الخميس ٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥

ثُنائيات... رصاص وقرنفُل

ياسمين الآنسي

«ثُنائيات... رصاص وقرنفُل» مجموعة قصص قصيرة جداً للصحفية الأديبة: ميادة سليمان

اِخترت من المجموعة القصصية نص "تجذُّرٌ" ص 19 على سبيل المِثال لا الحصر؛ لما فيها من جمالية، وتمكُن في توظيف فنيات القصة القصيرة جداً لعرض الصراع الأزلي بين الخير والشر، وعُمق في طرح الفكرة...

* فكرة النص:

الفكرة تناولت ثنائية الصراع بين: الخير والشر، الحق والباطل، الحقيقة والزيف، القبح والجمال.

وإن غلُب أهل الشر وأعوانُه ومُؤيدوه فلا بُد أن يكون هُناك صوت ناصر للمظلومين كاشفاً للحقائق، يستحيل لَجمه وإسكاته وإن اجتمعت عليه كل قوى الأرض.

فيها دعوى للأمل والتفاؤل.

* الجانب التحليلي:

عند الحديث في الجانب التحليلي نجد القوة والعُمق من البداية بعنوان النص "تجذُرٌ" الذي يُوحي بارتباطه بالبُعد السياسي، وربما الاجتماعي، أو كلاهُما...

المُصطلح مأخوذ من جِذْر وهو أصل الشيء، كـ جِذْر الشجرة المقصود بها أصل الشجرة، أي جذورها تلك المُتمسكة والمُتشعبة في باطن الأرض.

والتاء في (تجذُرٌ) تُدلل على زيادة في عُمق، وتمسُك، وتشعُب الشيء المقصود منه سواءً كان حسناً أم سيئاً، وهذا ما سنجده في متن النص التالي...

(بأيديهمُ الأخطبوطيَّةِ لوَّنوا اللوحةَ.
على جِدارِ العُروبةِ علَّقوها.
سُرَّ الحاضرونَ بالورودِ، والفراشاتِ، والحمائِمِ.

ذلكَ الّذي لم يُدعَ، أرعَبَهُمْ زئيرُهُ:

"إنَّها قلوبُ أٌمَّهاتٍ، أفاعٍ، غِربانٌ"
همُّوا بفَقءِ عينَيهِ؛ وجدوهُما نجمتَينِ خضرَاوينِ!)

"بأيديهُم" جمع يد، تلاها "الأخطبوطيَّة" هنا تأكيد على الكثرة والتشعب لتعدد أذرعه، والأخطُبوط هو رمز للخطر، وللقدرة على السيطرة والمراوغة.

"لوَّنوا اللوحةَ" يستشف القارئ أن للوحة رسم آخر خلف الظاهر، هو الأصل المعبر عن حقيقة وضع أو حال مؤلم، وهذه الأيدي الأخطبوطية المُتعددة تمكنت من السيطرة على اللوحة، والقيام بعملية تزييف الحقيقة بتجميلها بالألوان الزاهية؛ لتبدو بالشكل الذي يُريدونه أمام العالم المُشاهِد.

"على جدارِ العُروبةِ علَّقوها" جعلوا من الزيف رمزاً للعروبةِ يُفتَخَر ويُباها به أمام العالم، وعبر الأجيال القادمة التي لم تتطلع على الحقيقة المؤلمة المَخفية وراء الألوان الجميلة التي من صنعهم.

"سُرَّ الحاضرونَ" هؤلاء الحاضرونَ الذين سرَّهُم ما فعلوه هُم المُوالون والمؤيدون، وإلا لما تم دعوتهُم للاحتفاء بهذا العمل المُغيب للحقيقة الناسف للمبادئ الإنسانية، أكدت هذا التفسير العبارة التي تلتها "ذلكَ الّذي لم يُدعَ" وقد خلقت هذه العبارة تساؤلاً سريعاً في ذهن القارئ (من الذي لم يُدعَ؟) ليكون الجواب ضمني: هو صوت الثائر المناهض للظلم، الكاشف للتزييف الذي لا يخشَ أحد، وجاء "يُدعَ" مُفرداً لتدلل على قلة أنصار الحق في زمنٍ كثُر فيه التدليس والنفاق.

"أرعَبَهُمْ زئيرُهُ" أرعَبَهُمْ صوته العالي الغاضب الفاضح، والكاشف لأفعالهُم البشعة حين حوَّلوا قلوب الأمهات الموجوعة إلى ورود جميلة تُحلق حولها "الفراشاتِ" الرقيقة الجميلة رمز الحياة والأمل والتفاؤل، و "الحمائِمِ" رمز السلام والحُب والحُرية والأمان، بينما في الحقيقة حول قلوب الأمهات الموجوعة "أفاعٍ" رمز لفئة بشرية سامة شرسة لا تكُف عن اللدغ وعصر قلوب الأمهات، و"غِربانٌ" فئة بشرية أخرى حاقدة غامضة تستخدم ذكاءها ودهاءها في الخراب كونها المُستفيدة منه.
والـ "أُمَّهاتٍ" في النص رمزية للأوطان الواقعة تحت سطوة الأيادي الأخطبوطية، و"قلوبُ" هم الناس الأبرياء الذين لا حول لهُم ولا قوة.

يخبرنا النص أنه حين وجدوا ذاك الذي يُخالفهُم ولا يتفق معهم في أفعالهُم -الذي لم يُدعَ- بين الحضور، أثار غضبهُم فكانت ردة فعلهُم الهمجية الدُغمائية أن "همُّوا بفَقءِ عينَيهِ؛" وهُنا كانت المُفاجئة الصادمة والمُدهشة لهُم وللقارئ معاً عندما "وجدوهُما نجمتَينِ خضرَاوينِ!" وهُنا النجمتان رمز للعلو والاِعتلاء الذي يحول بينهُم وبين الوصول إليه والنيل منه، ووصف لون العينان بالخضراوين؛ إيحاء لرؤية مُستقبلية تفاؤلية مليئة بالخير والخصب والعطاء.

* الجانب الفني:

 عُمق في الفكرة.

 اِقتصاد شديد في اللغة، ومقدرة على اِنتقاء المُصطلحات الجَزِلة المُعبرة عن مفهوم الفكرة المُرادة، والفضفاضة في نفس الوقت؛ لترك استنتاجات وتحليلات عدة لدى القارئ.

 حشد رمزيات لأكثر من فئة بشرية وإنسانية، واِختزال في توصيف شخصيات جاءت رمزية بصيغة الجمع، منقسمة إلى مجموعتين، الأولى: اللاتي تسبقهن الـ التعريف كـ (الورود، الفراشات، الحمائم)، وهي فئات الشخصيات المُظهَرة للناس في المشهد الحِكائي في النص.

والثانية: نَكِرة لم تسبقهن الـ التعريف كـ (أُمَّهاتٍ، أفاعٍ، غِربانٌ) للتأكيد على كونها شخصيات مجهولة مُقنعة مُخفاة عن الناس...

 اِعتماد كبير على التلميح والإيحاء.

 النهاية مُفاجئة غير مُتوقعة.

خلاصة:

في النص يبدو جلياً اِنشغال كاتبة مهمومة بقضايا الإنسان مُجسدة الصراعات الدائرة بين الإنسانية واللاإنسانية في قالب عميق الفكرة، مليء بالإيحاءات، مُتخم بالرمزيات، صادم النهاية...

وهذا ما نستخلصه من مُعظم نصوص المجموعة (رصاص وقرنفل) إن لم تكُن جميعها...

ياسمين الآنسي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى