
رائدة جرجيس نرجسة شعرية مضمخة بالقلق
أجل كنت قلقا بعد ان غبت عن الوعي لحظات لا اسمع فيها إلا همسات تائهة، قلقا غيورا رقيقا احمل طائري الأبيض وأنادي أيها الظمأ المقدس استمع إلى تغريدة الشعر، بعدها فقت فوجدت أن الحب ثورة ذاتية تهز الأعماق وترجها وهي عاطفة سامية تحلق بأجواء ألذات وقد تدفعها للتجاسر والتمرد على ضوابط المجتمع وتحدي المحظورات من اجل الوصال بالمحبوب ووجدت أجلى تعبيرات هذه العاطفة هو الشعر: هذا التيه الذي لا يكتمل عنده المشروع، فالشعر إضافة إلى انه تعبير إلا انه إثارة أسئلة وجودية ذهنية تحاول تهذيب الفكر الإنساني وتدفع بالعقل للبحث عن الحقيقة في حين إن القلب يهتف طربا لمعزوفة الجمال وبين متناقضات الحياة ومفارقاتها يبقى الشاعر متوترا غير مشبع بعاطفة الحب الجميلة، لذا كان حضوره في الشعر يتلون بألوان القوس قزح، مثلما فعلت الشاعرة رائدة جرجيس وتألقت راقصة على نغم الوزن تارة ونغم تآلف الكلمات تارة أخرى، فتبدأ ديوانها «لي.. ما ليس للبحر» بالمفهوم الاستفهامي «لماذا؟»، ليكون الديوان سلسلة من الأسئلة الظاهرة والأخرى المخفية، باستعمالات لغوية من السهل الممتنع: سلسة، وسهلة، ومنسابة مع روح الشاعرة الشفافة المحلقة بأجواء الطبيعة وجمالاتها وحالات التأمل، فهي محلقة دوما ترتفع إلى الأعلى بجنون البحث عما يجعلها إنسانا لا يكل ولا يهدأ في خضم الحياة إلا من اجل صنع سعادة وفرح وابتسامات وهي لا تستطيع مهما كانت جاهدة ان تخفي بعضا من أحزانها وآلامها محاولة منها ترويض النفس بجماليات ومباهج الحياة وبقلق الكتابة..
ونحن أمام شاعرة امرأة وهي لا تختلف عندي الصورة كون هذه المرأة انسانة مثقفة أو رجل مثقف، لان القلق صفة تلازم الإنسان الواعي كون «القلق لا يحدث للإنسان إلا إذا أصبح واعيا بوجوده، وان هذا الوجود يمكن أن يتحطم، وانه قد يفقد نفسه ويصبح لا شيء، وكلما كان الإنسان واعيا بوجوده زاد قلقه على هذا الوجود وزادت مقاومته للقوى التي تحاول تحطيمه، وهذا هو السبب وراء انتشار القلق بين النساء المثقفات، لان المرأة المثقفة أكثر وعيا بوجودها» عن غيرها «فهي أكثر قلقا من اجل حماية هذا الوجود من القوى الاجتماعية التي تبغي تحطيمه»1.
وأنا بصدد حالة القلق هذه انقل رأي الأستاذ محمد الغذامي المدعوم بقول رولوماي: «فالقلق يرتبط ارتباطا عميقة بمشكلة الحرية وكل مزيد من الحرية هو مزيدة في القلق» 2 ويضيف الغذامي وهو في طبيعة الحال يؤسس لحالة أخرى، لكني أجدها ملائمة لأهداف دراستي هذه أقول يضيف الغذامي قائلا: (وخروج المرأة من مقصورة ألحكي وحصانة الليل الساتر إلى نهار اللغة الساطع جاء خروجا يجمع بين حرية مكتسبة وبين ما لهذه الحرية من نتائج محتومة وتنشأ عن ذلك معضلة «التكيف» التي يشرحها رولوماي قائلا: أن« التكيف هو العصاب ذاته»3 بينما العصاب هو الفشل عند علماء النفس، اما والحالة هذه مع الشاعرة رائدة جرجيس، فهي تبدأ باستفهام وتدخل بكلمات رقيقة تحاول تبرير حالة التصوف والاندماج الكلي بالحبيب وكأنه هو الوطن ولا تجد اصدق من العصافير لتستنطقها بالأسئلة تقول:
«لماذا؟ ووردي عابق بغصونهوكيف ؟ وقلبي دمعة بعيونهتمر بشباكي العصافير في الضحىلتسألني هل فاض حنينه ؟»
وبهكذا أسئلة جمالية اجتازت حالة الجنون وألم الفضاءات التي تحلق بها من هنا دخلت الشاعرة ولا ندري متى تخرج من دائرة الذاتية الى دائرة الموضوعية في الحب ؟ والعنونة تؤسس على أن الدائرة قد تستمر فـ«لي..ما ليس للبحر» هذا عنوان المجموعة الشعرية ومن أقوالها في المتن:
«ولكن جناني وارفات بطينهكن منفاي»
فالمنفى هنا فضاء موضوعي، لأنها أصبحت كائنة في الحبيب مندمجة روحيا معه قبل ان تكون جسديا لكن من هو الحبيب؟؟ والفضاء الذي احتواهما هو المنفى وهذه الخطوة أظهرت إشكالية التخفي والجمال في هذا الديوان فـ «قدماي عاريتان والحقل الذي أبغيه/ منطفيء العيون / فمن ذا يطمئن همزة/ في الكاف تائقة لنون/ ضؤوك الخلاص/ موعودة عطشا موعودة ديما» هذا البحث جعلها مرة يباب ومرة حافلة حياتها بالاكتناز هذا التلوين هذب حسها الذوقي وجعلها تترقب لنوافذ هي في الأصل من أحلام اليقظة غير أنها تمثل الأمل وهو تنبأ لن تتخلى عنه الشاعرة طوال رحلتها الشعرية تقول:
«وفي مفازتها ضوء الخلاص هماوكل مدم دوت منابعهلكي يبدل كابوس الردى حلما»
هكذا يسكنها الحلم، لان ماعداه يذهب جفاء وتحاول مسرحة الليل والليل عندها خيوط تكدير قد تمنع ظهور الحقيقة كجلاء نهائي..
«سأتدفق نهر كبرياءوأحطم زوارق الخيانة»
ثم تقارن بين رؤى تشابكت من طروحاتها الشعرية، فالشبح الأول خلف الباب والشبح الثاني يعانق امرأة وهناك تبادل بين أمكنة الأشباح، حتى يتبين صفاء الحقيقة بأنها المرأة العاشقة الجريئة التي تبحث عن الوطن الحبيب أو عن الحبيب الوطن ليكون سلوتها في منفاها اميركا حيت تستقر هناك.. تقول:
«هاك قلبي ريشةتعزف بها على أضلاعيفلحنك التائهخلف سحب الجروحسيعود محملا بورود الربيع»
إذن البحث الحقيقي عند الشاعرة هو الجمال والاستقرار حتى ارتكزت على قافية مصرة على أنها تعزف الفرح خالقة رؤية خاصة بها في التمسك بالحب استنادا لقولها: «اترك يديك فمنهما / أغصان روحي تبتدي» وحتى تتمسك أكثر وبجمالية رافقت رحلتها الشعرية تقول:
«طفلي وحبي أنتوالعطر الشفيف ومروديمن بعد حبك ذابلوردي وفحم فرقدي»
وهنا أسست على قلق المرأة الانسانة في التمسك بالحب وهي تتنقل من الهم الذاتي إلى الهم الموضوعي وإشكالية الوطن وتبادله مع مكانة الحبيب عند الشاعرة راسمة بدقة فلسفة البحث عن الحقيقة وتعزيزا لهذا تقول:
«قفز الحبل.. واحد.. اثنانقفزة، قفزتان..والحبل نسيج الخوففي شرانق الألم..!واحد.. عالياعلهم يلمسون أنجمهمالمترعة بالظنون..؟؟»
وهكذا يكون البحث المضني والذي تحفه الشكوك وينتابه القلق الذي يدفع بالشاعرة لأن تكون هي والحبيب في تناسق روحي وجسدي حيث تقول:
«أردتك جدولا سارباأخصب أضلاعي بندى صدرك الماطروبوهجه أضني الحلمتينفأنا من يستحيل به اله.»
وكما نوهت تبقى الشاعرة بين الهم الذاتي والموضوعي في قصيدة «أتهجاك معتما.. يا عراق» ثم تصل بين ماهو حسي ولا حسي في لغة مناورة بينما هو متداول وبينما هو خارج التداول وهو تكريس لحالة واحدة ورؤية موحدة للحياة والحب وحالة تصوف قل مثيلها في التمازج الروحي والجسدي كما في قولها الآخر.
«أحبكدونما غموض قل.. جهنمي أنتأتدحرج ككرات الثلج عاشقةتعانق الكلمات ابتهالاوعلى حافة الرجفة يذرني الرضاب صقيعاسأغزوك بالدفء وأمنح طعمك ملحــــا................................أنا الشاسعة الأغراء في بحرينالهوى والرعشة المفاجئة .»
وتتأكد أنا الشاعرة وتتعالى، لتتعمق شخصيتها القوية الثابتة وموقفها من خيارات الحب والأمل الحياتي لتقول:
«أنا هكذا ـــــــ نوروزيالزاهي ـــــــــ وثلجك مستعاربأصابعي الأنهار جاريةتظللها الثمارأثثت روحي بالضحى»
تقول هكذا على أساس عهد قطعته على نفسها استنادا لقولها:
«حبيبي النائي أنا نايكلا، لا تقول أنه راح.. راحأقيس فستاني على طولهوطوله تاريخ كل جراحبوصلة قلبي وأمواجهطير له في كل أفق جناح»
ثم طرزت مسيرتها الشعرية بالخزين الجمعي الموروث بروح نقدية وبحذر شديد...
«فالكل آدم وكل التفاح خطايـــــــاسيوف الذكرى تعريالماضي عن شيطان أهبلنوح ينتظر السفينة العذراءوالجود يصرخ بالأمل»
ثم بعد ذلك استثمرت كلمة مشكاة وهي كلمة قرآنية حملتها الكثير من المعاني ودلت على تعدد مصادر ثقافتها حتى انها خلقت إشكالية في الزمن تقول:
«في مشكاتي حزن لا زيتأتدلى من غصن الوقتكي أبدأ كل الأزمانلاهثة مبحوح صوتيمن لحظة خلق الإنسان.»
وحينما نستمر في قراءة الديوان نخرج من كل صفحة محملين بالورد وبالجمال وبالحب فهي تتحدث عن الوطن تحسبها تتحدث عن حبيب شغفت به حد الذوبان حيث تقول:
«خيل ترتل للعراق وتصهلندى النعناعمن بكائي يضطرب البحر والجبالتردد أصداء صوتيبريئة كالندى , عطرة كالنعناع.»
وتبقى الشاعرة رائدة جرجيس نرجسة إلى حد عشق الذات بسبب وثوقها أنها تتمتع بجمال الحب وإنها امرأة تحمل إنسانا يزق الأمل والخير والحب.
المصادر
1. كتاب «الأنثى هي الأصل»... نوال السعداوي / المؤسسة العربية للدراسات والنشر / بيروت 1974. ص / 201
2. كتاب المرأة واللغة: د. عبد الله الغذامي / المركز العربي الثقافي ط 3 2006 ص 136.
3. ديوان «لي... ما ليس للبحر» للشاعرة رائدة جرجيس صدر عن دار تالة للنشر والتوزيع للأديبة السورية مجدولين الرفاعي.