ثقة
إهداء إلى التاسع والعشرين من آب.
وحدي سرت في قيظ تموز ذات ظهيرة خانقة؛ شعرت بعقربين على يسار
مرفقي يقرصاني، نظرت فإذا بهما يشكلان شارة (النصر).
ـ إنها الثانية تماماً
هل أقسر نفسي على تلبية دعوة كهذه على الرغم من خواء جيبي من أجرة
حافلة تقلني إليهم.
بغير ما رغبة وصلت إليهم أتصبب عرقاً. مما لا ريب فيه أنه ليس ثمة ولائم
بانتظاري، أما وقت الزيارة فالله وحده يعلم كم سيقصر أو يطول، لكني
أعلم أنَّ صاحب الدعوة له شكل واحد بألف هيئة!
وصلت البوابة الخارجية وقد هدّني الإعياء لكثرة الخطى التي أنفقتها ماشياً.
لعل موعد الزيارات قد تغير! فقد كان صباحياً قبل سنوات، أما الآن فالتجديد
مطلب جماهيري، على ما يبدو، لذا تم إعتماد وقت الساعة حين تدق الثانية
مُشِّكلةً شعار (النصر) تقديراً عالياً للضيوف الظرفاء.
انتظرت ساعات ست حتى تم استقبالي. هل الثانية هي وقت الغداء
الرسمي في كل دول العالم؟
ـ لست ادري!
سألني الرجل العابس الواثق من وجوده وكأنه مدير الحفل:
– بطاقتك الشخصية.
حدّثتُ نفسي بحسرة:
بطاقة شخصية؟ وهل ثمة شخصية حتى يتم التعرف عليها؟!
ناولته بطاقتي بيد باردة. أمرني بالتراجع إلى الخلف. لم يمض وقت طويل
حتى أرسلني إلى عمارة تبعد قرابة ألف متر عن البوابة برفقة رجل ذي شارب
كث، جهوري الصوت. لم يكن رفيقي رفيقاً بي البتة، فقد ظل متجهماً طيلة
رحلتنا الممتعة!
وعند نقطة محددة صرخ ذو الشارب الكث بوجهي:
– انتظر هنا حتى نناديك.
جلست أنتظر في غرفة تضم مقاعد ضيقة متواضعة لكنها كثيرة، كثيرة
وخالية سوى من شاب هائم النظرات يدخن بشراهة و دونما ملل.
سرحت بنظري بعيداً. بادلني الشاب نظرة تعاطف وعرض عليَّ سيجارة
فتناولتها دون تردد، وقبل ان أشعلها سألته إن كان التدخين مسموحاً به أم لا؟
فأومأ الشاب بالإيجاب وأردف:
– ممنوع علينا التدخين أيضا!
لم أُناقش. سألني الشاب:
ـ لماذا أنت مدعو؟
أجبت دونما رغبة في قول أي شئ:
ـ لا ادري.
قال الشاب بلهجة مستنكرة:
– لا يعقل أنك لا تدري؟!
أحسستُ إنه من الواجب عليَّ ان أقول أي شيء:
ـ يبدو أنها أمور قديمة. وأنت لماذا مدعو؟
قال باندفاع وجرأة:
ـ لانني أعمل ضدهم.
قلتُ بأسف:
ـ كان الله في عونك.
قال بغضب:
– شعوب العالم تحاكم حكامها ونحن لا نستطيع أن لا نلبي دعوة لا نرغب
بها!
قلتُ في شبه تسليم:
– تلك شعوب العالم!
– ونحن؟
قلتُ بصوت خفيض:
– قطيع ماشية.
بغتة دخل الغرفة أشخاص آخرون، يبدوا أنهم تجاوزوا العشرين، فانقطع
الحديث بيننا. بعد ساعة جاءت حافلة كبيرة، وجاء صاحب الصوت الجهوري
وصاح آمراً:
– إلى الباص بسرعة.
نهضنا من فورنا وركبنا جميعاً، فسارت بنا الحافلة بين مبان ضخمة
وشوارع فسيحة نظيفة إلى أن وقفت أمام بناية عريضة شاهقة تلقي بظلها
المديد، وكان ظلها مظلماً.
نزل الشاب ـ الذي ضيفني سيجارة ـ بحركة رشيقة وقد أبدى له الإحترام
من كانوا بانتظار الحافلة. حياهم سريعاً ثم استدار نحو الضيوف وطلب منهم
الإصطفاف طابوراً منضبطاً!
لم تصدمني المفاجأة، أنا الذي صُدمت كثيراً في مسيرة حياتي الحافلة
بالخيبات. وسألت نفسي دونما تأنيب أو جلد لها:
– ان واجبه يقتضي أداء دور، دور محدد، وهو ان يتغنى بمحاكمة شعوب
العالم لحكامها!
اقترب مني وكان لا يمثل دوراً هذه المرة. حدجني بنظرة كاوية، ثم تلفت
نحو زملائه وقال يلتمس منهم إجابة طلبه:
– هذا التيس...
وأشار إليَّ باصبعه. صمت لوهلة ثم تابع وكأنه يخطب:
– من قطيع الماشية، وأنا كفيل به وسأتعهده، والقادر بحكم تربيتي وبيئتي
الرعوية على التفاهم مع ما يحب من (حشيش)!
على شفتيَّ رفّت إبتسامة إزدراء. نظرتُ في عقربي ساعتي فوجدتهما
يشكلان شارة النصر، لكنهما كانا متسعان أكثر مما يجب!