السبت ٢١ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم رانيا مرجية

ثلاثية الجرح الفلسطيني من النكبة إلى معركة البقاء

الرملة واللد ويافا: ثلاثية الجرح الفلسطيني من النكبة إلى معركة البقاء

مقدمة: مدن لا تُنسى، ومدن لا تنسى

الرملة، اللد، ويافا… ليست مجرد مدن، بل هي جراح مفتوحة في جسد الوطن الفلسطيني، شواهد على النكبة التي لم تنتهِ، وعلى الصمود الذي لم ينكسر.

هي مدن سُلخت عن ذاتها، وتغيّر وجهها قسرًا، لكنها رغم كل محاولات التهويد والمحو، لا تزال تعيش، وتنبض، وتنطق بالفلسطينية.

هذا البحث ليس حنينًا إلى أطلال، بل قراءة واعية في التاريخ والواقع، سردٌ لحكاية النكبة المستمرة، واحتفاء بمن لم يرحلوا، بل بقوا ليكونوا الوطن الذي لم يُغادر مكانه.

أولاً: قبل النكبة – مدن تعج بالحياة والهوية

يافا: عروس فلسطين وبوابة النهضة

يافا، المدينة الساحلية المتربعة على موج البحر، كانت درّة الاقتصاد الفلسطيني، ومهد الصحافة، ومسرح النخبة الثقافية.
من "الكرمل" إلى "الدفاع"، من دور السينما إلى الحواري الضاجة، كانت المدينة مزيجًا من العراقة والتجدد.

ميناؤها كان الشريان التجاري لفلسطين، وبرتقالها اليَفاوي كان يُصدّر إلى أوروبا ويُحكى عنه كعلامة وطنية.

الرملة واللد: نبض القلب الفلسطيني

الرملة، التي أسّسها الأمويون، كانت مركزًا إداريًا وتاريخيًا، تتميز بتعدد الأديان والثقافات.

اللد، أرض القديس جرجس، مدينة الكنائس والمساجد، والسكك الحديدية، والزراعة الوفيرة.

كلتا المدينتين كانتا رمزين للتعايش، ومكانًا تعجّ فيه الحياة والأسواق والهوية الفلسطينية العميقة.

ثانيًا: النكبة 1948 – الجريمة الكبرى بحق التاريخ والإنسان

يافا: القصف والفرار من البحر

في نيسان 1948، تحوّلت يافا إلى ساحة حرب. عصابات الأرغون والهاجاناه قصفت المدينة بقسوة، لتفرغها من أهلها.
هرب عشرات الآلاف بحرًا نحو غزة ولبنان، بعضهم لم يصل، ومن بقي خُزّن في أحياء محروسة وأُعلن غيابه قانونيًا رغم وجوده، بموجب "قانون أملاك الغائبين".

الرملة واللد: المجزرة والمسيرة الصامتة

في تموز 1948، ضمن عملية "داني"، دخلت قوات الاحتلال المدينتين، ونفّذت مجازر دموية، خصوصًا في مسجد اللد الكبير والكنيسة.

أُجبر أكثر من 70 ألف فلسطيني على السير مشيًا إلى رام الله، في مسيرة عطش وموت، تاركين بيوتهم وذكرياتهم تحت فوهات البنادق.

كانت الجريمة كاملة: تطهير عرقي بالصوت والصورة، وبدعم الصمت الدولي.

ثالثًا: ما بعد النكبة – بقاء تحت القيد والتمييز

النكبة لم تنتهِ بل تحوّلت إلى سياسة

بعد العام 1948، فرض الاحتلال نظامًا عسكريًا على من تبقى من السكان:

منع تنقّل،

مصادرة أراضٍ،

عزل مجتمعي،

وتهميش مُمأسس.

ثم جاءت سياسات "التحسين الحضري" كغطاء للتهويد، تحت مسميات براقة.

بيوت العرب تمّت مصادرتها، والأحياء أعيد تخطيطها لتناسب المستوطن الجديد، أما الفلسطيني الأصلي فبات يُعامل كـ"مشكلة عمرانية"، لا كمالك شرعي.

رابعًا: التمييز العنصري حتى اللحظة

الفلسطينيون في الرملة واللد ويافا يُواجهون حتى اليوم:

مدارس عربية فقيرة مقارنة بالمدارس اليهودية.

هدم منازل بحجة "البناء غير المرخص" وسط استحالة الحصول على التراخيص.

عنف الشرطة وتواطؤها مع المستوطنين.

تغييب الرواية الفلسطينية من المناهج.

تهميش في الخدمات، في التخطيط، وفي الفرص.

ومع ذلك، لم ينكسروا.

خامسًا: من صمود الأفراد إلى صلابة الوجود – نحن الوطن الذي لم يرحل

في الرملة واللد ويافا، البقاء الفلسطيني لم يكن خيارًا عابرًا، بل موقفًا وجوديًا ورسالة قومية.

هنا، الهوية ليست مجرد انتماء… بل خندق يومي من خنادق المواجهة.

الهوية كفعل مقاومة لا يلين

كل طفل يصرّ على نطق "اللد" باللهجة الأصلية، هو شاعرٌ يقاوم.

كل سيدة تصنع الكعك بعينين ممتلئتين بالماضي، توثق التاريخ بطريقتها.

كل شاب يعزف على عودٍ مكسور في سوق الرملة، يعزف على أوتار الوطن.

الهوية هنا لا تُمارَس فقط بالكلام، بل بالمشي، بالطعام، بالأذان، بالتراتيل، بالشتلات المزروعة في حواكير البيوت القديمة.

صوتٌ لا يُخرس

المساجد تعانق السماء بالأذان.

الكنائس ما زالت مفتوحة للجميع، تفتح أبوابها للسلام، وتُرنّم بالعربية: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام."
هنا، الدين ليس أداة فصل، بل صرحٌ يُعلن أن هذه الأرض لم ولن تُفرَّغ من أهلها.

ليس بقاءً بل ريادة

الفلسطينيون في هذه المدن لا يعيشون على الهامش، بل يكتبون المركز:

يؤسسون مبادرات ثقافية.

يخرجون أفلامًا قصيرة عن الحنين والحق.

ينظّمون مهرجانات، ويُحيون الذكرى لا للبكاء، بل لتجديد العهد.

سادسًا: أيار 2021 – هبّة الكرامة... صوتنا من تحت الركام

في هبّة الكرامة، هتف الشباب في اللد والرملة ويافا: "نحن لسنا جالية، نحن الوطن".

استشهد موسى حسونة، وواجه الشباب بالصدور العارية عصابات المستوطنين المدججة بالسلاح.

لم تكن انتفاضة غضب فقط، بل لحظة وعي وعودة للهوية الجامعة.

أعادوا تعريف أنفسهم: نحن فلسطينيون في قلب الجغرافيا المسروقة، ولسنا صامتين.

خاتمة: لم نُهزم، بل ننهض في كل حي وشارع

الرملة، اللد، ويافا ليست مجرد مدن نكبت، بل مدن تقود المعركة الأعمق: معركة البقاء بالكرامة.

هم لم يرحلوا، لم يتنازلوا، ولم يصمتوا.

حملوا الجرح، لكنهم لم يسمحوا له أن يُميت صوتهم.

وفي صمتهم الصاخب، كتبوا أن الوطن ليس مكانًا نغادره، بل جذورًا نحملها في أقدامنا، وأصواتنا، ودموعنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى