقة وأتممه بالسبب من وراء ذلك النشاط الصباحي، فنجده يقول في قصيدته الثانية التي تتم خطابه وتجيب عن النص الوارد في المعلقة؛ لئلا يظن القارئ أن هذا الشاعر قد غرق في ملذات وفراغ وملهيات، ولكنه يتسم بالجرأة ويتصف بالقوة ويخدم قومه؛ فطفق يقول:

ألا عِم صبـاحا أيها الطلل البالـي
وهل يعمن من كان في العصر الخالي

وفي هذه القصيدة يجيب عن السبب في خروجه سحراً قبل أن تستيقظ الطيور فيقول:

وقد أغتـدي والطيـر في وكناتـها
لغيـث من الوسـمي رائده خـال

وكما ترى أيها القارئ، إن الشاعر قد كشف لك عن السبب في هذا الخروج المبكر؛ ليقف على فصل الربيع أو الوسم الشتائي.

وكي تكتمل الحلقة نجده لا يكتف بوصف حصانه بأنه قيد للأوابد الوحوش الضارية في هيبتها واقدامها، فقد قدم لنا صورة رائعة لسرعة هذه الفرس واستخدم اسلوبين: الأسلوب العلمي في مكر مفر، ومقبل ومدبر، وأسلوب التشبيه الحسي في كـ (جلمود صخر حطه السيل من عل.)

أما الأسلوب العلمي القائم على الملاحظة وهو ما يسمى (الخداع البصري)، ومعروف أن العين لا تتلقى إلا أربع وعشرين صورة في الثانية، وهذا التفكير العلمي والملاحظة كانت حاضره عند امرئ القيس من خلال الطباق الذي وظفه بطريقة جديدة.

(مكر عكسها مفر ---- مقبل عكسها مدبر)

فهذا الطباق المعروف في البلاغة، ولكن أن يجتمع هذا التضاد في وقت واحد، فنجده يقول: مكر ومفر ومقبل ومدبر (معاً) ومعاً في وقت واحد، فلا يعقل أن الكر والفر والإقبال والإدبار في وقت واحد إلا بالخداع البصري وتكون الصورة في الثانية، فهو مقبل وما أن تلحظه العين فتظنه مدبراً، وينسحب ذلك على مكر ومفر (معاً).

ولعل امرأ القيس قد استخدم كلمة معاً ليدل على أنك أيها المشاهد لحصاني لا تميز هجومه من ارتداده؛ للسرعة الهائلة التي كان عليها هذا الحصان، وأكد ذلك من خلال الأسلوب الثاني وهو الأسلوب التداولي (التشبيه) كجلمود صخر حطه السيل من عل.

وبالربط بالواقع نجد السيارة التي سرعتها بطيئة يمكن مشاهدة عجلاتها تتحرك إلى الأمام، فالصورة المتشكلة على عدسة العين لم تتجاوز الأربع والعشرين في الثانية بعد، ولكنها عندما تصبح سرعتها فائقة وسريعة جداً تتجاوز الأربع والعشرين في الثانية فتحسبها ترجع عجلاتها إلى الخلف، لفرط سرعتها.

فالخداع البصري يلحظ من خلال استخدام الشاعر لكلمة معاً التي تدفع القارئ إلى تخيل سرعة حصان امرئ القيس، وهنا نجد الشاعر وقد وفق في استخدام معا في بيته الشعري وتكشف تلك الحال أو الكلمة عن الاجتماع بين التضاد الذي احتضنه الطباق الإيجابي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى