حين يصمت الأدب
حين يتحول الأدب إلى غريب
فلابد أن يصمت
والغريب لا يفهمه
إلا من يعرف لغته.
لطالما كان للأدب دور عميق في تشكيل الذات الإنسانية وتسليط الضوء على المعاناة أو الظلم أو أية قضايا هامة تعتبر جزء من المجتمعات ومن كينونتها الذاتية التي لا تنفك عنها، ويكفي أن نذكر رواية دوستوفسكي "ذكريات من بيت الموتى"والتي غيرت من واقع السجون في سيبيريا في تلك الحقبة من تاريخ روسيا.
الأدب ليس رفاهية نتمتع به في أوقات الفراغ، وإن كان جزء منه هو كذلك ولكنه من أحد العوامل الهامة التي أسهمت وتُسهم في تغير البنية الفكرية والنفسية للفرد والمجتمع، وقد بينت الدراسات أن المساجين الذي كانوا يقرؤون في السجون تمكنوا بعد خروجهم من السجن من بدأ حياة طبيعية ولم يعودوا إلى السجن مرة أخرى، بل إن الأدب قد أسهم في إظهار مواهبهم في الكتابة والرسم والتمثيل.
في كل حالات الأدب التي نهل منها الناس أو على الأقل فئة من البشر، سكب الأدب كل جمالياته، تناسقه اللغوي، عمقه الفكري في عقول تلك البشر التي تقبلته واحترمته واعتبرته جزءاً من حياتها اليومية؛ فكان من ضمن المتع التي يصفها شخص لآخر هو جلوسه بجانب النافذة أو المدفأة ليقرأ روايته المفضلة.
ولكننا الآن نجلس بجانب الكمبيوتر ونحمل الهواتف الخلوية التي تسكب في أرواحنا وأفكارنا ذلك الكم الهائل من الصور والأفكار الغريبة والمشتتة وتلك الأخبار التي تتوالى في كل ثانية، وأدرك الآن كم أنه كان من الصحي للنفس والعقل حين كان يشاهد الناس نشرة الأخبار في الساعة الثامنة كل مساء، فقط نشره واحده لا تعج بالصور ولا بالأفكار ولا بالتعليقات.
والآن، يصمت الأدب، وينسحب بهدوء دون ضجيج، يختبئ خلف رفوف المكتبات التي تكاد تصبح مهجورة، يتفلت من أيدي الأدباء الذين لم يعودوا يكتبوا أدباً بل شرذمات من الأفكار والرغبات والشهوات. يصمت الأدب الحقيقي بمواجهة الأدب المتدني الركيك والذي لا يمنح الذات البشرية إلا مزيداً من الضحالة وربما السفاهة.
يصمت الأدب خلف كل الصور والتعليقات والأخبار والدعايات، يختبئ من عالم يضج بالضوضاء النفسية والفكرية والسمعية والبصرية، لا يجد له مكاناً هادئاً تحت ظل شجرة أو بالقرب من مدفأةٍ ما، حتى الأمهات يكدن يتوقفن عن سرد القصص قبل نوم أطفالهن، فقصص الأم أصبحت مملة بجانب التي الألعاب التي استولت على عقول الأطفال، والأمهات كذلك فقدن موهبة تأليف قصة صغيرة عن حوتٍ أو عن عصفورٍ ما.
الأدب لا يختفي، لأنه ليس فقط كلمات على السطور، الأدب بالأساس هو حالة شعورية وفكرية يتم تجسيدها على الورق لذلك يبقى وسيبقى، ولكنه يهرب بعيداً إلى حيث لا يجده أحد، يلتقط بعض أنفاسه الشفافة، يراقب الحياة من بعيد ويرى انزلاقها نحو السرعة والسطحية والشهوة والتفاهة، لا يجد له مكاناً، ولأنه عزيز النفس شريف المعاني لا يمكن أن يعيش بوسط لا معايير له ولا قيود.
ينسحب بعيداً ويعتريه الصمت الطويل، ولكنه ورغم انسحابه ورغم صمته يجد من يلحق به ولو إلى قمم الجبال؛ فهناك من يحتاج إليه، هناك من لا يستطيع أن يعيش دون جماله المعنوي ورقته الآسرة؛ فهو يذهب بعيداً ويلحق به من أحبوه ومن يحبون أن يستمعوا لصوته رغم صمته الطويل، وهم يسمعون كلماته حتى ولو غرق في ذلك الصمت الحكيم.
ونحن كذلك حين لا يفهمنا من حولنا، وحين تتحول الكلمات إلى شيء مُتعب وليس وسيلة للتفاهم نهرب إلى الصمت، فنحن ورغم إرادتنا نشبه الأدب ويشبهنا، ورغم اغترابنا عنه نلجأ أليه بلحظات التوق الروحي لشيء من السكينة، فإن لم نقرأ رواية أو كتاب، نقرأ جملة من ثلاث أو أربع كلمات تخبرنا كيف نحب وكيف نكره، كيف نجابه الغدر وكيف نستعيد ذواتنا، فنحن رغم صمت الأدب نصغي السمع إلى ما يقول حتى ولو لم يتفوه بحرفٍ واحد؛ فالأدب ليس تجرد مادي ورقي بل تواصل روحي وفكري مع كل تفاصيل الحياة وبكل أبعادها المرئية وغير المرئية.