الجمعة ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم محمد أحمد العدوي

حلوى

لم يأت ولع أسعد بهذه الحلوى من ذوق خاص أو رهافة حس. فلم يذكر أحد عنه أنه كان حاضر الذوق في شيء من أمور حياته، لا هو يختار ثيابه بعناية ولا حتى يضع عطرا مميزا عند خروجه. بل لم يكن يعني له الطعام إلا سد جوعه حين يعود إلى بيته عند نهاية النهار. وسواء عليه أوضعت له زوجته بيضا أم لحما. كما لم يحدث أن امتدح شيئا قدمته له زوجته يوما. إنما كان لهذا الولع قصة أخرى تبدأ حين مال صديقه يوما على دكان في طريقهما واشترى منه قطعتين من هذه الحلوى الساحرة وشيئا يشربانه فأخفا القطعة في جيب سترته لما رأى ما دفعه فيها صديقه واكتفى بالشراب.

كل علاقته بهذه الحلوى هو ذكريات العيد ومرض أبيه حين كان يجلبها لهم الزوار الذين يعودونه، فتخفيها أمه سريعا لتسد بها ما يطرأ عليها من مناسبات لا تحسب لها حسابا, وما يناله هو وأخوته لم يكن إلا بعضا مما يتلف غلافه أو يتغير طعمه. و الغريب أنه وهو طفل لم يكن يهفو كثيرا لهذا الشيء مخالفا طبع الأطفال في حب الحلوى وطبعهم في حب الوصول إلى كل شيء يخفيه عنهم الكبار.

حين فتح اللفافة وجد على ظهرها بطاقة تخبره بفوزه بهدية الشركة؛ ثلاجة كبيرة السعة. وأن عليه أن يتصل بالشركة ليعلم التفاصيل. و لما أجابه الموظف بوجودها وأن عليه أن يأتي لتسلمها استعان بسيارة ابن جاره ليعود بها وقد ملأتها الشركة بكل منتجاتها من هذه الحلوى.

ثلاجة بيضاء كبيرة ترتبت فيها علب الحلوى كأنها لآلئ في صندوق عاج.

هنا بدأت علاقته بهذه الحلوى الساحرة . يتناولها كل صباح قبل أن ينزل إلى عمله و يملأ بها حقيبته. يأكلها في الحافلة وفي المكتب وهو راجل وأثناء قراءته للصحف على مقعده الأثير في الحديقة القريبة من بيته. ولم يكن ينقذه من شعوره بالسأم إلا أن يهرع إلى هذه الثلاجة يخرج منها ما تصل إليه يده. كل ذلك كان يفعله بتلقائية المستسهل لوجودها بين يديه فلا هو يمر على ( شعبان ) يشتري شطائره التي لم ينقطع عنها عشر سنين كاملة ولا يطلب ( سعدية ) التي لم يترك قهوتها منذ التحق بهذا العمل.

وكلما مر يوم ازداد تميزه للأنواع التي في الثلاجة حتى بدأ يقسمها على أوقاته. فالناعمة سريعة الذوبان حين يصبح، وذات المكسرات في الضحى والتي حشيت بالسكر الذائب حين تشتد وطاة اليوم والبيضاء وهو جالس يشاهد مسرحيته الأثيرة قبل أن ينام ومنزوعة السكر وهو يشرب القهوة في الشرفة صباح أيام الجمعة. وكلا العملين الأخيرين إنما صنعهما صناعة لهذين النوعين فلم يكونا من جدول أيامه قبل ذلك .

تغيرت حياته كلها فأصبح أكثر رقة و هدوءً. يقطع اوقاته في العمل يشرح لزملائه كيف تؤكل الشوكولاه. كيف يختارونها وكيف يهدونها. وأي أنواعها يصلح في جلسة ود وأيها يصلح للأطفال وهم يدرسون..

لكن شهرا واحدا كان كافيا أن يفتح الثلاجة ليجدها كصحراء الجليد موحشة باردة و هي التي أمدته بالحياة الدافئة طوال الأيام الماضي.

عندها أحس بالحياة؛ فكما تدرك شيئا من لذة النوم عند أول تفتح لعينك مع النور ليحلو النوم أكثر وأكثر أدرك هو لذة الشهر كلها في هذه اللحظة. وحلت في عينه.. لكن الغطاء الذي تشده والوسادة التي تغرق فيها عند عودتك للنوم لن يكونا بهذا اليسر هنا. لقد فرغت الثلاجة؛ و جيبه لا يقوى أن يعيد هذه الحياة التي كانت. لا يمكنه بحال وهو الموظف الملتزم بمصاريف بيته وأقساطه المتراكمة أن يعوض تلك الحياة الممتلئة ولو بربع ما كان.

يوم واحد كان فرقا بين صباحين. صباح حي وصباح نزعت روحه. كم كان ثقيلا عليه أن تعود حياته في لحظة ثلاثين يوما مرة واحدة. الحياة التي انطلقت كشرارة الضوء خبت كجذوة النار. في لحظة شعر كأن قبرا واسعا فتح له فمه. كأن بئرا بعيدة هوى فيها.

جرب أن يملأ هذا الفراغ بما تطوله يده؛ اشترى أنواعا رخيصة منها لكنها لم تقدم له شيئا، بقي ذات الفراغ كبيرا مظلما. غرق في أشياء كثيرة؛ أصبح أكثر نهما في الطعام و أكثر نهما مع زوجته أيضا. لكن الفراغ بقي كما هو.

كثرت حوادث كسر المحلات في ذلك الحي المتوسط ولم تسجل حالة سرقة واحدة إنما تشابهت كلها في اختفاء نوع واحد من الحلوى !!

كان الموقف غريبا للمارة.

رجل أربعيني يقف في ركن الطريق ملطخ الوجه واليدين بشوكلاتة جافة. جسده ذابل وعينيه زائغتين. كأنه مخمور على باب حانة قرب الفجر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى