الثلاثاء ٣٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
بقلم عزيز باكوش

رواية «أحلام منكسرة» لمحمد بوهلال

رواية «أحلام منكسرة» لمحمد بوهلال السيرة المتخفية. أو الأوتوفيكشن (Autofiction) بين الواقع والخيال.

لجاذبيتها وسلاسة لغتها، قرأتُ آخر رواية أصدرها الكاتب والإعلامي المغربي محمد بوهلال"أحلام منكسرة"في ساعتين وبضع دقائق. هي سردية في 126 صفحة من القطع الصغير، ضمت 16 فصلا قصيرا يتراوح ما بين 8 إلى 10 من صفحات. ثمة أيضا فصل أخير آثر المؤلف تسميته ب"المأساة". وفيه يقدم لنا نظرة عامة شاملة حول تمثلات الهجرة نحو أوروبا وأنساق حضورها في أذهان الشباب، باعتبارها فرصة للخروج من الفقر والبطالة وانعدام الآفاق الاقتصادية الواعدة في البلد من جهة، ومن أجل استقرار نفسي واجتماعي ما يشكل ضمان مستقبل ووضع اجتماعي أفضل من جهة ثانية.

كل هذه الأحلام من دون أن يفكر الشباب الراغب في الهجرة في مخاطر هذه المغامرات مثل الموت غرقا في البحر، أو التعرض للاستغلال من طرف شبكات التهريب، ومافيا المخدرات أو التجنيد للإرهاب في ظل الوضعية غير القانونية. الطرد من أوروبا بعد الوصول مباشرة. أو يتساءلون إن كانوا سيتعرضون للعنصرية أو صعوبات الاندماج الثقافي. لكن الواقع المر للهجرة لا يرتفع. يأتي ليخيب الآمال لأسباب اجتماعية وثقافية متباينة. بعد أن جازفوا بمستقبلهم وحياتهم في وطنهم الأم. كما نقرأ في"أحلام منكسرة"

ويعتبر هذا العمل السردي الثالث في ربيبيرتوار محمد بوهلال بعد"الضفة الأخرى"و"أوراق من شجرة الحياة". يمكن القول إن الرواية الأدبية عند الصحفي الكاتب هي في كثير من الأحيان سيرة روحية أو ذهنية مستلهمة من حياته المدنية أكثر مما هي سيرة أحداث ووقائع. لنقل مساحة يختبر فيها الكاتب ذاته، بيوغرافيته على الأرجح. كما يراجع فيها قراراته. ويُقوّمُ حصريا أعطاب التدبير الذاتية والموضوعية في حياته. وهو يبدو كمن يستعرض شريط الأحداث والوقائع الدراماتورجية أمامه وفي خياله بتفاصيلها وحيثياتها، لكنه في الحقيقة، إما يصالحها أو يصطدم بها، وفي الوقت نفسه يمنحها حياة جديدة، حيث يتيح للقارئ أن يتبناها أو يعيد تأويلها.

تتحدث الرواية عن الهجرة - جنوب شمال - كمحور رئيسي أبطالها ثلاثة شبان مغاربة من مدينة فاس، عدنان، الطاهر وعبد الرحمان. سقف أحلامهم الهجرة،وبناء حياة سعيدة في أوروبا، وذلك على ضوء سرديات وردية لصديقهم المهاجر العائد من فرنسا يدعى أحمد. هذا الأخير لا يتوقف و لا يكُفّ عن الحديث عن مغامراته العاطفية مع الحسناوات والشقراوات الجميلات صاحبات الأجساد الرشيقة والعيون الزرق، ومرافقته لهن إلى الملاهي وعلب الليل وقضاء ساعات واعرة ولحظات عشق لا تنسى. اللافت هنا أن لا أحد من هؤلاء الشباب الثلاثة،تجرأ على الشك في روايات أحمد، ولو من باب التعالم والفضول. الكل صدقه كلامه وجاراه في مغامراته وعربداته في علب ليل باريس ومراقصها. ما أشعل فتيل الهجرة في نفوسهم وزاد من منسوب حلم المغادرة صوب أوروبا مهما كان الثمن. إنها بالنسبة لهم ذلك الفردوس المفقود والحلم الموعود. للوهلة الأولى يبدو لافتا اهتمام الكاتب بشخصية – عدنان - في سردياته. يتضح ذلك جليا مع تطور أحداث البناء الدرامي للفصول 16 للرواية. فلماذا يحظى عدنان بمكانة خاصة ويوليه الكاتب اهتماما متفردا كابن حقيقي تارة، أو كبطل منقذ أو قائد رأي يعتد به بين زملائه؟

ومع تطور البناء السردي، نتعرف على واقع حياة الأصدقاء الثلاثة في المهجر. حيث الحياة قاسية في هولندا ولا رحمة من أحد. ثم يعود بنا الكاتب إلى عدنان"سيرته"فيرسمه لنا متخبطا بين الفرحة واليأس. في حيرة من أمره في تحديد مصيره بين العودة للوطن أو الالتحاق بصديقيه الطاهر وعبد الرحمان بإيطاليا. لكن إبداع الخيال ومشيئة القدر سيلعبان لعبتهما. وسيرجح الذهاب لملاقاة أصدقائه في مدينو كومو الواقعة شمال إيطاليا على الحدود السويسرية. ولإبراز التأثير السلبي للهجرة. يظهر الكاتب الصديقان الطاهر وعبد الرحمان في وضعية يرثى لها وعليهما آثار البؤس والتشرد والمعاناة الحادة. ينامان في الخرب المهجورة أو تحت الجسور منذ وصولهما إلى كومو رفقة المهرب ابن الحي الذي تنكر لهما. وطردهما من منزله بعد قضاء ليلتين فقط. دون أن يفي بوعده الذي قطعه على نفسه عندما كان في المغرب. وذلك بإيجاد فرصة عمل لهما بمدينة كومو. ومن جميل الصدف استلام عدنان مبلغا من النقود أرسله له والده مكنه من اكتراء سطح منزل لأسبوعين وإنفاق المبلغ على إعالة صديقيه الذين انكسرت أحلامهم في بلدان الغربة.

ولأن الثلاثة لم يتحقق من حلمهم للهجرة نحو أوروبا سوى البؤس والمعاناة في ظل وضعية غير قانونية. فقد اتسمت حياتهم بالخوف الدائم وعدم الاستقرار النفسي والاجتماعي. مطاردات وتشرد وهروب من البوليس والخوف من الترحيل ثانية إلى بلد المنشأ. فبعد سقوط الطاهر في شراك مافيا المخدرات كان مآله الإدمان السجن. أما عبد الرحمان فقد انتهى به المطاف إلى علب الليل ثم الإدمان فالتشرد. وفيما بدا عدنان بطل الرواية أحسن الأصدقاء حظا بفضل مساعدة والديه وهوايته وممارسته لرياضة كمال الأجسام يظهر أصدقاؤه أقل حظا. سيصادف شابة إيطالية تدعى لورا سيتزوجها ورزقا طفلة سماها أمل. وكانت جسرا نحو تسوية وضعيته القانونية. وعاد مع أسرته لزيارة المغرب. لكن بسبب عشيقته الثانية جورجينا ساءت علاقته بزوجته لورا التي طلبت الطلاق. سيهاجر إلى الإمارات ثم أمريكا ليواصل الهجرة باحثا عن فرصة تعيد له الأمل في حياة سعيدة. معاناة في إيطاليا وطموحات في الإمارات ثم حلم فلوريدا الأمريكية بحثا عن أمل وحياة مستقرة.

وهنا استحضر كصديق للكاتب نجله"شكيب بوهلال"وهو بالمناسبة بطل رياضي أولمبي في رياضة كمال الأجسام. ومشارك في بطولات أوروبية للمحترفين في نفس الرياضة بإيطاليا. ومع اشتداد الأزمة وضغط الزوجة سيرضخ الوالد ويعد جواز سفر وفيزا مدتها سنة في ضيافة خالته إلى حين. ومن مكر الصدف، أن يكون زوج خالة عدنان شخص غير نظيف. حيث حاول الزج به في مجال الإتجار في المخدرات. كما أغراه بالحصول على أوراق الإقامة على أساس شرائها من عصابة متخصصة. لكنه صمم على مغادرة إيطاليا والذهاب إلى هولندا تجنبا لمشاكل إضافية لخالته.

وكان لقاء الأصدقاء في مدينو كومو الواقعة شمال إيطاليا على الحدود السويسرية.وكانا في وضعية يرثى لها وعليهما آثار البؤس والتشرد والمعاناة الحادة ينامان في الخرب المهجورة أو تحت الجسور منذ وصولهما إلى كومو رفقة المهرب ابن الحي الذي تنكر لهما وطردهما من منزله عد قضاء ليلتين فقط دون أن يفي بوعده الذي قطعه على نفسه عندما كان في المغرب وذلك بإيجاد فرصة عمل لهما بمدينة كومو. ومن جميل الصدف استلم عدنان مبلغا من النقود أرسله له والده مكنه من اكتراء سطح منزل لأسبوعين وانفاق المبلغ عن إعالة صديقيه الذين انكسرت أحلامهم في بلدان الغربة.

حين حضر الثلاثي عدنان الطاهر وعبد الرحمان للصلاة والاستماع إلى خطبة الجمعة بالمسجد الوحيد بمدينة كومو الإيطالية، ألقاها شاب أربعيني وسيم. وكان موضوعها الجهاد في سبيل الله بدا الأمر بديهي للوهلة الأولى. لكن كيف تحول اللقاء بالإمام المسلم من صدفة سعيدة بالنسبة للأصدقاء الثلاثة إلى صدمة ؟ وما الذي تغير حتى أصبح الثلاثة من الأصدقاء المفضلين للإمام؟ وصار يغدق عليهم أكلا وشربا في أرقى المطاعم والفنادق حيث يقيم. سوف لن يتأخر الجواب كثيرا. فذات ليلة حين أطفأ الإمام حاسوبه خاطب الأصدقاء مجتمعين"يا أبنائي. لقد حاولت أن أجد لكم عملا في إيطاليا. كما اتصلت ببعض معارفي في عدد من الدول الأوروبية. ويعلم الله إنني ما قصرت في ذلك. وباءت جميع محاولاتي بالفشل وحتى تنقذوا أنفسكم من وضعيتكم المزرية. فإني اقترح عليكم الانخراط في جيش المجاهدين. وسوف تتقاضون أجرة شهرية هامة وسيزوجونكم أجمل الفتيات اللائي يقمن بالمعسكرات الإسلامية وستتدربون على حمل السلاح وفنون الحرب والقتال لقتال أعداء الإسلام. وإذا استشهدتم فستدخلون الجنة مع المؤمنين المجاهدين. وسيتوصل أفراد أسركم بأجوركم التي كنتم تتقاضونها. وختم حديثه بالآية الكريمة"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"بعد سماع كلام الخطيب طلب الثلاثة مهلة للتفكير. وما كاد الصباح ينجلي حتى غادروا الفندق ومدينة كومو وسافروا إلى مدينة بريشيا خوفا من أذى الإمام.

وتفضي بنا الرواية إلى الهاوية حيث اختلط الطاهر بعصابة إيطالية متخصصة في الإتجار بالمخدرات. وشاركهم في عدة عمليات ناجحة. بعدما اكتسب ثقتهم. لكنه سيخونها نظير عدم التبليغ من مهمة مافيوزية أنيطت به. فأشبعوه ضربا مبرحا كاد أن يفارق الحياة ورموه فاقدا للوعي بإحدى الطرقات الرئيسية. ومن المستشفى إلى السجن لسنتين بعدها سيعود مكرها إلى المغرب. أما عبد الرحمان الذي كان من هواة الموسيقى. فقد ظل يتردد على العلب الليلية يرفه عن السكارى ويتعاطى الخمر والمخدرات. بعدما تم طرده من المطعم وأصبح عاطلا ولصا محترفا ودون سكن. وصل الخبر إلى أخته التي قادت عملية بحث مضنية عنه إلى أن وجدوه نائما بثياب رثة ممزقة تفوح منه روائح كريهة بأحد المنازل المهجورة في كومو.

أما بطلنا عدنان وبعد معاناة طويلة وصبر، فقد قرر أن يغادر إيطاليا أملأ في نسيان الكبوات التي حاقت به وتفاقمت همومه بعد أن رفعت زوجته دعوى قضائية ضده واتهمته بتعنيفها وضربها. وهذا ما زاد الطين بلة. حيث حكم عليه بالسجن الموقوف التنفيذ لمدة سنة بعيدا عن مولودته أمل. ورغم الفسح الجميلة في الإمارات العربية وبعقد العمل كمدرب في ولاية فلوريدا الأمريكية. إلا أن عدنان لم يتمكن من نسيان زوجته لورا وطفلته أمل بكومو الإيطالية. كما ظل يتذكر عشيقته جورجينيا التي فارقها بعد أن ضاعت الآمال وتحطمت الأحلام. بعد أن استفاقت لورا من الصدمة عاشت مرارة تأنيب الضمير خصوصا أن طفلتها أخذت تنمو دون وجود والدها. وانغمست بدورها في تعاطي المخدرات والكحول لدرجة الإدمان. إهمال تربية ابنتها سمح للقسم الاجتماعي بكومو بانتزاع الطفلة منها ووضعها في ميتم الأطفال.فيما أودعوا لورا المستشفى لمعالجتها من الإدمان.

تطورات مثيرة عرفتها حياة الطليقين. وبعد أن تأكدت السلطات الصحية من شفاء لورا، استرجعت طفلتها. اتصلت بالكاهن رئيس الدير، وترجته أن يقبلها مساعدة اجتماعية ومتطوعة لرعاية الأطفال للتخلي عنهم والمرضى والعجائز. فبارك الراهب ما تنوي القيام به ومرر يده على شعرها ودعا لها بالتوفيق فأخذت تذهب إلى الكنيسة كل أحد للقيام بالصلاة. شعرت براحة نفسية وباشرت عملها التطوعي وكلها أمل في عودة عدنان إلى كومو لرعاية طفلته. ولما علم عدنان بتحسن صحة لورا وحياة طفلتهما أسعده القرار الذي اتخذته، وشعر برغبة قوية وحنين لمعانقة طفلته، إلا أن ما عاناه من إحباطات ومشاكل جعلته يواصل هجرته باحثا عن فرصة تعيد له الأمل في حياة سعيدة.

وقد خصت الناقدة الدكتورة فتيحة عبد الله الرواية بتقديم منهجي ومكثف سواء من حيث الشكل أو المضمون. وخلصت إلى ان الرواية هي إبداع خيالي لمرجع واقعي مع ذكريات من زمن بعيد تتخلق في ذهن الكاتب فتنكتب في نص سردي مشوق.

على المستوى الإبداعي تحضر ذات الكاتب في النص الروائي كأب. لأن الرواية في جوهرها غالبا ما تكون مشبعة بتجربة الكاتب الشخصية، حتى إن لم تكن سيرة ذاتية صريحة. الكاتب يضخ في شخصياته شيئا من ملامحه، في أماكنه شيئاً من ذاكرته، وفي أحداثه شيئاً من معاناته أو أحلامه. نجيب محفوظ يزرع أحياء القاهرة التي عاش فيها داخل رواياته، فتبدو شخصياته حاملة لنبض المدينة. مارسيل بروست في"البحث عن الزمن المفقود"حوّل طفولته وتجربته مع الزمن والذاكرة إلى نص ملحمي.

ولعل هذا ما يؤكد أن العلاقة بين الرواية الأدبية"أحلام منكسرة"وسيرة الحياة المدنية للكاتب محمد بوهلال تكشف عن نفسها للوهلة الأولى. كأستاذ أب مناضل سياسي ونقابي وصحفي. فهو ابن فاس وملم بثقافتها وتراثها. وكتب عنها في الصحافة الوطنية سواء كمراسل لجريدة الاتحاد الاشتراكي أو كمدير تحرير الأسبوعية صدى فاس التي توقفت لأسباب مادية بحب وشغف كبير. كما أن العلاقة بين عدنان البطل الرئيسي للرواية و شكيب نجل الكاتب والبطل الرياضي في كمال الأجسام بإيطاليا في الاستلهام والخيال لا تحتاج كبير عناء لإثباتها في النص السردي. وخطوط التماس بين الواقعي والخيالي من جهة، وبين الذاتي والإبداعي في إبداع المؤلف من جهة ثانية حقيقة ساطعة بارزة للعيان.

على المستوى النقدي غالبا ما تتم قراءة النص الأدبي في سيرة أو على ضوء سيرة الكاتب. حتى النقاد الكلاسيكيون ظلوا يميلون إلى قراءة النص الأدبي بيوغرافيا. وقد حدث تحول مع رولان بارث في النقد الحديث و"موت المؤلف"حيث حذّر من اختزال النص في حياة كاتبه. ولا نرى شبهة أو جنحة في ذلك. أي أن الرواية قد تتقاطع مع سيرة الكاتب، لكن لا يجوز أن نحاكم النص فقط بمعايير حياة المؤلف، لأن النص يصبح كيانا مستقلا بعد صدوره. كثير من الروايات تحمل ما يسمى السيرة المتخفية أو الأوتوفيكشن (Autofiction)، حيث يمزج الكاتب بين الواقع والخيال، فيستثمر سيرته كخامة خام، لكن يعيد تشكيلها فنياً. أحلام مستغانمي مثلا في"ذاكرة الجسد"تستلهم حياتها وتجربة والدها الثوري، لكنها تصوغها في حبكة وشخصيات متخيلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى