السبت ٢٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٨
بقلم إبراهيم مشارة

جعيتا سمفونية الصخر والماء

في البدء لم تكن الحياة سوى انعكاس غامض القطرات للماء المحملق وهو يرشح من شقوق الصخر
“جعيتا في كف العشاق” شوقي بزيغ

جعيتا شلال الماء الهادر وسط الخضرة الداكنة، الصخر المنتصب بشموخ وإباء، الحنين إلى الإمساك باللحظة الهاربة بين تخوم الوجود، الماء المنساب بطيش أو فرح طفولي بين الشقوق المستسلم إلى قدره في الوصول إلى المصب الأعظم البحر، جعيتا صورة حية للوجود: القطرة من البحر إلى السماء إلى الوهاد والنجاد تعانق وتقبل وتفارق تلامس الشجر والحجر ثم تعود إلى المصب أو تنساب في رحم الأرض لتصير حبة قمح، الصنوبر والسنديان السماء الملبدة حينا والصافية حينا آخر الشمس الضاحكة العابسة المرتفعات الدوار حينا والانتشاء حينا آخر النسمة العليلة تارة والريح القوية العاصفة حينا آخر

الرائحة: رائحة المطر، رائحة الشجر، رائحة شجر البلوط ،رائحة التراب، رائحة الجبل، رائحة الحنين، رائحة الشغف…

جعيتا الهيام وجعيتا الفتنة

جعيتا التي تقع إلى الشمال من بيروت وتبعد عنها ب20 كلم والتي تقع في الوادي المعروف بوادي نهر الكلب وكما يدل اسمها الأرامي القديم “المياه الهادرة”

خرجنا من بيروت في يوم ملبد ماطر وقال السائق و الحادي بأفراحنا وأشواقنا أبو خليل الهادئ والذي يتكلم بهدوء وفي سكينة بعد ساعة سنكون في جعيتا تركنا طريق البحر وخضنا في المرتفعات يلتف الطريق ويصعد وسط خضرة مدهشة لأشجار السنديان، الصنوبر والبلوط يزداد تساقط المطر

أتذكر السياب و قصيدته “أنشودة المطر”:

أتعلمين أي حزن يبعث المطر
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع
بلا انتهاء كالدم المراق،كالجياع
كالحب كالأطفال ،كالموتى هو المطر

السياب الذي لم يبدع إلا وهو في قمة معاناته والطبيعة التي لا تزهر في الربيع إلا وهي في قمة انتحابها في الشتاء برد،مطر، ضباب، وحشة
في البدء كانت المعاناة، وكان الماء

وكان الدمع وكان الفن الخالد!

كل هذا مر بخاطري وسط هذا السحر الممزوج بالمطر، بالخضرة، بالرائحة، بالوحشة مخلوطة بالفرح بالدهشة خالطها الشغف كما يخالط الماء الخمرة الضباب حينا لكن الرحلة ساحرة فقد عزفت السماء لحن الخلود الماء صورة الحياة أقنومها وسر وجودها ينساب وادي نهر الكلب الى المصب الأعظم البحر بعد أن تملى من سحر الرابية من سحر الكتف، يالله كل هذا السحر في لبنان!

كيف لا يكون منهم الشاعر والناثر والفنان؟ بل الطبيعة في لبنان معزوفة إلهية كبيرة تشط هذه الطبيعة عن النظام إلى التوحش في الجمال ـأوليس قمة العقل الجنون؟
حين أحب الله لبنان وهبه جعيتا ومغارتها.

أخذنا المصعد الهوائي مررنا فوق وادي نهر الكلب رذاذ المطر يغطي زجاج المصعد بدأنا بالمغارة العليا تلك الأحجية الطبيعية الكبرى من قطرات الماء الآتية من الجبل مخلوطة بالكلس والتي تشكل ما يعرف بالصواعد والنوازل خضعنا لمراقبة صارمة يجب ترك الهاتف فالتصويرممنوع وأسفت هل تسعفني اللغة في تصوير ما سأراه دائما أشكو من خيانة اللغة فهي كالرصيد الناقص دائما اللغة ذاتها عزاء العاجز أمام المشاعر الكبرى نغلق عيوننا وأفواهنا نعطل حواسنا لأنها لا تفي بالغرض نطلق الروح من آصارها الطينية لترى بعين غير العين الموجودة في محجرها حين تأمل ذاك الناسك الدنيا في جبل عجز عن التعبير واكتفى بتلك المقولة الخالدة:” ليس في الإمكان أبدع مما كان “!

اكتشف المغارة العليا- وهي الأطول والأضخم- منقبّون من لبنان عام 1958وافتتحت للزوار عام 1969 وقد أعدت فيها ممرات للمشاة تلائم طبيعة المغارة هنا صنع إزميل الخالق أعظم منحوتات على وجه الأرض في صمت وتؤدة فجاءت أشكالا بديعة ثريات عملاقة تتدلى من سقف المغارة وقصورا سحرية وأشكالا آدمية وحيوانية جمعت بين الرومانسية والسريالية والواقعية بضربة واحدة متناسقة لهذا الإزميل الإلهي تذكرت وأنا ألج المغارة أبيات ابن لبنان وابن زحلة الشاعر شفيق المعلوف وهو يصف أمريكا لما هم بدخولها عبر الميناء:

خـلــــــيلي بدت جبارة المدن تزدهي
بأعظم ماازدانت به الأرض فاخشـــع
أدرات على الآفاق مشعـــــــــل عزها
ومدت إلـى الشمس كــــــــــف يـوشع
مـدينة جن جــــــــــــود الإنـس نحتها
بـإزميـــــــــــــل جـبار وحكـمة مـبدع

هان في نظري إزميل الإنسان أمام إزميل الخالق فإذا كان إزميل الإنسان يصنع عمارة ومدينة فكم فيها من مملق وكم فيها من حاف وكم فيها من مظلوم وكم فيها من ظالم وإزميل الخالق لا يصنع إلا النور للجميع والشمس للجميع والجمال للجميع.

وسط دهاليز طويلة وسلالم حجرية وشقوق نمر على قصر الحجر الضوء البارد والرطوبة المنعشة والحرارة الثابتة والنور والظلام المتناغمين نستمع لسمفونية الصخر وهو يحكي بالنوتة القطرة المخلوطة بالكلس أساطير الزمن الأول الماء وهو يتجمع هنا يحكي قصة الصبر ليس ساعة وليس عاما بل ألف ألف عام يتوج ذلك الصبر بهذه الأشكال العجائبية الصاعدة والنازلة التي تأخذ أشكالا بديعة قصورا من الخرافة ومن السحر من الشعوذة الفنية السريالية والتكعبيبة والكلاسيكية دفعة واحدة تترك لك صورة الماء المتجمد الفرصة لكي تعطي الجوامد الشكل الذي يراه خيالك تعمل نوازعك وساوسك أحلامك ترسمها أنت بمعية الأشكال وأنت تسقط خيالك عليها تعبنا من السير استرحنا أعدنا الكرة تأملنا الأشكال انبهرنا بهذه القدرة على توليد هذه الأشكال التي وراءها حكمة واحدة الصبر ليس صبر الأيام والأعوام بل صبر القرون والقرون.

هنا تصنع الطبيعة السر بعيدا عن الأضواء بل حتى الشمس وبغير قلق ولا تسرع القطرة على القطرة في حميمية وتولد الأشكال هل نحن في جوف الوجود وهذه أحشاؤه؟
!يا أحشاء الجبل حنانيك.

ضمي خشوعي بين مصارينك –هذه الممرات التي أعدت للمشاة- وياقلبه وياكبده أستودعك مافي قلبي من حب وما في كبدي من شوق إلى الجمال الإلهي إلى الطبيعة بخضرتها الداكنة ورائحة صنوبرها وهبات نسميها الباردة وقطرات مائها المخلوطة بالكلس وهي تبدع هنا ذلك المتحف الإلهي الخالد بلا كاميرا ولا صحافة ولا مزاد علني

نسير في الممرات نرفع رؤوسنا إلى الثريات العملاقة المتدلية نمر عبر ما يشبه الجسور ننظر أسفلنا يا إلهي نحن معلقون- تحف بنا هذه الأشكال البديعة عشرات الأمتار نعود القهقرى تحاصرنا الأشكال في صمت تستنطق ذواتنا مخيالنا وخيالنا نسقط عليها آمالنا آلامنا أتراحنا و أفراحنا فكل يراها حسب ما في دخيلته.!

حين خرجنا من المغارة العليا كان المطر قد توقف لكن الجو مكهفر تأملنا المعروضات السياحية الأعلام اللبنانية الهدايا التذكارية الفتيات كالأقمار يعرضن مبيعاتهن ويوزعن بسمة بالمجان ركبنا القطار البديع الذي يشبه لعب الأطفال وتوجهنا إلى المغارة السفلى حيث تربض منحوتة عملاقة هي منحوتة “حارس الزمن” من نحت الفنان طوني حليم وهو يجسد بضخامته عظمة الزمن الذي يسحق كل شيء ولايأبه بأي شيء والذي يصنع في ذات الوقت البدائع وبحكمته يصرف الأشياء أوليس هو الذي يذرو الأحزان والأفراح بمدراته وينخل الحب من الزؤان؟ أوليس الذي يهون كل جليل ويصغر كل كبير ويجعل كل شيء خبرا لكان؟

وإن كانت المغارة السفلى أصغر من العليا فإنها أروع وأبدع هنا هدير الماء يعزف نوتته والنهر المخترق للصخر الذي يصل حتى بيروت ركبنا زورقا مائيا كهربائيا سرنا في وسط النهر بلونه الأخضر تجاويف صخرية صواعد ونوازل إننا في أحشاء الصخر هذا شيء قريب من الحلم أو من حكايا ألف ليلة وليلية سرنا مسافة النصف كيلو مبهورين بصوت الماء والتناسق بين الظلمة والنور التجاويف الصخرية ،الصواعد والنوازل وعدنا أدراجنا حين خرجنا من المغارة أسف الواحد منا على أن تصوير الرحلة المائية ممنوع لكن صديقا كان قد تحايل على الرقابة وصور شريط فيديو.

المغارة السفلى المائية أبدع وأغرب وأدهش تلك التي اكتشفها المبشر طومسون عام1836 وافتتحت عام 1956 أمام الزائرين.

كنا حوالي عشرة أشخاص وسط هذا النهر في أحشاء الصخر مسافة 500 متر المياه خضراء كأنك في قصر مسحور قطرات الماء تتوالى نغماتها الرطوبة الثابتة وكذا الحرارة تحاصرنا الأشكال مصارين من الصخر والماء

مررنا فيها حتى ليطاطأ الواحد رأسه خشية أن يرتطم بالصخر.

تعطلت لغة الكلام خشعت النظرة أحس الواحد أنه مجرد قطرة صغيرة ذريرة في خضم الوجود فأعظم الأشياء ما تم في زمن طويل ألم يخلق الله السماوات في ستة أيام بلا ضوضاء ؟هذه حكمة الخالق يعطيكها وأنت تخرج من أحشاء المغارة وواديها العجيب.

كان المطر يهطل رذاذا الجو منعش الغيوم تجتمع حينا تتفرق حينا آخر كأنها قطعان من الأغنام يسوقها راع واحد –الريح- بعض الضباب رائحة الأرض والعشب والسنديان والبلوط والصنوبر تعطر الأنف.

ركبنا السيارة يستقبلنا أبو خليل بهدوئه وكلماته القليلة و كدحه الصامت وعدنا أدراجنا إلى بيروت مأخذوين بروعة الرحلة وسحريتها يستسلم الواحد منا إلى لحظة يسترجع بها جمال الذكرى في قلب السحر لبنان.

بدا البحر الرمادي مضظربا ونحن ننزل باتجاه بيروت استسلمت لبول فاليري وهو يردد على مسمع البحر:

الرياح تهب فلنحاول أن نحيا!
والهواء الرحب يفتح كتابي ويغلقه
والموجة المنسحقة تصبو أن تتفجر من الصخور


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى