الجمعة ٣٠ آب (أغسطس) ٢٠١٩
بقلم كفاح الزهاوي

خفافيش اخر الليل

طفق أفواج من طيور خفافيش الليل، باقتحام السماء في ساعة الغروب، وهم يتحلقون في فضائها، كطائرات الشبح، في سرب متماسك تبدو للناظر، كأنها لوحة متشابكة المعالم، لفنان اربكه صخب الزمان، فغطى الورقة البيضاء، بصبغة سوداء، وبينما صنعت اجنحة الخفافيش المتراصة جداراً، صار فاصلاً، بين السماء، والأرض، فحجب الغسق وساد السواد.

يغوصون في عمق الماضي، على حساب إغفال الحاضر، يجعلون من الحياة، مأتما ينزف بحورا من دماء الأنين والشجن. ينزعون عن أجساد الناس، ملابس الضمير، ويزرعون بذور التشتت والخمود في خلايا أحشائهم، لكي تولد الأشجار، بجذور هشة، تجعلها عاجزا على التماسك، والتلاحم، قلقة، مضطربة، منكسة، غير قادرة على إنتاج الثمار، وأغصانها تحمل أوراق شاحبة، واهنة، تسقط مع أول هَبَة ريح خفيفة. انشؤوا حديقة مهترئة، أرضها جرداء لا حياة فيها. حتى قطرات الندى لا تقوى على الجلوس في أحضان الأوراق الهزيلة، فتسقط هاوية على الأرض. فتذوب في تربتها المنخفضة، رطبة، رخوة وهشة، لا تستقر القدم عليها ثابتا، فتهبط الى الدرك الاسفل في سهل النفاق والشقاق..

جعلوا من اليأس، الانكسار، والانحدار، جوهر مقدساتهم. وحولوا هذا الكائن الحي بكل قواه وأجهزته العقلية والفكرية الى اجساد مخدرة، تقاد باجهزة محكمة، ذات خطوط مبرمجة، .يغرسون نبتة الموت، في كل نفس حية، مع بقاء الجسد واقفا بلا احاسيس، او مشاعر، تتجه نحو هاوية سحيقة. ارعبوا الناس بخرافات العصور السحيقة حتى بات المرء يتخيل دائما بانه وجها لوجه امام ملك الموت،عليه حساب ساعات أيامه ولياليه، عوضا عن ان يغتنم كل لحظة من لحظات حياته بالضحك والتمتع بسماع الموسيقى ونسائم الحياة البهية، فتنعش الروح وتنقله إلى عالم الحب والسلام. تسمع حفيف أوراق شجرة التين كلما تحركت، فتبعث في النفس احساس كصدح الناي، طروبا، فرحا يتجلى فيه معالم الحياة وجمالها. خفافيش آخر الليل يحاربون الناس إن فاض قلوبهم حبا بالوطن، يداهمون أحلامهم لمنعهم رؤية النور.

الحيرة والشك يتمازجان في بودقة الأمل، الى حين ساعة الموت . الناس في حالة من الشلل ،غير عابئين بمستقبلهم، ينتابهم الشعور، بالرعب، والخوف و يملأ قلوبهم كرغوة حارقة تمنعهم من التنفس. الخفافيش ادخلوهم في دهاليز الأوهام، بأن الشياطين المرئية بهيئة البشر، ملاكا تحيطه هالة من النور، تبعدهم عن شر الشياطين غير المرئية.

الأشجار، والورود، المتناثرة بهندسية متجانسة، على جانبي الطريق اختفت في معمعة الدخان الأسود، وقضت على الطبيعة الخلابة، حتى الأبصار فقدت قدرتها على الرؤية، ولم تبق منها سوى سمومها، تتسلل إلى الأنوف، كي تزكمها وتشم رائحة الهواء الفاسد، في ليلة غاب عنها الحلم.

هذه الخفافيش بعد ان اعتلت جدران الصدور تمكنت من التكيف مع متغيرات الطقس وتبادل الليل والنهار والتحكم بالفصول. حتى باتت الناس تعيش دون الشعور تحت مورفين تطلعاتهم. يشجعون الضعفاء على عزاء التحمل والصبر وأن يكونوا ودائع ورقيقين مستسلمين.

كلما توهجت الشمس و اتقد الفكر ونهض العقل من سباته. يتسلل القلق الى جحورهم، ويقتحم مضاجعهم ويستبد بهم الهلع، ينطلقون كحصان طروادة نحو اوكارهم الخبيثة في الغرف الفاسدة يتوجسون شرا.

انهم قراصنة العصر جاؤوا على متن سفينة مهترئة عبر الضباب الكثيف نحو جزيرة الاحلام التي أهلكتها الأمواج المتلاطمة، و الهائمة على بحر من الذهب. اغتنموا فرصة نيام أهل الجزيرة وبمساعدة سفهاء القوم تمكنوا من الاستيلاء على خزينة الذهب. جموع غفيرة عانت من قساوة الزمن لفقدانهم هَمْ الطائر العذب يسمى الحرية. بدلا من تحريرهم، وضعوهم في قفص كبير، مفتوح الأبواب، ولكن بعيد عن مدخل الخروج، أوهموهم بأن زمن العذاب ولى ولن يعود.

الحقائق اخذت اشكالا ذات قوالب مختلفة، وكأن للحقيقة وجوه متعددة، تبدلت بين ليلة وضحاها إلى لحية غير متناسقة، كثة، رثة، مبتذلة، تنبعث منها رائحة نتنة. سرعان ما امتهنوا وظيفة السرقة والتضليل تحت راية الفضيلة وايقاعات الحلال والحرام. بل جعلوا من الخسة والرذيلة شعارات يرددها فئة كبيرة من الناس، المخدرين بفيروس الأساطير، في صلواتهم. جعلوا من البشر، أمعة، كائنات ضارة، غير نافعة. لكي ينمو وينضج ضمن بيئة عفنة فتنتشر روائحها لتغطي مساحات أوسع. الوطن كالانسان قد يتعفن و يتحول الى جثة هامدة، كلما تمكن هؤلاء الخفافيش، من خلال الاستمرار في تهجين الناس، على نشر أساطير القرون الوسطى.حتى أصبح الوطن مكانا مرعبا ورهيبا.

تلك الخفافيش تستمر في التحليق جهارا دون اي رادع، تراقب عن كثب لكي تمنع تفرق الغيوم السوداء، التي غطت أديم السماء. ولكن الرياح المنعشة لابد ان تهب يوما في المسار الصحيح لتدفع اكوام الغيوم بعيدا وتشرق الشمس الخفية، لتلقي ببريقها الساطع فوق المنحدرات، والسهول، والوديان، وقمم الجبال الشماء، وفوق سطوح البيوت، في القرى، والأرياف المتعبة، والمدن المتروكة. سوف تزحف الناس في هدوء وسكينة، نحو اوكارهم المشبوهة، والملغومة بالضغينة، والإحباط، وسرعان ما تنتفض على القهر والطغيان، وهم حاملين شعلة الحرية ويصرخون بصوت عالي نعم للوطن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى