خيمة هرمة
أشعر بالبرد يلف عظامي، لا يغادرني بعدما طاب له المقام، أحاول مع كل زفير طرد أفكاري التي باتت أشبه بسلاسل صقلها الخوف. برد ومرض وجوع. كنت أحب الشتاء يوما، أسأل الخريف عنه دوما، أتصيد أخباره، يمرح قلبي طربا مع أولى بشائره، لا أكتفي بمشاهدة أمطاره من نافذة غرفتي، أتسلل بعيدا عن عيون أمي المعارضة، أتراقص تحت سمائه، أستنشق الحب والأمل مع هوائه البارد، أعود إلى غرفتي الدافئة، ألتحف غطائي الوفير الناعم، أحتسي الحليب الدافئ الذي تجود به أمي حبا وحنانا، أقبل صفحة الطبيعة الراقصة بغضب من خلال نافذتي، أغفو بين أحضان أحلامي على غيمة الأمان.
لم أعلم قبلا أن للشتاء قلبا باردا لا يعرف الرأفة، بدا الشتاء هنا مختلفا بعدما رحلنا عن بيتنا الجميل، شيعنا ذكرياتنا بعدما لفظتنا الحرب الطاحنة، بات بيتنا هرما بعدما أثقلته القذائف التائهة، استشعر والدي جراح منزلنا النازف، قرر الرحيل مع مئات آخرين، كانت خيام الملاجئ على الحدود من الكرم أن رحبت بنا.
لم يعد لي غرفة وسرير، لم يكن للخيمة نافذة، كنت أتوق لأشعة الشمس كل صباح، ففي سطوعها إعلان يوم جديد، كنت حريصا كل يوم على أن أكون أول من يزيل باب الخيمة، أطلقت عليه اسم البوابة، ربما لأنني أحببت ادعاء ذلك، أو لأنه كان بوابتي إلى الخارج. لم أفقد أملي بتحسن الحال يوما، ربما كنت ساذجا بتمسكي بذلك الحلم الجميل، حيث أعود إلى بيتنا، أذكر وعده لي أن يبقى صامدا أمام هجمات الصواريخ المزعجة.
ترنحت أحلامي، كنت أرى المرض قد طرق أبواب أختي الوحيدة، أشعر بأنفاسها المتقطعة، سعالها مستمر لا يكاد يهدأ حتى تثور ثورته. تغير أبي كثيرا، لم أعهد لحيته بهذه الكثافة، بات شعره أشعثا اكتسحه الشيب بغزارة. لم تكن أمي أوفر حظ منه بعدما أودعت ابتسامتها في صندوق ربما فقدت مفتاحه!
سنوات أربع مرت على وجودنا في ذلك المخيم، اتسعت رقعته خلالها كثيرا، بدا من الكرم أن اتسع لآلاف عديدة. دق الجوع والحرمان أجسادنا، بدت الأيام متشابهة، بينما بدا سكان المخيم متشابهين أيضا! ربما كان اليأس ما وحد ملامحهم وربما يكون الجوع أو الخوف أو جميعها مجتمعة.
افتقدت مدرستي كثيرا، اشتقت لألعابي وأصدقائي، علمت أن العديد منهم قد رحلوا إلى عالم جميل، قالت لي أمي أن صديقي سمير قد وجد مكانا أفضل من عالمنا، بات له جناحان، يحلق بهما أينما يشاء، بت أصلي لربي أسأله أن يمنحني جناحين كما سمير، قطعت على نفسي عهدا أن أحلق بهما إلى بيتنا، سأمحو عنه ساعتها غبار السنوات اليائسات.
لم أعد أحب الشتاء أبدا! أرتعب إذا ما اكفهرت السماء واجتمعت الغيوم السوداء، أناشد ما تبقى من أشعة الشمس بالبقاء، فخيمتنا هزيلة لا تملك صد تلك الرياح الغاضبة، اجتهدت أمي برتق تصدعاتها التي لا تلبث الرياح تنبش آهاتها. بت أكره رائحة الطين المبلل بماء المطر، تعبق أنفي بتلك الرائحة، كيف لا وخيمتنا تفترش الأرض الجرداء!
كنت أشاهد أمي تصلي كل ليلة، ترفع كفيها للسماء، تنشد الرحمة من رب رحيم، ترسل دعواتها مع عبرات ساخنة، تعلمت أن أصلي كما تفعل، أنتظر استسلامها للنوم لأقوم مصليا، أدعو بما كانت تدعو، لكنني كنت أزيد عليه قليلا، كنت أحاول لملمة ذكرياتي التي باتت بعيدة، وكأن ضبابا لفها، سألت ربي أن يعيد لي ذكرياتي.
بات من في المخيم راضخين بعيشهم مسلمين للأقدار مستسلمين لها، كم كانت فرحتي كبيرة عندما أقاموا عرسا في إحدى الخيام، ربما كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها شبح الابتسام على وجوه ظننتها لا تعرف للسعادة طريقا. سويعات قليلة من الفرح سرعان ما أعقبها سكون وعودة إلى غياهب الشتات الأليم.
كنت أتوق إلى المدرسة، ربما كان نضوب المعرفة في المخيم واستفحال الجهل بين أطفاله ما استدعى حلولا سريعة، تبرع بعض من سكانه بتعليم الأطفال أوليات الكتابة والقراءة، بدا أمر استرجاع ما كنت تعلمته قبل سنوات أشبه بالحفر في أرض خصبة أهملت مدة طويلة. كنت من القناعة ما جعلني شاكرا للظروف التي أتاحت لنا تلك الفرصة العظيمة.
شعرت باليأس يدب في أوصالي، لم أعد راغبا في سؤال أبي كما اعتدت سابقا، هل انتهت الحرب يا أبي؟ ربما أكون قد مللت من ذات الإجابة؛ ليس بعد يا ولدي! أو ربما كان الاعتياد على الحال على الرغم من قساوته. أو تكون نظرة اليأس المغروسة في مقلتي أبي ما ولّد اليأس في قلبي.
كانت الأيام الطويلة كفيلة بغسل البعيد من ذكرياتي، شعرت أولا بالارتباك، سرعان ما انتابني الارتياح، لم أعد أذكر حياتي القديمة التي طوتها الأيام، شعرت بالحرية بعدما تحررت من أثقال الماضي، لم أكن الوحيد الذي نفض ماضيه من رف الأيام، بدا جميع الأطفال محررين من قيودهم أيضا، ربما كان ذلك سببا في بقاء الابتسامة على وجوهنا، كم تمنيت لو يفعل والداي مثلما فعلت!
كان يوما باردا، صفقت الرياح فيه بغضب، لجأت إلى حضن أمي أريد بعض الدفء بعدما أعلن ردائي المهترئ استسلامه، كان حضنها دافئا على الرغم من القشعريرة التي أصابت جسدها النحيل، راحت تمرر أصابع يديها بين خصلات شعري المجعد، لم أستطع النوم ليلتها، فقد صبت السماء حملها الذي تلقته خيمتنا بكل أسى، سرعان ما شعرت بالبلل يطول ثيابي بعدما فاضت المياه أرض الخيمة. شعرت ببكاء أمي الصامت، تقلب عينيها بين طفليها الجائعين تارة وزوجها العاجز أخرى، لا تجد غير الأنين أنيسا.
بدا المخيم في حال مزرية بعد تلك الليلة المشؤومة، خيام عديدة دكتها الرياح، أرواح أبت البقاء في أجسادها، أعلنت تمردها وصعودها للسماء، ربما كانت خيمتنا على الرغم من كل شيء من الوفاء لنا حتى استحقت الشكر والعرفان!
تحفز من في المخيم لخبر زيارة مسؤول كبير، انتظم الناس في صفوف محاولين الفوز بفرصة للحديث مع ذلك المسؤول، كنت من الحظ ما جعلني قادرا على مشاهدته يخرج من سيارته الفارهة، كانت عاجزة عن الخوض في الأرض التي تميزت بوعورتها بعدما خط الوحل فيها دهاليز عميقة. لمع بريق حذائه الأسود، سرعان ما لطخ بالطين اللزج الذي أطفئ لمعانه، لم يكن المسؤول قادرا على إخفاء امتعاضه، سرعان ما غطى أنفه بمنديل كمن يتهيأ للعطاس، ربما كانت رائحة المخيم من العفونة ما خنقت أنفاسه، كان حريصا على الابتسام أمام كاميرات الصحفيين الذين تزاحموا لتغطية الحدث المهم.
شعرت أن للمخيم أهمية ومكانة عالية حتى حظي بكل ذلك الاهتمام، كنت أتابع المسؤول وهو يهز رأسه بالموافقة بينما كان يستمع لمطالب الناس، بدت حركة رأسه مستمرة لا تنقطع، اعتقدت أن له عصا سحرية قادرة على تحقيق الأمنيات، خفق قلبي عندما التقت عيني بعينه، لا أنسى الخوف الذي انتابني وهو يدنو بالقرب مني، سألني بصوت محبب:
وأنت يا ولدي، ماذا تريد؟
عقدت الدهشة لساني، زاد وجود الكاميرات المتطفلة الأمر صعوبة، تريثت هنيهة قبل أن أجيب، شعرت بأهمية التأني، أطرقت مفكرا، لا أحتاج حذاء لامعا كحذائه، إذ سرعان ما ستلطخه الوحول في المخيم. كما أني لا أحتاج سيارة مهما كان شكلها، فالمخيم يفتقر للشوارع المعبدة، لا أحتاج ألعابا بعدما اكتفيت وأقراني بالاستعاضة عن الكرة بالعلب المعدنية أو البلاستيكية. قلبت نظري في ردائي القديم المرقع، وجدت فيه متسعا لرقع جديدة، بدت فكرة الحصول على ثوب جديد غير حكيمة أبدا. وددت أن أسأله بعض الطعام الطازج إذ تعبت معدتي من أكل أوراق الشجر والحشائش، لكنني تريثت أيضا، تفكرت قليلا، مهما كان ما سيجلبه من طعام رائع المذاق سينفد بعد حين، وسنغدو خالي الوفاق ثانية!
كانت دهشتي كبيرة عندما وجدت نفسي معترفة بعدم احتياجها لشيء! بدوت مكتفيا بالعيش في ذلك المخيم الذي غدا موطنا لي وللكثيرين. كان الرجل على وشك الرحيل عندما تذكرت شيئا، أسرعت قائلا:
أحتاج أمرا واحدا سيدي!
قل يا بني.
لا أحتاج غير خيمة جديدة، فقد باتت خيمتنا من الشيخوخة ما يجعلها عاجزة عن الوقوف في وجه الرياح.
ابتسم المسؤول بعدما انشرحت أساريره وقال:
ستنال مكرمتنا سكان المخيم جميعا. سنزودكم خياما جديدة احتفالا برأس السنة. دمتم بخير.
رأيته ينطلق بسيارته بعيدا، انقشعت الكاميرات عن وجوه سكان المخيم، لا أعرف لم كان الحزن مطبقا على وجوه الكبار بينما راح الأطفال يحتفلون بالخيام الجديدة القادمة، ربما يكون حمل الماضي ما يجعل الكبار عاجزين عن الابتسام!
انتهت
مشاركة منتدى
16 آذار (مارس) 2020, 02:07, بقلم السيد راشد الوصيفي
قِصَّةُ : العُزْلَةُ
للكاتب / السّيد راشــــــــــــد الوصيفي
توقفت سيارتي عن السير في عرض الطريق، تصبب جبيني عرقاً، وضعت يدي على جبيني غارت عيناي، حاولت جاهداً أن أديرَ مفتاحها يمنة ويسرة، أخلخله من مكانهِ، أضغط عليه، أنتزعه مرة ببطء، وأخرى بقوة وأضغط على أسناني، وقد أغمض العرقُ عيني الذي تصبب من جبيني قطرات فضية تتساقط كحبات الندى الندية ..
أبى مفتاح السيارة أن يتحرك يميناً أو يساراً أو أن يخرج، أبى المحرك أن يدور كما السيارة أبت السير، كانت هي العادة، وربما حرارة الصيف المحرقة التي أوقفت كلَّ شيءٍ حتى أن الشمس تسمرت في مكانها هي الأخرى، وكأنما وظفت لترسل أشعتها المحرقة على هذه البلدة الخالية، والمتوقف فيها كلُ شيء، حتى الرياح أبت الحركة فلا غرو، فالحركة نفسها توقفت .. طواحين الهواء التي صنعوها لتدور؛ توقفت هي الأخرى، صارت تتراقص يمنة ويسرة، تنذر بالتوقف تماماً كما توقف كلُّ شيءٍ ...
أنفاسي توقفت وكدتُ أن أختنق من شدة الحرارة وسطوع أشعة الشمس الملتهبة، تناولت زجاجة ماء كنت قد أعددتها سلفاً لهذه الرحلة المتوقفة، فشربتها عن آخرها ولم أترك فيها قطرةً واحدةً وألقيتها على مرمى بصري، وعيناي تحدق فيها ومصيرها المحتوم .. وكان عقلي منشغلاً بما أنا فيه، وقطرات العرق زادت في تدفقها على جبيني؛ حتى عدمت الرؤية تماماً أمام بصري، خرجتُ من السيارة أجرُ رجلي بعدما فقد صبري الأملَ .. واتجهتُ للشارع .. نعم إلى الشارع، فقد كان خالياً تماماً من البشر والمارة ومن أيّ كائن حيّ آخر .. أردتُ أن أعبرَهُ، فنظرت يميناً ويساراً محترساً لعلي أجدُ علامات المرور البيضاء المقطعة، حتى أعبر عليها لمحتها، وكأنما هي نسيج قماشي مهتريْ، ظللتُ أسيرُ ويتساقط العرق من جبيني حتى توقفتْ قدماي عن السير، حينما وصلت تلك الخطوط البيضاء المهترأة، ولم تعبر سيارةٌ واحدةٌ، أو بشرٌ أو كائنٌ ما كانَ يسيرُ على قدمين أو أربع، تذكرتُ بأنَّ كلباً مرقَ وهو يعبر الشارع للإتجاه الآخر، وكان يعرجُ يرفعُ إحدى قدميهِ الخلفيتينِ، ويدبُ بثلاثةِ أرجلٍ، واحدةٌ خلفيةٌ وإثنتانِ أماميتانِ ...
البلدةُ خاليةٌ لا صوتَ ولا حركةَ ولا هواءَ، جدرانٌ باليةٌ .. مكتوبٌ عليها بخطوطٍ عشوائيةٍ ربما هي خطوط أطفال أو ... مكتوب عليها : يسقط .. يقسط .. لا .. ارحل .. .
تسائلتُ :
– ماذا تُعني هذه الكلمات ؟ !
أبواب المحلات التجارية موصدةٌ تماماً، وعليها خطوط متعرجة وملتوية عريضة ورفيعةٌ .. عليها رسومات بزيئةٌ .. عليها رسومات طفلٍ أعرجٍ يتكأُ على عصا، وامرأة تبكي مشرعةً يديها، ورجلٌ ممددٌ في ثيابٍ بيضاءَ مُتسخةٍ يقطرُ منها دمٌ أحمر قانٍ، أكوامٌ من الأوراق والنفايات وقارورات ماء وغازية فارغة، لابد كان هناكَ أناسٌ شربوها . ولكن أين هم والبلدة خالية، لا صوت لأحدٍ فيها ولا يمشي أحدٌ فيها ؟
الأبوابُ موصدةٌ غارقةٌ
في بركٍ من الماء الآسن الراكد .. رائحةٌ نتنةٌ تنبعثُ من جثةِ كلبٍ انتفختْ تماماً، ظهرُهُ إلى الأرضِ، ورجلاهُ الأربعةُ مُشرعةٌ، وأسنانُهُ بيضاءٌ تلمعُ ببريقِ الشمسِ المُحرقة، وكانت تربضُ جثةُ فأرٍ صغيرٍ ذيلُهُ انتفخَ هو الآخر ككرباج العربجي الذي يضربُ به حصانه إن حرنَ عن السيرِ .. يا إلهي ما هذا الذي أراهُ ؟!
حاولتُ أن أصرخَ بأعلى صوتي، كان حشرجةً لا يتعدى أذني .. مالتْ الشمسُ نحو المغيب ومازلتُ أبحثُ عن أحدِ الأحياء يواسيني عن جرذٍ أهربُ منه .. أو أسدٍ يلتقمني ويريحني ...! نسج الليلُ خيوطَهُ السوداءَ في سماءِ تلكَ البلدة الخالية سواي، وتعرتْ مخاوفي ورفرفَ قلبي بين أضلعي .. الليلُ ساكنٌ والبلدةٌ صامةٌ وأفكاري تتطاحنُ في عقلي، ومازالَ جبيني يتصببُ عرقاً، شَقَّ سكونَ الليلِ شُهبٌ حمراءُ بأدخنةٍ بيضاءَ، ضرباتٌ، مُفرقعاتٌ، انفجارات هنا وهناكَ، والبلدةُ جُثةٌ هامدةٌ، كُلُ شهابٍ يمرقُ أمامي يضيءُ الكونَ؛ فتظهرُ لناظري بقايا أطلالٍ من بيوتٍ مهدمةٍ، كُلما كثرتْ الشُهبُ؛ أضاءتْ سماءَ البلدةِ التي أُشاهدها ، كما لو كانت على شاشةٍ التلفازِ، يتراقصُ قلبي فرحاً بأن الفجرَ لآتٍ .. !
طال الليلُ البهيمُ وكثرتْ الشهبُ حتى ملأتْ سماءَ البلدةِ، أنارَ الكونُ من حَولي، وكلما شبتْ نارٌ؛ انتشرَ الضوءُ وتبددَ الظلامُ الذي خيمَ على البلدةِ الصامتةِ الساكنةِ، والكلبُ مازال يعرجُ ويلهثُ يبحثُ لهُ عن مَأوى، أتأملُ إضاءاتِ الشُهبِ في كُلِ مكانٍ وخيوطاً حمراءَ وصفراءَ وزرقاءَ وبيضاءَ، فيحدوني الأملُ، وأضحكُ في قرارة نفسي، تتصاعدُ أنفاسي وتتساقطُ أكوامُ حِجَارةٍ من سَفحِ جَبلٍ، وزجاجُ نوافذٍ يتطايرُ، يعقبها انفجاراتٌ أشعلتْ النَّارَ في هشيمِ نفسي .. وتساءلتُ خَرَساً :
– أليسَ الصُبحُ بقريبٍ ... !