الأحد ٢٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٩
بقلم رامز محيي الدين علي

حينَ يغضبُ الأدباءُ

بدايةً أقفُ على مفهومِ الغضب، وهو من السِّمات التي نجدُها عند المخلوقاتِ الآدميّة وغيرِها من الكائناتِ الحيّة التي تحملُ في كيانِها مشاعرَ وأحاسيسَ، وإن لم تتحلَّ بسماتِ العقلِ والفهم والتّفكيرِ والكلامِ والتّعبيرِ.

ويُمكننا أن نعرّفَ الغضبَ على أنّه إحدى العواطفِ وردودِ الأفعالِ التي تصدرُ من بني الإنسانِ بشكلٍ طبيعيٍّ وصحِيٍّ، ويمكن وصفُ الغضبِ بأنّه ذلك الشُّعورُ القويُّ الذي يحرّكُ مشاعرَ الإنسانِ حينما يتعرَّضُ لإهانةٍ أو إيذاءٍ من الآخرين، أو حينما يتلقّى خبراً مزعجاً، أو تثيرُه بعضُ المظاهر أو الأسبابِ التي تنأى عن سلوكِه وطبعِه. ولكنّ الغضبَ من السّماتِ السلبيّة التي تعبّر- حسبَ رأيِ علماءِ النّفس- عن ضعفِ إرادةٍ وفقدانِ القدرةِ على التّحُّكم بالنفسِ، وحينَها يفقدُ الإنسانُ توازنَه ويسيءُ التّصرُّفَ في الأقوالِ والأفعالِ، ويترتّبُ على ذلك آثارٌ ضارّة في العلاقاتِ الاجتماعيّة؛ فتنتشرُ الكراهيةُ، وتنعدمُ الثّقةُ والطُّمأنينةِ، وتسودُ أجواءُ التوتُّرِ والمشاحناتِ وغيرُها ممّا يعرفُه ذوو الخبرةِ والتّجربة.

ولكنّ غضبَ الأدباء له نكهاتٌ فريدةُ المذاق، تختلفُ عن طعمِ الغضبِ لدى العامّةِ والخاصّة، وإن أردْنا تذوُّقَ تلك النّكهاتِ، فلنا في بطونِ كتب التّاريخِ الأدبيِّ وسيَرِ الأدباءِ أدلّةٌ تكادُ تغصُّ بها صفحاتُ تراثِنا العربيِّ، وغيرِه من تراثِ الأممِ الأخرى.

ولكي تكونَ مقالتي متنوِّعةَ المذاقِ والنَّكهات، فقد رأيتُ أن أنوِّعَ بين تلك الطّرائفِ النّاجمةِ عن الإحساسِ بالغضبِ وما يصاحبُه من إطلاقٍ للسّجيّةِ، وهيجانٍ للمهجةِ، وثورانٍ في الارتجالِ، وتدفُّقٍ في القريحةِ الأدبيّة.

ولنا في قصائدِ المتنبِّي في مجلسِ سيفِ الدّولةِ الحمْدانيِّ آياتٌ بيِّنات، تلك التي أنشدَها ارتجالاً، بعدما نالَه من وشاياتِ الحاسدينَ كلُّ أذىً نفسيٍّ، فجَّر بركانَ غضبِه، فانطلقَت حممُ قريحتِه أشعاراً زلزلتْ حسَّاده، ودفعتْهم إلى المزيدِ من التّهكُّمِ والتّحريض، لكنّ المتنبّي الذي يحملُ في ذاتِه نفساً أبيّةً وعزّةَ شموخٍ وكبرياءَ، تأخذُه حميّةُ الفخرِ بمآثرِه وخصالِه، وينسى جلساءَه، ولو كانوا من أعظمِ ملوكِ الأرض قاطبةً.

كان أبو الطيِّبِ المتنبّي (أحمدُ بن الحسينِ) أحدَ أشهرِ شعراءِ العرب، ذاع صيتُه، ولمعَ نجمُ شهرتِه في فضاءِ القرن العاشرِ الميلاديِّ، واشتُهر بفروسيّتِه وشجاعتِه وفخرِه بنفسِه واعتدادِه بذاتِه، وعُرف بحكمِه وقصصِه ونوادرِه، وكان أحدَ الشُّعراءِ الفطاحلِ الذين قتلتْهم قصائدُهم، وقد اقترنَ اسمُ المتنبّي بالخليفةِ سيفِ الدّولة الحمْدانيِّ مؤسِّسِ إمارةِ حلبَ الذي اشتُهر بفروسيّتِه، وحبِّه للأدبِ والأدباءِ، وثقافتِه؛ فقد نشأ في عائلةٍ ثريّةٍ، هيَّأت له أسبابَ الثَّقافةِ والحضارةِ، فتتلمذَ على أيدي أبرزِ الأساتذةِ والمُعلِّمين، وانعكسَ ذلك في أحاديثِه، وتصرُّفاتِه، وأفكارِه، حينما جعلَ من حلبَ مدينةَ العلماءِ، والأدباءِ، والشُّعراء؛ لتزدهرَ فيها العلومُ، والفلسفةُ، والأدبُ.

روى عبدُ المحسنِ عليُّ بنُ كوجك أنّ أباه حدَّثه فقال: كنتُ بحضرةِ سيفِ الدّولة وأبي الطيِّبِ اللُّغويِّ، وأبي الطيّبِ المتنبّي، وأبي عبدِ الله بنِ خالويه النَّحْويِّ، وقد جرَت مسألةٌ في اللّغة، تكلّم فيها ابنُ خالويهِ مع أبي الطيّبِ اللّغويِّ، والمتنبّي ساكتٌ، فقال له سيفُ الدّولة: ألا تتكلَّمُ يا أبا الطيِّبِ (المتنبّي)، فتكلّم فيها بما قوّى حُجَّة أبي الطيّبِ اللُّغويِّ، وضعّفَ قولَ ابنِ خالويهِ.
فأخرجَ ابنُ خالويهِ من كمِّه مفتاحاً حديداً؛ ليلكُم به المتنبّي، فقال له المتنبّي: اسكتْ ويحَك، فإنَّك أعجميٌّ، وأصلُك خوزيٌّ، فما لك وللعربيَّةِ؟ فضربَ وجهَ المتنبّي بذلك المفتاحِ، فأسألَ دمَه على وجهِه وثيابِه، فغضِبَ المتنبّي من ذلك، إذ لم ينتصرْ له سيفُ الدّولة لا قولاً ولا فعلاً، فكان ذلك أحدَ أسبابِ فراقِه سيفَ الدَّولة().

وقد اعتادَ المتنبّي أن يمدحَ سيفَ الدّولةِ في قصائدِه، فكان سيفُ الدّولة يمنحُه ثلاثةَ آلافِ دينارٍ كلَّ عام، مقابلَ ثلاثِ قصائدَ فقط. وهذا ما أثارَ حسدَ وغيظَ الشَّاعرِ أبي فراسٍ الحمْدانيّ ابنِ عمِّ سيفِ الدّولة، ودفعَه للوشايةِ بالمتنبّي وإثارةِ الوقيعةِ بينَه وبين الخليفةِ، إذ قالَ لسيفِ الدّولة: إنَّ هذا المُتمشدِقَ كثيرُ الإدلالِ عليك، وأنت تُعطيه كلَّ سنةٍ ثلاثةَ آلافِ دينار،عن ثلاثِ قصائدَ، ويُمكن أن تُفرِّقَ مائتَي دينارٍ على عشرينَ شاعراً يأتون بما هو خيرٌ من شعرِه، فتأثَّر سيفُ الدّولةِ بهذا الكلامِ، وعملَ به، وكان المتنبّي غائباً، وبلغتْه القصّةُ، فدخل على سيفِ الدّولة، وأنشد:

ألا ما لسـيفِ الدّولةِ اليومَ عاتِبــــاً
فداهُ الورى أمضَى السُّيوف مضارِبَا
ومالي إذا ما اشتقتُ أبصرتُ دوَنه
تنــــائفَ لا أشتاقُهـــا وســـباسِـــــبا
وَقد كانَ يُدْني مَجلِسِي مــن سَـمائِهِ
أُحــادِثُ فيــها بَدْرَهَـــا وَالكَوَاكِـــــبَا
حَنَــانَيْكَ مَسْـــؤولاً وَلَبّيْكَ داعـــــياً
وَحَسبيَ مَوْهُـــوباً وحَســبُكَ وَاهِبَــا
أهـذا جَزاءُ الصّدْقِ إنْ كنتُ صادقاً
أهــذا جَــزاءُ الكِـــذبِ إنْ كنتُ كاذِبَا
وَإنْ كانَ ذَنْبي كلَّ ذَنْــــــبٍ فإنّـــــهُ
مَحا الذّنْبَ كلَّ المَحوِ مَــن جاءَ تائِبَا

فأطرقَ سيفُ الدّولةِ، ولم ينظرْ إليه كعادتِه، فخرج المتنبّي من عندِه متغيِّراً، وحضرَ أبو فراسٍ وجماعةٌ من الشُّعراءِ، فبالغُوا في الوقيعةِ في حقِّ المتنبّي، وانقطعَ ينظمُ القصيدةَ التي أوّلُها:

واحَــرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَـــبِمُ
وَمَــن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
وجاء وأنشدَها، وجعلَ يتظلّمُ فيها من
التَّقصيرِ في حقِّه كقولِه:
مالي أُكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَـدي
وَتَدَّعي حُبَّ سَيفِ الدَولَةِ الأُمَــمُ
إِن كانَ يَجمَعُنا حُـــبٌّ لِغُرَّتِــــهِ
فَلَيـتَ أَنّا بِقَـــدرِ الحُـــبِّ نَقتَسِمُ
قد زرتُه وسيوفُ الهندِ مُغْمـدةٌ
وقـد نظـــرتُ إليهِ والسُّيوفُ دمُ

فهمَّ جماعةٌ بقتلِه في حضرةِ سيفِ الدّولة؛ لشدَّةِ إدلالِه وإعراضِ سيفِ الدّولةِ عنه، فلمّا وصلَ في إنشادِه إلى قولِه:

يا أعدلَ النّــاسِ إلّا في معاملتِي
فيكَ الخصامُ وأنتَ الخصْمُ والحكَمُ

فقالَ أبو فراسٍ: مسختَ قولَ دِعبِلَ وادّعيتَه وهو:

ولستُ أرجُو انتِصافاً منكَ ما َذرفَتْ
عينِي دمُوعاً وأنتَ الخصْمُ والحكَمُ

فقالَ المتنبّي:

أُعيذُها نظَــراتٍ منكَ صادقةً
أنْ تحسبَ الشَّحمَ فيمَن شحْمُه ورَمُ

فعلِم أبو فراسٍ أنَّه يعنيهِ؛ فقال: ومَن أنتَ يا دعيَّ كِندةَ حتّى تأخذَ أعراضَ أهلِ الأميرِ في مجلسِه؟ فاستمرَّ المتنبّي في إنشادِه، ولم يردَّ عليه، إلى أنْ قال:

سيَعلَمُ الجمعُ ممّنْ ضمَّ مجلسُنا
بأنَّني خيرُ مَن تسعَى به َقـدَمُ
أَنا الّذي نظرَ الأعمَى إلى أدبِي
وأسمعَتْ كلماتِي مَن بهِ صممُ

فزادَ ذلك غيظاً في أبي فراسٍ، وقال: سرقتَ هذا من عمْرو بنِ عُروةَ بنِ العبدِ في قولِه:

أوضحتُ من طُرقِ الآدابِ ما اشتَكَلتْ
دهْـــراً وأظهرْتُ إغـــراباً وإبداعَا
حتّى فتحــتُ بإعجــازٍ خُصِصْتُ بـــه
للعُـمْيِ والصُّــمِّ أبصَـاراً وأسْماعَا
ولمّا وصلَ إلى قولِه:

الخيلُ واللّيلُ والبيــداءُ تعرفُنِي
والسَّيفُ والرُّمحُ والقرطاسُ والقلمُ

قال أبو فراسٍ: وما أبقيْتَ للأميرِ، إذا وصفْتَ نفسَك بالشَّجاعةِ والفصاحةِ، والرِّياسةِ والسَّماحةِ، تمدحُ نفسَك بما سرقتَه من كلامِ غيرِك، وتأخذُ جوائزَ الأميرِ؟ أما سرقتَ هذا من قولِ الهيثمِ بنِ الأسودِ النَّخعيِّ الكُوفيِّ المعروفِ بابنِ العريانِ العثمانيِّ، وهو:

أَعـَـاذلتِي كــــم مَهْــمَهٍ قــــــدْ قطـــعْتُهُ
أليفَ وُحــــوشٍ ســــاكناً غيــــرَ هائِــبِ
أنا ابنُ الفَلا والطَّعنِ والضَّربِ والسُّرَى
وجُــــرْدِ المَذاكِي والقَنَـــا والقَــــواضَبِ
حلِيْــــمٌ وَقُـــورٌ في البــــوادِي وهيْبَتِي
لها في قُلــــوبِ النَّـــاسِ بطْشُ الكتـائبِ

فقال المتنبّي:

وما انتفاعُ أخي الدُّنيا بناظرِهِ
إذا استَوتْ عندَهُ الأنوارُ والظُّلمُ
قال أبو فراسٍ: وسرقتَ هذا
من معقِلٍ العِجْليّ، وهو:
إذا لم أُميِّزْ بين نورٍ وظُلْمةٍ
بعينيَّ فالعينانِ زورٌ وباطِلُ
ولمحمّدَ بنِ أحمدَ بنِ أبي

مُرَّةَ المكِّي مثلُه، وهو:

إذا المرءُ لم يُدرِكْ بعينيهِ ما يُرى
فما الفرقُ بينَ العُميِ والبُصَراءِ؟

وغضبَ سيفُ الدّولةِ من كثرةِ مناقشتِه في هذه القصيدةِ، وكثرةِ دعاويهِ فيها، فضربَه بالدّواةِ التي بين يديهِ، فقال المتنبّي في الحالِ:

إنْ كان سرَّكُمُ ما قالَ حاسدُنا
فما لجُـــرحٍ إذا أرضَاكُمُ أَلـــمُ

فقال أبو فراسٍ: أخذتَ هذا من قولِ بشّار:

إذا رضيتُم بأنْ نُجفَى وسَرَّكُمُ َ
قولُ الوشاةِ فلا َ شكْوَى ولا ضجرُ

فلم يلتفتْ سيفُ الدّولةِ إلى ما قالَه أبو فراسٍ، وأعجبَه بيتُ المتنبّي، ورضيَ عنه في الحالِ، وأدناهُ إليه، وقبَّلَ رأسَه، وأجازَه بألفِ دينار، ثمَّ أردفَه بألفٍ أخرى، فقالَ المتنبّي:

جاءتْ دنانيرُك مختومةً
عاجِلــةً ألفاً على ألْفِ
أشْبهَهَا فعلُكَ في َفيلَــقٍ
قلَّبَتَه صفَّاً على صفِّ

وهكذا يختتمُ المتنبِّي قصيدتَه في العتابِ، ويطفِئ ثورةَ غضبِه من حسَّادِه ووشاتِه أمامَ سيف الدّولة الحمدانيِّ بقولِه:

شرُّ البلادِ مكانٌ لا صديقَ بهِ
وشرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ
وشرُّ ما قنصَتْه راحتِي َقَنصٌ
شُهبُ البُزاةِ سواءٌ فيه والرَّخــمُ

وحينَ لا يجدُ المرءُ في بلادِه صديقاً وفيّاً مخلصاً، يشدُّ ركابَ الرّحيلِ إلى بلادٍ بعيدةٍ؛ لعلّه يألفُ ما يُنسِيه همومَه، ويحقِّقُ ما كان يطمحُ، وكانت هذه الدّوافعُ وراءَ رحيلِ المتنبّي إلى أرضِ الكِنانةِ، ومدحِه لكافورٍ الإخشيديِّ؛ لعلَّه يحقّقُ ما كان يصبُو إليه من إمارةٍ، ولكنْ هيهاتَ للأيّامِ أن تُعطيكَ كلَّ ما تشتِهي، وتنالَ كلَّ ما تحلُمُ به، وهذا ما عبّرَ عنه المتنبّي نفسُه بقوله

بِمَ التّعَلّلُ لا أهْــــــلٌ وَلا وَطَــنُ
وَلا نَديــــــمٌ وَلا كأسٌ وَلا سَــــكَنُ
أُريـــدُ مِـنْ زَمَني ذا أنْ يُبَلّغَني
مَا لَيسَ يبْلُغُهُ مــن نَفسِهِ الزّمَــــنُ
لا تَلْقَ دَهْرَكَ إلاّ غَيــرَ مُكتَرِثٍ
ما دامَ يَصْحَبُ فيهِ رُوحَــكَ البَـــدنُ
مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَــرْءُ يُدْرِكُهُ
تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ

ومن طرائفِ الأدباءِ حين غضبِهم قصَّة حدثَت في إحدى المدارسِ الثّانويّة السُّوريّة (ثانويةِ المتنبّي) وكان أحدُ معلمِّيها شاعراً فطريّاً مطبوعاً من الطِّرازِ الرّفيعِ يقولُ الشِّعرَ ارتِجالاً.. وذاتَ يومٍ وطِئتْ قدمَا شاعرٍ حديثٍ حرمَ المدرسةِ، وهو من شعراءِ (الغرّةِ والسَّكسوكةِ والعنْفقَةِ)، وكان يتأبّطُ دواوينَه باحثاً لها عن سوقِ نخاسَةٍ، لكنَّه أخطأَ الغايةَ التي كان ينشدُها، فدخلَ أحدَ الصُّفوفِ بعد تصريحِ الدُّخولِ من إدارةِ المدرسة؛ ليُلقِيَ نماذجَ من شعرِ دواوينِه أمامَ الطُّلابِ، ولسوءِ حظِّه كان الشاعرُ الكبيرُ معلِّماً لذلك الصّفِّ، فاستأذنَه بإلقاءِ بعضِ قصائدِه، دون معرفةٍ منه أمامَ مَن يتبجَّحُ بدواوينِه المزركشةِ بالرُّسومِ والألوان.

بدأ الشّاعرُ الحديثُ بالإلقاءِ، ولم يُكْملِ الصَّفحةَ الأولى من الدِّيوانِ الأوَّل، حتى ثارَت ثائرةُ الشَّاعرِ المطبُوع، فاستلَّ الدّواوينَ من يدَي الشَّاعرِ الحديثِ، وراحَ يمزِّقُها إرْباً إربَاً، ويطؤُها بقدميهِ، وتبعثرتِ الأوراقِ هنا وهناك، كما تبعثرتْ كلماتُ الشّاعرِ الكبيرِ بلعنِ الجهاتِ التي أرسلتْهُ لتسويقِ ذلك الشِّعرِ الهجينِ، وخرجَت قبضتاهُ عن أدبِ الشِّعرِ، وانهالتْ فوق رأسِ الشُّعرورِ مثلَ مخالبِ النَّسرِ على جسدِ فريستِه، كما ثارتْ ثائرةُ الطُّلابِ، وتفجَّرت قرائِحُهم الأدبيَّةُ المكبوتةُ، وانهالُوا على ذلك الشَّاعرِ شتماً وضرباً!

فخرج الشُّعرورُ مذعوراً متوجِّهاً إلى الجهاتِ العليا التي أرسلَتْه للتّسويقِ، وحضرَت الجهاتُ الأمنيّةُ لاعتقالِ الشَّاعرِ الكبيرِ مع طلّابِه، لكنَّ مديرَ المدرسةِ كان إدلبيَّا أصيلاً، فرفضَ اعتقالَ أيٍّ منهم، ومنعَهم من الدُّخولِ إلى حرمِ المدرسة، وراح يعزِفُ على الأوتارِ الوطنيَّةِ الإدلبيَّة التي يفهمُها رجالُ الأمن، ولا سيّما أنّها ألحانٌ مستوحاةٌ من أغاني ملحمةِ الكرنفالِ في فنونِ الاستقبالِ بالأحذيةِ والنِّعالِ لهولاكو ومن معهُ من الرِّجالِ.. فحُلَّتِ المشكلةُ، وانتهتْ ثورةُ التّمرُّدِ الفطريِّ على الحداثةِ، لكنَّني ما زلتُ أجهلُ مصيرَ الحداثةِ التي كان يحملُها ذلك الشَّاعرُ!

أمَّا (برنارد شو) الكاتبُ الإيرلنديُّ السَّاخرُ، فغضبُه فكاهةٌ وسخريةٌ يُخفيانِ في ظلالِهما حقيقةَ الحياةِ المُرَّة، وإغاظتُه حكمةٌ وطُرفةٌ.

فقد كان (برنارد شو) صديقاً حميماً (لونستون تشرشل)، رئيسِ وزراءِ إنكلترا، وكان (تشترشل) يتعمّدُ التّحرُّشَ بصديقِه؛ ليستمتِعَ بسخريتِه، ومن ذلك أنَّ (تشرشل) - وكان رجلاً سميناً - قال مرَّةً (لبرناردشو)، الرّجلِ النَّحيلِ: إنّ مَن يراكَ يا (شو) يظنُّ أنَّ في إنجلترا مجاعةٌ.

فأجابَه (برنارد شو) على الفورِ: ومَن يراكَ يُدركُ سببَ هذه المجاعةِ.

ومن المواقفِ المضحكةِ بينَهما أيضاً أنّ (برناردشو) أرسل ذاتَ مرّةٍ بطاقتينِ (لتشرشل) يدعوهُ فيهما إلى حضورِ العرضِ الأوّلِ لإحدى مسرحيّاتِه، وأرفقَهما بالملاحظةِ التّالية: "تعالَ مع صديقٍ، إن كانَ لديك..".

فأعادَ له (تشرشل) البطاقتينِ معتذراً بأنّ لديهِ ارتباطاً آخرَ، وأرفقَهما بردٍّ على الملاحظةِ: "أرجو أن تُرسلَ لي بطاقتينِ للعرضِ التَّالي، إن كانَ هناك...".

وثمّةَ طرائفُ عديدةٌ بين (برناردشو) والنِّساء، من ذلك أن إحدى السَّيِّداتِ أرادَت إغاظتَه فقالتْ: "لو كنتَ زوجِي، لوضعتُ لك السُّمَّ في القهوةِ". فسارعَ إلى القول: "ولو كنتِ زوجتِي لشربتُها".

وقالت إحدى السَّيِّداتِ البارعاتِ في الجمالِ (لبرنارد شو): "حبَّذا لو تزوَّجتَ بي، فيأتِي مولودُنا بجمالِي وذكائِك، فيكونُ أعجوبةَ الدَّهرِ". فردَّ (برنارد شو): "أخشى أن يأتيَ المولودُ بذكائِك وجمالِي، فيكونُ مصيبةَ الدَّهرِ".

وأمّا شاعرُ السَّلميّةِ السُّوريّةِ أحمدُ الجنديّ، فلغضبِه وغيظِه ألوانٌ أخرى من الفكاهةِ والسُّخريةِ، فقد كان الجندي يَضيقُ ذرْعاً بكثرةِ الأشخاصِ الّذين يكتبون الشِّعرَ في مسقطِ رأسِه، فيعبِّرُ عن هذا الضّيقِ بقولِه: كلُّ شخصينِ تراهُما ماشيينِ في أحدِ أزقَّةِ السَّلميّةِ، هما عبارةٌ عن ثلاثةِ شُعراءَ!

ومن طرائفِه أنَّ شاعراً من ذوي المواهبِ الصّاعدةِ جاء إليهِ وأسمعَه قصيدةً يائيَّةً، فلم تنلِ القصيدةُ إعجابَ الشَّاعر، فقال لصاحبِ القصيدةِ: احمَدْ ربَّكَ على أنَّكَ يائيٌّ ولستَ واويَّاً! (الواوي حيوانٌ جبليٌّ من فصيلةِ الثّعالبِ!).

ونشرَ أحدُ الشُّعراء قصيدةً في إحدى الصُّحفِ المحلِّيَّةِ يقولُ فيها:

لم أعدْ أعرفُ شرقِي من غربِي
وصديقتِي تنتظرُني عند موقفِ الباصِ
إنَّ القدَرَ يلعنُنِي

في اليومِ التّالي تمكّن الشّاعرُ أحمدُ الجندي من الحصولِ على رقمِ هاتفِ هذا الشّاعرِ، فاتَّصل به فوراً، وقال له: أنا القدرُ!

وأمَّا شاعرُ السَّلميَّةِ الآخرُ الذي يُوحِي لقبُه بصرخةِ الغضبِ والسُّخريةِ، فإنَّه محمَّد الماغُوط الذي عُرفَ بسخريتِه اللّاذعةِ من حالتِه الاجتماعيَّة المُزريةِ، فقد نشأ فقيراً، مشرّداً، مَديناً، يُعاني من الخوفِ والبردِ.

فقد انتسبَ في صباهُ إلى الحزبِ السُّوريِّ القوميِّ الاجتماعيِّ، ولُوحِقَ من قبلِ السُّلطاتِ، بسبب انتمائِه إلى هذا الحزبِ، ولكنَّه حينما سُئِل، في وقتٍ لاحقٍ، عن سببِ انتسابِه إليه، أجابَهم بطريقتِه الهزليَّةِ المُفعمةِ بالسُّخريةِ: "خرجتُ من بيتي في السَّلميَّةِ ذاتَ يومٍ، وأنا أُعاني من البردِ الشَّديدِ، وأجريتُ جولةً على مكاتبِ الأحزابِ الموجودةِ في السَّلميّةِ كلِّها، فلم أجدْ حزباً يمتلكُ مدفأةً غيرَ الحزبِ القوميِّ، فانتسبتُ إليه!

حسبي ما أوردتُه من قصصِ غضبِ الأدباءِ والشُّعراءِ الّتي قد تنتهِي إلى مأساةٍ وجدِّيّة، وقد تُفضي إلى ملهاةٍ وفكاهةٍ وسخريةٍ، على نحوِ ما سبقَ ممَّا ذكرتُه، وهو غيضٌ من فيضٍ، ولكنَّ تلك القصصَ ليستْ حِكراً على الأدباءِ والشُّعراء، فربَّما نجدُ الأطرفَ منها عندَ العلماءِ والفلاسفةِ والمفكِّرينَ وبعضِ عامّةِ النَّاسِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى