
رهان النقد وهاجس الافتحاص
يضمر عنوان كتاب د.أحمد بلخيري «نحو تحليل دراماتورجي» [1] ما تصرح به قراءة الداخل من رهان مضاعف علي تجاوز خطاب نقدي مسرحي مغربي"مأزوم" بالنقد والمساءلة؛ والسعي إلي تأسيس مشروع مقاربة نقدية بديلة تمتح مرجعيا مثلما تتغيا علم النص.
لهذا الغرض قسم الكتاب بعد التقديم، إلى فصل أول نظري وفصل ثان مدخل منهجي دراماتورجي لتحليل النص الدرامي.
ويشكل النص كمصدر لإنتاج المعرفة عنصرا واصلا لما يبدو متنافرا على مستوي هيكلة الكتاب؛ من تجاور خطاب فكري مجرد موسوم ب: «من خطاب المصلحة إلى خطاب العقل» مع خطاب منشغل بشعرية المسرح.
إن النص الحاضر بقوة كتصور نموذجي لتحليل داخلي ومصدر لإنتاج المعرفة؛ هو ذاته النص الغائب عن النقود المسرحية المستهدفة نقدا من طرف بلخيري؛ لتغدو جدلية الحضور والغياب بنية مؤطرة للكتاب؛ ولمشروع بلخيري النقدي ككل في شقه السجالي و الإجرائي.
في تحديده لمفهوم نقد النقد؛يقدم د.محمد برادة تعريفا وظيفيا مؤكدا "أن نقد النقد من أكثر المباحث صلة بنظرية النقد وجمالياتها لما يتيح من تفحص المقولات وتطبيقاتها، والاحتكام إلي درجة التناسب أو التعارضات بينها،وإلي رصد( الرؤية والموقف) فضلا عن جدوي (المنهج) كإجراءات وفرضيات وآليات عمل" [2]
وفق هذا التصور؛ فنقد النقد كآلية للقراءة يختلف عن النقد من حيث الإمعان في منهج الناقد وملاءمته للنص بعيدا عن أي تماثل، ليكون شرط القصور عن الوفاء للضوابط العلمية والمعرفية أحد مسوغات قراءة نقدية منتجة ورصينة. [3]
أعتقد أن هذا المنطلق هو المتحكم ظاهريا في آليات القراءة التي سعي الناقد بلخيري إلي إرسائها والتميز بها داخل المشهد النقدي المغربي؛إذا نحن نظرنا إلي طبيعة المتن المدروس من طرفه من جهة؛ثم توقه إلي الاختلاف كشرط مسوغ ومنضج لقراءة نقدية للنقد المسرحي من جهة أخرى.
هكذا يأتي كتاب "نحو تحليل دراماتورجي" كحلقة من سلسلة مشروع حفري؛ يروم النبش عموديا في الأنوية الغربية المؤطرة للنقد المسرحي بالمغرب؛ بعد مسح أفقي مكلف لتصدعات في الخطاب؛ والانشغال بتوسيع سؤال نقد النقد بتدبير نقاش فكري عميق حول الوعي الشقي المفرز لمعرفة مفارقة للنص، والباحث إذ يتجشم هذا المسلك الإجرائي؛ يموقع نفسه في خندق المواجهة من زاوية التشكيك المضاعف في مصداقية النقد والبحث المسرحي الأكاديمي بالمغرب؛ إن نحن أخذنا بعين الاعتبارتحدر الكتب المستهدفة ـ بالنقد ـ من أطاريح جامعية أشرفت علي افتحاصها لجان علمية منيعة. وهذا ما يجنح بالمقاربة النقدية التي يقوم بها بلخيري من مستوي نقد النقد إلي مستوي افتحاص الافتحاص، كإجراء أكاديمي علمي غير منضبط لآليات نقد النقد؛ مادام الإجراء هو رصد للمناحي المهلهلة في الأطروحة؛ يتطلب انتقاله إلي مستوي نقد النقد قراءة أخري منظمة ومهيكلة،أقصد أن نقد بلخيري علي وجاهته وملاحظاته العلمية؛ لا يرصد البنيات المؤطرة للخطاب الواصف؛ بقدر ما يترصد هنات الناقد علي مستوي توظيف المصطلح علي حساب آليات اشتغال الخطاب،هذا مع ما يثيره افتحاص متن مفتحص من حساسية مرتبطة بسلطة "أنا" عالمة مقابل الهشاشة المعرفية للآخر ناقدا كان أو مؤسسة.
إن المتتبع لمشروع بلخيري النقدي سيدرك جسامة البحث في المصطلح المسرحي [4]؛ قبل خوض غمار نقد النقد بجاهزية ووثوقية في قدرة الذات علي رفع منسوب السجال النقدي إلي مستوي الطعن، وتحمل تبعات حق الرد بحجة المكتوب،في هذا الصدد؛ يؤكد بلخيري علي " أننا لا ننتج المصطلحات المسرحية، الإنتاج الناتج عن الأبحاث التطبيقية من لدن الباحثين والنقاد وإنما نستهلكها، فإنه قد تم الإيحاء أحيانا بكون الناقل للمصطلحات المسرحية هو الذي أنتجها أي وضعها والحال أننا لا ننتج المصطلحات المسرحية لأننا لا ننتج العلم علم المسرح، ونحن لاننتجه لأننا لا نقرأ ولا نحلل النصوص والعروض المسرحية قراءة وتحليلا يمكن نعتهما بالعلميين استنادا إلي قراءات وتحاليل منهجية داخلية غير إسقاطية وغير اختزالية" [5].
هنا سنطرح السؤال؛ عن أي مصطلح يتحدث بلخيري؟ هل المفروض في كل ناقد مغربي أن ينحت مصطلحه/مصطلحاته الخاصة عند قراءته لنص ما؟ هل القراءة العلمية تفضي حتما إلي إنتاج المصطلح؟ هل تداول مصطلح غربي يعد ممارسة غير علمية؟ أليس اشتغال الباحثين العرب هو اشتغال بمصطلحات غربية شكلت في مجموعها لغة للتواصل النقدي؟
هل الثقافة العربية مِؤهلة حاليا لإنتاج المصطلح؟هذه الأسئلة تستدعي سؤالا أخر قد يطرحه أي قارئ لمشروع بلخيري النقدي؛ ما هو المصطلح الذي أنتجه بلخيري ؛ مادام النص الدرامي المقترح للقراءة في كتاب "نحو تحلبل دراماتورجي" هو نص لم يقرأ بعد؟ ألم يكن من الأجدي تأجيل إصدار "نحو تحليل دراماتورجي" إلي حين الانتهاء من التحليل الدراماتورجي؛ أي بعد استواء القراءة الداخلية المفترضة لتقديمها بديلا للقراءة الخارجية غير المنتجة للنصوص؟
ثم لماذا انتظار صدور كتاب ميشيل برونر "تحليل النص المسرحي" لإنجاز قراءة دراماتورجية؛ مادام لا يضيف جديداـ إلي كتاب صادر قبله ـ سواء علي المستوي النظري المتعلق بتحديد المفاهيم( التلفظ؛ المقول وغير المقول ؛أشكال الحوار... أو علي مستوي القراءة الداخلية لنص نهاية اللعبة لبيكت ودون جوان لموليير)؛وأعني به كتاب للباحث: وهو كتاب متداول اعتمده أكثر من باحث.
أعتقد ـ للإنصاف ـ أن استواء قراءتنا نحن أيضا لكتاب "نحو تحليل دراماتورجي" رهين بوصلها بالقراءات النقدية السابقة في كتابيه الوازنين " الوجه والقناع في المسرح" و" دراسات في المسرح"؛ لندرك أن بلخيري معني أساسا بأطروحة كبري هي إعادة ترسيم الحدود بين خطاب الأنا وخطاب الآخر؛ وذلك بإعادة توثيق نص الداخل و فرزه وافتحاصه [6]؛ وهو إجراء مكلف إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار تجشم عناء العودة للمصادر الغربية نصا كان أو مصطلحا للمطابقة والتدقيق و المقارنة، أو بترجمة النصوص لوضع القارئ أمام النص الأصل والنص" المنتحل"، ثم الانتقال إلي نص الخارج (النص الموازي) بإعادة تجنيسه علي ضوء ترميم نص الداخل؛ بوضع حدود صارمة بين الكتابة الشخصية(التأليف) وبين الترجمة والإعداد ؛ وهو إجراء موصول باستشعار بلخيري لخطورة التباس مضاعف علي مستوي التلقي من خلال إرباك القارئ بوهم معرفة عالمة لم تتحقق شروط إنتاجها بعد، وهذا في اعتقادي ما سيجعل قراءتنا تستقيم ـ الآن ـ لمسألة إنتاج المصطلح من منظور بلخيري.
إن انشغال الباحث بتحقيق النصوص النقدية والتحقق من "صفائها الأجناسي" والوقوف علي التباسات ترحيل المصطلح الغربي... هو مشروع مؤسسة وليس مشروع ناقد فرد؛ وهذا ما تشي به عناوين مؤلفات وازنة مثل "معجم المصطلحات المسرحية"؛" المصطلح المسرحي عند العرب""دراسات في المسرح" ؛"الوجه والقناع في المسرح"ثم كتاب "نحو تحليل دراماتورجي".
في المقابل ؛أعتقد أن ما راكمه الباحث بلخيري من انفتاح علي النظريات الغربية، وإمعان في متون النقد المسرحي المغربي كفيل بإنتاج قراءة أخري موازية؛ تتغيا إوالية الخطاب النقدي بلغة وعناوين واصفة؛ وتتحرر من طفح خطاب سجالي ملازم لجل كتابات بلخيري النقدية، في انتظار ذلك ؛ فالباحث يراوح في مربع نقدي يتقاطع من خلاله مع الناقد القديم المؤطر سلفا ـ عند تحقيقه للنصوص ـ بالتحقق من صفاء المقول أو المكتوب؛ مع فارق أن الآخر ضحية الانتحال الآن هو الغرب:
"...أما عمل المنتحل فلا يدخل لا في إطار التاريخ ولا في إطار الأنتروبولوجيا المسرحية؛ وإنما في إطار الانتحال فقط.
"وبسبب هذا الانتحال، فإن كل ما هو رائج اليوم في المغرب عن الكوميديا وعلاقتها بالمقدسين الديني والسياسي؛لا يتعلق إلا بالمسرح الغربي.وكله مأخوذ من تحاليل ليس الناقلون هم أصحابها. لذلك كان من الأجدي البحث عن علاقة الكوميديا العربية أو الكوميديا المغربية بالمقدسين الديني والسياسي عند العرب أو في المغرب.هنا يمكن أن نتحدث عن اجتهاد،إذا توفرت أسسه من تنقيب وعمق في التحليل والعودة إلي الوثائق المسرحية،ومنها النصوص المسرحية". [7]
حتي أضع القارئ في السياق؛ فبلخيري هنا يكتب عن الكوميديا وهو يفكر في ترجمة كتاب" قراءة الكوميدياlلميشال كورفان الذي أعاد ترجمته في كتاب "الوجه والقناع في المسرح"، لكن حتي ولو سلمنا بأثر تلقي سلبي لترجمة غير موثقة يتداخل فيها الاجتهاد الشخصي بالمنقول ؛فهل يعد هذا شرطا مسوغا للتعميم وإطلاق الحكم ؛أي هل القارئ المغربي لا يعرف عن الكوميديا في ارتباطها بالمقدسين الديني والسياسي إلا ما أتت به الترجمة المعنية ؟ أعتقد أن حكما كهذا يحتاج إلي تدقيق.
علي الرغم من هذه الملاحظات؛ يبقي نقد النقد الذي يؤسس له بلخيري بهدوء وصرامة وإمعان ضروريا لعقلنة مشهد مسرحي تتسيد فيه أحيانا الأهواء والمحاباة والتسرع النقدي علي حساب العقل الذي ماانفك بلخيري يتوسل به لكبح أي تنطعات خارج سياق البحث العلمي الرصين.
( أليس الانتصار للعقل هو ما تكلف الباحث تبليغه بلغة الإشارة أيضا؟؛ انظر الصورة الشخصية لبلخيري).