الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم مرح عبد الرحمن صالح

جذور

كانت الغارات كثيفة في تلك الليلة.. مدمج ظلام الليل مع غبار الركام منكها بعبق الدماء، متمسكا كنت بأبي وبأخوتي الصغار أما أمي فكانت تحضننا بشفقة من بين خشبات الإطار، لا يمكن نسيان تلك الحادثة أمام منزلنا عندما سقطت قذيفة طائشة قادمة من دبابة متمركزة على مشارف حيينا الشعبي على موقدة النار فطبخنا آنذاك حساء قهرنا في قدر من البكاء، كانت الغارة التالية في تلك الليلة على منزل العم شفيق ذو الخمسين ربيعا وخريف كامل والذي أصر على أن يتزوج بأربع نسوة ليبذر أعدادا كبيرة من الأطفال مع عدم اكتراثه للجوع المحدق بنا ومؤمنا بمقولة(الطفل يلد ويلد معه رزقه).. أبي كان يؤيده في ذلك لكن لطالما أحب أمي فلم يقوى على أن يتزوج مرة أخرى وأخذ دورها في العناية بنا، أعوامي الثمانية كانت كافية لأن أعي ما يجري حولنا من أحداث وتخزينها ضمن رأسي الصغير الذي نسي طعم السكاكر والمعجنات اللذيذة والجري خلف الفراشات الملونة مذ بدأ طوفان الأقصى وبدأت معه وحشية العدو في التفنن بإذلالنا واختلاق سبل جديدة في قتلنا؛ وها أنا ذا أبلغ من العمر ما جعل نصف شعري يضاهي الثلج في بياضه..

مع بزوغ شمس الصباح الشاحبة أمطرت السماء منشورات للعدو تدعونا بإخلاء حيينا الصغير

وما جاب في فكري آنذاك كيف للعدو أن يشتهي حيينا المهدم والمليء بركام الأدلة التي تضعه في قفص الاتهام وأي قفص هذا ذو بوابة مفتوحة على عالم أعمى!، كان لابد مع أول خيوط الفجر الخجولة أن نطمئن على عائلة العم شفيق ولكننا بدأنا بحزم أمتعة الرحيل إلى المجهول بعد ورود أنباء عن مجزرة خلفتها غارة على منزل العم شفيق ليخرج حيا من الركام القط سيم مضرجا بدماء ثائر الذي شاركني المقعد في مدرسة للأونروا التي باتت الآن مأوى لنازحين من حي آخر.

لم نكن وحدنا من يتمعن بالمكان متلفتا ليخزن أكبر قدر من اللقطات التي ستصبح ذكريات خانقة تعصرنا برحاها القاسية؛ بل كان حولنا الكثير من العائلات فمنهم من حمل أمتعته على سيارة مغبرة ومزركشة بذرات حطامنا التي ننتمي له ومنهم من حزم أمتعته بعربة يجرها حمار يخوض مشقة الحرب كما كل شيء ينبض حولنا بوتين الحياة أما أنا وأبي وأخوتي أخذنا بعض الأغطية والملابس مساقين إلى ضفة أخرى لعلها تكون أكثر أمنا إلى أن وصلنا إلى مقبرة حيينا والتي تعد بالنسبة لي الراحة الأبدية مقارنة بالواقع الحالي ذو الموت المكرر مما جعلي أقهقه وسط بكاء الكثيرين حولي ساخرا من آلة الحرب متوشحا بيقين أحاطني فجأة في أن (الموت الرحيم يزورنا مرة واحدة فقط).

وسط الزحام كان لابد من قراءة الفاتحة على أشلاء عمتي المختلطة بأشلاء سهيلة جارتنا اليتيمة ذي القدم المبتورة التي كانت تسامر عمتي كيلا تنام وتنسى حساء البازيلاء الذي كان من الصعب أن يتماسك في ظل غياب أبرز مقومات الطهي.. ومع ذلك كان صلاتي متفرعة لكليهما ممزوجة بأشلاء أدعية زخمة للعامة مبعثرة هنا وهناك على أطراف المقبرة.. كان أخي الصغير ذو السنتين وشهر كبيس يشد ثوبي يرمقني بإعجاب وسط جموع الراحلين.. (أريد أمي)!

ليعود بي إلى ذنب حديث اقترفناه لتونا، صورة أمي المعلقة التي تباغتنا ملامحها مذ تركنا الدار ونسيناها على نصف حائط يعلوه سقف توتياء صدئ..

 أبي سأعود للدار ..

=بني أخشى عليك من قذيفة غادرة.

بعد بضع كيلومترات سيرا وزحفا بين زفرات الإرهاق وشهقات التعب احتوتني قوة مغمسة بتحدٍ كبير قادتني بلا خوف إلى الالتحاق مبكرا..

لطالما كان حلمي الذي تغذى من ألم الواقع فقد ترعرع بداخلي عنفوان مزركش بحماس منقطع النظير ساقني إلى حيث المكان الذي خلقت فيه وانتميت لركامه لعلني أصنع من أكوامه بداية نصر وديمومة نضال فطرت عليه.

ألتفت أبي إلى ظلي المتبقي خلف انهدامات الأمكنة، وباغته شعور بالقلق الممزوج بقطرات الفخر قابضا بكفه التي ينقصها سبابة على مفتاح عودتنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى