الأربعاء ٢١ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم شريف براهيم

حين تهمس الأرض

القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥

مرّ عام وأكثر، والسماء ما زالت تسعل ناراً، والبيوت تستيقظ على الأنين وتمضي للنوم على صلوات. لم يعد هناك فرق بين اليقظة والحلم، كلاهما ممتدٌّ على ظهر الوجع، وكلاهما ينتهي باسم: غزة.

في أحد الأزقة الضيّقة، حيث تحرس الحجارة سرّ المدينة، كان يعيش رجل يُدعى أمين. لم يكن شيخاً ولا شاباً، إنما رجل في منتصف العمر، يبدو كأنه يحمل على كتفيه قرناً من التعب. كان أمين حفّار قبور. ليس لأن الموت كثير فقط، بل لأنه يحب الأرض. قال ذات يوم:

"كلّ من رحلوا، عادوا إلى غزة من تحتها. وأنا مجرد دليلٌ في رحلة العودة."

لم يكن حفّار قبور بالمعنى التقليدي، بل كان شاعراً يحرّك المعول كما لو أنه يكتب سطراً في تراب. كل حفرة عنده كانت قصيدة. كل قبرٍ هو غصن زيتون مقلوب، وكل شهيد حجر جديد في معمار الحقيقة.

في الليل، حين تهدأ الطائرات مؤقتاً، كان أمين يجلس عند أطراف المقبرة، يحدّث القبور كما يحدّث الأب أبناءه: – "لقد ظللتم هنا، لم تهربوا كما أرادوا. أنتم أكثر حياة ممن عاشوا. أنتم ملح هذه الأرض، لا يذوب في الدم."

كان يسمّي القبور بأسماءٍ غريبة: "مرآة"، "أمل"، "شمس معلّقة"، "طفلة لم تكتمل".

يسأله أحدهم:

– "أليس هذا جنوناً؟"

فيضحك، ويجيب:

– "ربما، لكن الجنون الوحيد هو أن ننسى والقبور لا تنسى."

في النهار، تمشي رُبى، ابنة الثالثة عشرة، إلى المدرسة، التي لم يبقَ منها سوى جدار واحد ونافذة. كانت تحفظ دروسها على أنقاضها، وتكتب بقلمٍ كُسر ثلاث مرات، لكنها كانت تصرّ على شحذه بالحلم.

رُبى كانت ترى في الحرب وجهاً آخر. كانت تقول: – "الطائرات ترسم موتاً في السماء، لكنني أرسم وردة على كلّ جدارٍ متصدّع. أريد أن يقال: مرّت فتاة من هنا، ولم تمت."

كانت كلّ صباح تحيي الحيّ: – "صباح الخير يا شوارعنا الباقية."

وتحيي الأموات أيضاً: – "صباحكم حرية يا من غبتم لتحيوا فينا."

ذات مساء، جلس أمين عند قبرٍ حديث، وقال: – "هل تعرف؟ إننا لا نُهزم. لا لأننا نملك سلاحاً، بل لأننا نملك الصبر. ومن يملك الصبر، لا يموت."

جاءه شاب كان قد نجا من تحت الأنقاض، يُدعى كرم. كان جسده ملفوفاً بجراح، لكن عينيه كانتا تشعّان كأنهما نجمتان عصيّتان على الاحتراق.

قال كرم: – "كلما أرادوا أن يُنهونا، زرعوا فينا جذراً جديداً. نحن لسنا شعباً، نحن فكرة والأفكار لا تُقصف."

ردّ أمين وهو يربّت على التراب: – "بل نحن نبوءة، نُعيد تشكيل العالم من تحت الركام."

في أحد الأيام، توقف القصف لثلاث ساعات. كأن السماء تنام، أو تأخذ إجازة قصيرة من الجنون. في تلك الساعات، اجتمع أهل الحي على أنقاض مسجد، وأقاموا صلاة. لم تكن صلاة خوف، بل صلاة صمود. كان الإمام يقرأ: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً..."

وبين الركعات، كانت الأرواح تتهامس: – "هل يسمعنا العالم؟"

– "لا، لكنه سيذكرنا حين يعيد تعريف الشجاعة."

مرت سنة كاملة. كل بيت تهدّم، بُني في الذاكرة من جديد. كل طفل سقط صار مدرسة تدرّسُ في القلوب، كل أمّ بكت،د كتبت قصيدة غير مرئية على وجه الشمس.

وفي أحد الأماسي، صعد أمين إلى سطح بيته المهدم، نظر إلى الأفق، ثم همس: – "غزة، يا أنشودة الطين والدم، يا أول القصيدة وآخرها. هل تعلمين؟ أنت لا تقاومين بالحجارة فقط، بل بالكلمات، بالحب، بالعناد. أنت صرخة الله في وجه الطغاة."

كتبت رُبى في دفترها الممزق:

"نحن لم نعد ننتظر النهاية، نحن أصبحنا البداية."

ثم رفعت قلمها، ونظرت إلى السماء الملبّدة بسخام الحرب، وهمست:

"أنا بنت الندى حين يموت المطر،

أنا ظلّ الخبز حين يُمنع القمح،

أنا غصن الزيتون الذي تعلّم كيف يصفع الريح."

كانت كلماتها تُتلى على الجدران كما تُتلى الأدعية، وكان أهل الحي يتداولون دفاترها كمن يتداول وصايا.

امرأةٌ عجوز قالت يوماً وهي تمسح غباراً عن دفتر رُبى: – "هذه الكلمات أطول من العمر، وأصدق من نشرات الأخبار."

أما الأطفال، فكانوا يجلسون تحت شجرة مقطوعة، يقرؤون بصوتٍ واحد من دفترها:

"لا تنظروا إلى الركام، بل إلى الأمل الذي ينهض من بينه.
لا تبكوا على النوافذ المكسورة، بل اغنوا لما رأته قبل أن تُكسر.
فنحن لا نبني البيوت فقط، نحن نربي الروح التي تسكنها."

كان صمودهم يتغذّى على حبرها.

وصار اسمها بين الناس: "شاعرة الأنقاض".

قال كرم يوماً: – "إن لم تكن هناك دولة تنصفنا، فلتكن هناك قصيدة. وربى بدأت الدولة الأولى."

وفي صمت الليل، سمع أمين صدى صوتها يأتي من عمق المقبرة، كأنّ الأرض تحفظه: "نحن لا نكتب لنُذكر، بل لنُشعل الطرقات في زمن الظلمة."

هكذا أصبحت رُبى، بقلمها ودفترها وجرأتها، ناراً هادئة تُضرم المعنى في القلوب، وتعلّم غزة ألا تنحني، حتى حين تتكسّر الأجنحة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى