جلسة تقليب الكتب وصحائف العرب مع الأستاذ اليازجي
من زلّات الأستاذ إبراهيم اليازجي الفادحة في «لغة الجرائد»، وهو الكتاب الذي وقف فيه على أخطاء الجرائد اللغوية، كان تخطيئه اسم الإشارة (هاتِه)، حيث حمَل على الكتّاب ولوعهم بتناقل استعمال هذه اللفظة بدلا من اسم الإشارة (هذه)، مدّعيا أنّ (هاته) ليست من الفصحى ولا من الفصيح، إذ لم ترد عن العرب– حسب زعمه- لا في المعلقات ولا دواوين الشعراء ولا القرآن الكريم ولا خطب الإمام عليّ ولا المنقول عن وفود العرب كلهم، ويقول: «ولقد قلّبنا كثيرا من صحف الكتّاب في كل عصر من أعصار الإسلام، فلم نجد هذه اللفظة في شيء من كتب المتقدمين». [مصطفى توفيق المؤيدي، لغة الجرائد، 1319هـ، ص 30]
قلت: لو كنت في زمن اليازجي لدعوته إلى جلسة لتقليب الكتب وصحائف العرب، لنفتح معا مراجع النحو واللغة الأصيلة؛ كي نثبت له صحة وفصاحة هذه اللفظة (هاته). فالحق أن (هاته) هي اسم الإشارة للمؤنث (تِه) دخله (ها) التنبيه؛ لم تغفل عن ذكرها أمّات المراجع النحوية، والتي يجب أن لا تغيب عن نظر الأستاذ اليازجي، ولا عن قائمة الصحف التي يدّعي أنّه قلّبها. وهاكم قائمة من هذه المراجع التي تذكر اسم الإشارة (تِه) وتؤكد دخول (ها) التنبيه عليه.
من أعصار الإسلام الأولى:
1: يقول أبو السعيد السيرافي (المتوفى: 368 هـ):
«وقالوا في المؤنث في موضع (ذا) خمس لغات،..قالوا للمرأة (ذي) و(ذه) .. و (تي) و (تِه) و(تا)». [شرح كتاب سيبويه (4/ 143)]
ومن العصور الوسطى للإسلام:
2: يقول ابن يعيش (المتوفى: 643هـ):
«فإذا أشرت إلى المؤنث، ففيه خمسُ لغات، قالوا: (ذِي)، و(ذِهْ)، و(تَا)، و(تِي)، و(تِهْ)». [شرح المفصل لابن يعيش (2/ 359)]
3: وجاء في «الكافية في علم النحو» لابن الحاجب (المتوفى: 646 هـ):
«وللمؤنّث: (تا) و (تي)، و (ذي)، و (ته)، و (ذه)، و (تهي)، و (ذهي)». [الكافية في علم النحو (ص: 34)]
4: ويقول إمام النحاة ابن مالك (المتوفى: 672هـ) في كافيته الشافية وشرحها ما يلي:
«بـ (ذا) إلى فرد مذكر أشر ... (ذي) (ذات) (تي) (تا) (ذه) على الأنثى قصر
و(ته) كـ(ذه) و(ها) هنا قد كُسرا ... ومُد عند كسره أو قُصرا ». [شرح الكافية الشافية (1/ 314)]
ويتابع في دخول (ها) التنبيه على المجرد من أسماء الإشارة في نفس المصدر:
«و(ها): حرف تنبيه يجاء بها متقدمة على (ذا) و(ذاك) و(تي) وأخواتها مجردة من الكاف، ومصاحبة لها دون اللام. فيقال: (هذا) و(هاتي)، و(هذاك) و(هاتيك)». [شرح الكافية الشافية (1/ 317)]. وأكّد ابن مالك كل هذا في كتابه «شرح التسهيل».
5: : وأما أبو حيان الأندلسي (المتوفى:745هـ) فيقول في الارتشاف:
«ولمؤنث قريب (تى) و (تِهْ) و (تا) و (ذى) و (ذه) و (تِهِ) و (تِهِي) و (ذه) و (ذهي)..» [ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان الأندلسي (2/ 975)]. كما ذكر كل هذا في كتابه «التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل».
6: ولبرهان الدين بن قيم الجوزية (المتوفى 767 هـ) في إرشاد السالك ما يلي:
«وأما المفردة المؤنثة فذكر أنه يشار إليها بأربعة ألفاظ: (ذِي), و(ذِه) و (تي) و (تا) ولا يقتصر عليها كما ذكر المصنف، بل له لفظان آخران (تِه) و (ذات) وفي (ذه) و (ته) ست لغات: سكون الهاء، وكسرها باختلاس، وبإشباع..». [إرشاد السالك إلى حل ألفية ابن مالك (1/ 137)]
كان هذا شيئا مما فات الأستاذ اليازجي، فكل هذه المصادر قد سبقته زمنا، وكان من الجدير أن يقلّبها ليطّلع على فصاحة اسم الإشارة (هاته).
وأما في العصر الحديث فلم تغفل كذلك المراجع النحوية عن ذكر اسم الإشارة (ته)، نذكر من هذه المراجع مرجعين أساسيين كما يلي:
العصر الحديث:
7: جاء في النحو الوافي لعباس حسن:
«وخمسة مبدوءة بالتاء، هي: تي، تا، تهْ، تهِ، بكسر الهاء مع اختلاس الكسرة، تهِ، بكسر الهاء مع إشباع الكسرة». [النحو الوافي (1/ 323)]
8: وفي النحو المصفّى لمحمد عيد:
«المفرد المؤنث: وأهم ما ورد من الألفاظ (ذهِ، ذِي، تِه) ويبدو أن الكلمتين الأوليين لا تكادان تستعملان بغير حرف التنبيه (ها)، فيستعمل منهما: (هذِه، هذِي)- مع استعمالها مجردتين- وأن الكلمة الأخيرة تستعمل أيضًا هذا الاستعمال، فيقال: (هاته المرأة)...». [النحو المصفى (ص: 158)]
ويتابع محمد عيد في دخول (ها) التنبيه على اسم الإشارة ويقول:
«ها التنبيه: ...وتسبق جميع أسماء الإشارة التي سبق توضيحها، فنقول: هذا، هذه، هذي، هاته، هذان، هاتان، هؤلاء». [النحو المصفى (ص: 161)]
وبهذا فقد قلّبنا للأستاذ اليازجي صحائف العرَب، وما اعتُبر في اللغة من مراجعها النُخَب، والتي لا أدري كيف يمكن أن يذهل عنها اليازجي، لا سيما الألفية أو ارتشاف الضّرَب، فهل من لغوي لا يرجع إلى هاته الكتب!؟
استدراك..
وبناء على كل هذا لنا أن نستدرك على الأستاذ اليازجي لنقول: قل: هذه المرأة، وقل: هاته المرأة؛ ولا خطأ ولا حرج!
ولعل هذه المسألة تشكل عيّنة واضحة على مدى التسرع والتهور الذي قد يقع فيه بعض اللغويين في نهج التخطيء، دون الأخذ بعين الاعتبار أن اللغة العربية أوسع من أن تقيّد في عقل بشري، فهي التي سبق وقلنا عنها إنها بحر لا شاطئ له كما يقرّ به العارفون، وإنه لا يحيط بها إلا نبي كما يقرّ بذلك الإمام الشافعي. وهي كذلك مثال واضح على وجوب توخّي الحذر الشديد في مسائل التخطيء والتصويب؛ فاليازجي مع قامته الشامخة في اللغة والأدب لم يسلم من هذا العثار، فحذار ثم حذار في هذا المضمار!
وليكن شعارنا دائما: يسّروا ولا تعسّروا، وسّعوا ولا تضيّقوا، بشّروا ولا تنفّروا؛ ففوق كل ذي علم عليم!
