الأحد ١٢ أيار (مايو) ٢٠١٣
بقلم زكية علال

دَبْشَلِيمُ.. والحاكم العربي

عندما يطالع المرء كتابا وهو في سن مبكرة، قد لا تتعدى العقد الأول إلا بأربع او خمس سنوات، ثم يعيد قراءته وقد تجاوز الأربعين، الأكيد ـ أن الوعي بين القراءة الأولى والقراءة الثانية سيكون بقدر المسافة بين العمرين، فمثلما تحدث تغيرات فيزيولوجية على جسم الإنسان، كذلك يكون التغير الطبيعي في تفكيره ورؤاه وتوجهاته وقدرته على تحليل واقعه بعمق يتسع يوما بعد آخر، فعندما يكون في سنوات دراسته الأولى، قد يخرج مع زملائه ويصطف على الرصيف ليصفق بفرح طفولي لكل مسؤول يعبر قريته وهي يعتقد أنها جزء من الوطنية ولازم من حب الوطن الذي هو من الإيمان، لكن كلما تقدم به العمر اكتشف أنهم سخروا من براءته بنكتة سخيفة جدا، وأن الصورة كان يمكن أن تكون معكوسة، فذاك المسؤول كان يجب أن يصفق ويهلل لهذا الطفل لأنه يجتهد في دروسه أكثر مما يجتهد هو في عمله، وأنه يخلص لأترابه وهو يلعب معهم الغميضة في ساحة المدرسة، ويكون أمينا، فلا يخدعهم ولا يفتح عينيه حتى يتواروا جميعا، لأنها قواعد اللعبة، فهو حريص على أخلاقيات لعبة الغميضة، أكثر من حرص هذا المسؤول على لعبة السياسة وهو يمارسها بعيدا عن أخلاقياتها.........

وأنا أعيد هذه الأيام قراءة الكثير من الكتب التي طالعتها في سن مبكرة، كان لا بد أن أعود إلى كتاب "كليلة ودمنة". بعد أكثر من عشرين سنة، وقفت طويلا عند أصل الحكاية التي بدأت بين حاكم طاغية وفيلسوف حكيم.. "دَبْشًليمُ " الذي استخلفه أهله وولوه أمرهم وديارهم واموالهم، لكنه بغى وتجبر وتكبر.. و " بَيْدَبَا " الحكيم الذي استطاع أن يقف في وجه الطاغية ويقول له كلمة حق: " أيها الملك، لقد ورثت ديارهم (يقصد الرعية) وأموالهم ومنازلهم، ولم تقم في ذلك ما يجب عليك، بل طغيت وبغيت وعنوت وعلوت على الرعية "

هذه الشهادة لم تعجب الملك، فحبسه لأجل كلمة حق، بعد أن كان ينوي قتله والتنكيل به ليكون عبرة لمن يتطاول على أسياده. لكن الملك سهد ذات ليلة سهدا شديدا، وطال سهده، فمدّ إلى الفلك بصره، وتفكر في تفلّك الفلك، وحركات الكواكب، فأغرق الفكر فيه، فذكر عند ذلك "بيدبا" وقال في نفسه: لقد أسأت فيما صنعت بهذا الفيلسوف، وضيعت واجب حقه وحملني على ذلك سرعة الغضب، وقد قالت العلماء: أربعة لا ينبغي أن تكون في الملوك: الغضب، فإنه أجدر الأشياء مقتا، والبخل، فإن صاحبه ليس بمعذور مع يده، والكذب، فإنه ليس لأحد أن يجاوره، والعنف في المحاورة، فإن السفه ليس من شأنها.

فأخرجه من سجنه وقربه من مجلسه، وطلب منه النصيحة في تسيير شؤون الحكم. وكانت النتيجة ان المُلك استقر لهذا الملك، وسقط عنه النظر في أمور أعدائه، وأصبح مقربا من قلوب رعيته لأنه أقام العدل بينهم، وصرف همته إلى النظر في الكتب التي وضعتها فلاسفة الهند لآبائه وأجداده، وأمر "بيدبا" أن يضع كتابا بليغا ظاهره سياسة العامة وتأديبها على طاعة الملك وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية. والمذهل في هذا كله أن الفيلسوف جعل الملك يدخل التاريخ من بابه الواسع من خلال كتاب"كليلة ودمنة" الذي جاء على ألسن البهائم والسباع والطير ليكون ظاهره لهوا للخواص والعوام، وباطنه رياضة لعقول الخاصة، فأصغت الحكماء إلى حكمه وتركوا البهائم واللهو وعلموا أنها السبب في الذي وُضع لهم، ومالت إليه الجهال عجبا من محاورة بهيمتين ولم يشكوا في ذلك.

وانا أقف عند هذا الحاكم الذي أذاب جبروته فيلسوف حكيم، نظرت إلى حال الحاكم العربي الذي ابتليت به الشعوب العربية منذ عقود من الزمن، إن لم نقل منذ قرون.

الحاكم العربي ظل يمارس السلطة بعيدا عن الحكمة التي هي ضرورة ملحة في علاقة الحاكم بالمحكوم، فكان السجن، وكان النفي، وكان القمع، وكان القتل كأبسط عقوبة يسلطها الحاكم على من يعارضه أو يقف أمام جبروته أو يقول كلمة حق، دون ان يسهد يوما ويتفكّر في عاقبة ما يفعل.

والتاريخ العربي يقول دائما أن الحكمة تتكسر على تاج الملك، وكلمة الحق تحترق بحماقة الحاكم، والنصيحة تخرج منكسرة من مجلس الحكم.. الحاكم العربي ظل يضع أصابعه في أذنيه حتى لا يسمع إلا صوته، ويقرب من مجلسه من يوافق هواه، ولهذا عجز أن يصنع مجدا لنفسه وشعبه، وظلت الدول العربية في ذيل الترتيب العالمي رقيا وتقدما وحضارة.

وهذا القمع الذي مورس على الإنسان العربي جعله لا يعرف كيف يتعامل مع الفعل الديمقراطي إن وجد الفرصة متاحة، بل يجد دائما من يستغفله ويحصد زرعه دون أن يكون له حظ فيه، ويجني ثمار تضحيته دون أن يلتفت إليه أو يعيره اهتماما يجعله يحس أنه كائن، وليس مجرد رقم كان في حساب المظاهرات التي فاقت المليون في ساحة واحدة وافترشت الأرض وتدثرت بأملها في غد مشرق يعيد إليها كرامتها التي اغتصبها حكام لم يستمعوا إلى صوت الحكمة يوما، وظلوا ينظرون إلى شعوبهم على انهم رعاع يأكلون ويشربون ويتناسلون دون ان يكون لهم رأي أو تؤخذ منهم المشورة في أمور تخصهم.

وهذه الفوضى التي تعيشها كثير من الدول العربية بعد الربيع الذي أطاح برؤوس لم تستعمل الحكمة، دليل على أن ظلمة السجن قد تجعلنا نعجز عن فتح أعيننا عندما تلامس أشعة الشمس، وقد نحتاج إلى فترة طويلة لكي يعود تعاملنا مع الشمس إلى أمره الطبيعي.
لكن المؤلم في هذا كله ان كثيرا من معالم الحضارة العربية التي بناها أجدادنا داستها أرجل الحماقة وبطشت بها يد الفوضى، فعندما أنظر إلى التشويه الذي لحق بالمعالم الحضارية في العراق وسوريا وإلى ضياع الملايين من أمهات الكتب التي كانت مرجعا اتكأت عليه الحضارة الغربية في مختلف العلوم والفنون، أشعر بفداحة ما خسرناه في غياب حاكم مثل " دبشليم " أطرق رأسه لحكمة رجل فأنقذ شعبه ونفسه.

وقد شدني في النهاية كلام قاله "بيدبا" لتلامذته، وهو يجتمع بهم بعد أن أحنى الملك رأسه للحكمة: "إن الملوك لها سكرة كسكرة الشراب، ولا تفيق من السكرة إلا بمواعظ العلماء، والواجب على الملوك أن يتعظوا بمواعظهم، والواجب على العلماء تقويم الملوك بألسنتها وتأديبُها بحكمتها وإظهارُ الحجة البينة اللازمة لهم ليرتدعوا عما هم عليه من الإعوجاج والخروج عن العدل، كالطبيب الذي يجب عليه حفظ الأجساد على صحتها، وقد كرهت ان يموت الملك أو أموت وما يبقى على الأرض إلا من يقول إنه كان بيدبا الفيلسوف في زمان دَبْشَليم الطاغي فلم يرده عما كان عليه"

فهل يوجد في أمتنا حكيم او عاقل يخشى أن يُقال انه كان في زمانه حاكم جرّشعبه إلى الخراب فلم يرده؟ وهل يقرأ حكامنا التاريخ ليعرفوا أنّ من سعى إلى مجد شعبه ورخائه إنما يوسع الباب التي يدخل منها إلى قلوبهم وعقولهم.

لكن، الأكيد أن حكماءنا صاروا على دين ملوكهم..............


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى