سقف الكفاية.. وغواية الشعر
قد تستطيع قصيدة واحدة أن تسلب لبك، وتجعلك تتوحد معها شعوريًا بالكامل، بل وقد تشاهد على خشبة المسرح أداءً رائعًا لأحد مشاهد المأساة (الكلاسيكية بصفة خاصة) فتستدر منك الدمع، أو تصل بك إلى حالة من التوحد، تجعلك منبهرًا بها وأسيرًا لتلك الحالة الخاصة جدًا التي خرجت بها منها، ولكن أن يفعل ذلك كله فيك رواية أنت تقرأ حروفها، فإن هذا ـ في رأيي ـ كثير، كثيرٌ جدًا..
فرق بين أن تتوحد مع قصيدة، لا تستغرق مدة قراءتها الساعة بحال من الأحوال، وأن تتوحد مع نص روائي مكتوب يستغرقك بتفاصيله لمدة ثلاث ساعات ـ مثلاً ـ بل وتجدك غارقًا في تفاصيله، حتى لتخالك تعيش كل كلمة ينطقها السارد/ البطل هنا.. وتعيش معه كل آلامه، وأحزانه...
الآراء الانطباعية التي يطلقها المتلقي / القارئ العادي، في هذه الحالة سوف تتشابه إلى حد كبير مع الآراء النقدية التي تتوخى النظرة العلمية للنص.. بفرض انعزال الناقد عن ذاته، أو بفرض الموضوعية المطلقة، وهي مستحيلة !...
الرواية بشكل عام تتناول قصة كلاسيكية غاية في القدم، بل إنها ربما تعد استعادة حديثة شديدة العصرنة لمأساة الحب العذري القديمة، حيث قيس وليلى، وليلى ومجنونها، تلك القصص العربية التي ظلت تصر على أن الحبيب لا يصل إلى حبيبته إلا بشق الأنفس، وهو يظل على عهد هذا الحب مهما تقادم به العمر لدرجة أنه: يمر على الديار ديار ليلى يقبل ذا الجدار وذا الجدار....
قصة مغرقة في الكلاسيكية، والتقليدية على هذا النحو، ماذا بوسع شاعر أن يتناول فيها.. وكيف يمكنه أن يجددها؟؟
وأنا هنا أبدأ بقول شاعر، لأن كاتب الرواية شاعر كان ومازال يعتز بشاعريته، بل وأضيف إن تحوله الأخير إلى الرواية (الصادرة عام 2002) لم يثنه عن كتابة الشعر حتى الآن، ولهذا ربما بدأت حديثي بالفرق بين أن يصوغ الشاعر (مشاعره) في قصيدة، وأن يسردها في رواية من نحو 400 صفحـة...
اللغة هي الجدار الأساسي الذي يجب أن يتكأ عليه الراوي حينئذٍ، ذلك أنه ـ فيما أزعم ـ تظل محاولات البراعة الحوارية مقتصرة على المسرح، أما في الرواية فنحن بحاجة إلى (سارد) مقتدر، يمسك بزمام اللغة فلا يفلته، وهنا لم يكن أمام (علوان)، وهو الشاعر أولاً، والمتأثر بروايات مستغانمي ثانيًا، لم يكن أمامه إلا أن يعتمد على اللغة الشاعرية، تلك التي تدفقت منه في عفوية مطردة فخرجت إلى القاريء كأروع ما يكون..
منذ البداية يقر الراوي/ البطل أنه يمارس (سرد الذنوب.. ويكون عبر قلم قاضيًا ومتهمًا ومحاميًا، ولا شاهد إلا ذاكرة صعبة، ولا جريمة إلا حب شارد..) تذكر الرواية قصة شاب سعودي مترف، يقع في غرام فتاة سعودية مترفة (هي الأخرى)، ويتم لقاؤهما في البداية عبر (سماعات التليفون)، تلك التي صنعت عالمًا كبيرًا من العشاق، الصادقين أو الملفقين (( الرياض مدينة كبرى نصف هواتفها عشق، ونصف هذا العشق مراودة )).. ويلتقيان، يلتقي الفتى، والفتاة، في السعودية، ذلك المجتمع الذي يصعب على المحبين أن يتلاقوا فيه بهذه السهولة، ولكنهما يلتقيان،ـ بل ويخترق (علوان) بروايته، وأبطاله، كل المحظورات، فيصل بهما إلى حد اقتحام الغرف المغلقة، فهاهو (ناصر) يأتي إلى (مها) في غرفة بفندق ـ أولاً ـ ثم في منزلها بعد ذلك!! والذي يجعل الموضوع دراميًا وتراجيديًا ـ منذ البداية ـ أن حبيبة البطل كانت ـ منذ البدء ـ مخطوبة لغيره، بل وصارحته بأنها كانت تحب رجلاً (ثالثًا) قبله..!!
إنه كسرٌ عنيف، وفضحٌ لمناطق مسكوتٌ عنها كثيرة داخل المجتمع، ذلك الذي لا يزال يرعى المظهر الخارجي رعاية مبالغٌ فيها، حتى أوصل الحال إلى ذلك !!.
تقوم الرواية على تصوير دقيق للبطل الضد، البطل المهزوم الذي يتلذذ بتعذيب نفسه، ويستغرق في الحزن حتى النخاع، أما باقي شخصيات الرواية فهي شخصيات على الهامش، يعرضها الراوي/ البطل، كما يراها، ويتدرج على تعرفه بها، مع القاريء، ولهذا نتحد مع شخصياته أيضًا..
نبدأ معه تدريجيًا من أسرته الذي يعرفنا عليها بطريقة غير مفتعلة، تسير مع سرد/ تصوير مأساته، حيث:
الأم/ التي تغدق عليه من حنانها وحبها، حيث لم يتبق غيره، من البيت الذي كان عامرًا..
أما الشخصيات التي تبدو مؤثرة بعد حبيبته الغائبة المغيبة فهي صديقه العراقي (ديار)، ثم السيدة العجوز (تنغل) في فنكوفر.. بعد ذلك تبدو الشخصيات كلها هامشية، حتى تلك التي تأثر بها البطل/ السارد، وأثر فيها مثل أخته أروى.
يسخر من (سالم) الرجل النمطي الذي يرضى لنفسه بزواج الصالونات، وامتلاك المرأة بدون أي قدر من الحب! بل ويسخر من طريقة الزواج البدوية (تلك) ـ كما يصفها ـ كلها!!
ويتعرض بجرأة لعلاقة الفتى بالفتاة، والرجل بالأنثى داخل المجتمع المحافظ، ويسخر من الرياض التي تعلمهم أن يكونوا ذكروًا قبل أن يكونوا بشرًا !!، ويستنكر انتقاص الأمهات لبنات جنسها منذ الصغر... فـ (يكبر الرجل وهو مستعل على المرأة، وتكبر المرأة وهي خائفة من الرجل!!
يرحل ناصر إذًا حاملاً همه وحزنه وذكرياته المليئة بليالي الحب في الرياض، يرحل إلى حيث يحاول أن ينسى الحزن، وهناك يواجه بأحزان جديدة، يقابل في الغربة صديقه (ديار)، و يلتقي الهم الشخصي بالهم العام، وتلتقي السياسة بالحب، ويجمعهما المأساة والتشرد، والغربة، كل ذلك يضاعف من حزن (ناصر) وآلامه، ثم تأتي السيدة (تنغل) تلك الحكيمة التي ارتضى أن يبثها كل أحزانه، واعتبرها أمه التي لم تلده !، وهي عجوز قعيدة، تخلى عنها ابنها، فوجدت في ناصر ذلك الابن الضال، ولكن الغربة والحزن يتراكما عليه لتموت السيدة (تنغل)، ويرحل صديقه (ديار)، ولا يبقى غيره في الغربة، فيقرر العودة إلى حضن أمه.. وهناك يقرر البطل/ الرواي أن يكتب تلك الرواية التي يبدأها في ألمانيا وينهي فصولها في الرياض، وما إن تمثل للطباعة، حتى تظهر (مها) حبيبته، لأول مرة.. و تنتهي الرواية!
على هذا النحو (المفتوح) ينهي (علوان) قصة عذاب الشاب السعودي المترف الذي قضى ليله ونهاره في تذكر محبوبته والبكاء على أطلال حب لم يكتب له القدر البقاء، وكأن عودة المحبوبة على هذا النحو، أو حضورها المادي يمحو كل فصول الرواية، لينشأ علاقة جديدة، ربما تمنح فصولاً أخرى لرواية مختلفة... على هذا النحو يمنح (علوان) وبعد 400 صفحة من العذاب والحزن، والتقلب على فراش الفراق وآلامه، يغلق الباب بكلمة واحدة (ودخلت مها) ليفتح الباب على مصراعيه لخيال القارئ وذكائه.. ليتفجر السؤال، وماذا بعد أن تعود؟!!
هكـذا كانت رواية (سقف الكفاية) ذلك المزيج المدهش بين لغة الشعر وسرد الرواية، وبين الحب والحزن والسياسة، التي لم ينس الراوي الذي شاهد في طفولته حرب الخليج أن يذكر أثرها على مدينته، ويرسم بمرآة ذلك الذي كان طفلاً كيف كانت تلك الحرب، كما صور بمرآة صديقه (ديار) مأساة الطغاة العرب بأقسى تجلياتها حينما يأمر الطاغية بقتل أحد جنوده لأنه أفشى أحد الأسرار للطفل الصغير (الذي لم يكن غير ديار) آنذاك، ديار الذي كبر ليفاجأ بدولته تطرده، وزوجته وابنه يموتان أمامه!!
ويذكر لمحمد علوان في هذا الصدد أنه لم يستغرق في وصف الغرب، ولم ينغمس في مقارنات أو مفارقات بين الشرق والغرب، كما يفعل الكثير من الروائيين في كتابتهم للرحلة، ولكن ذلك لم يكن إلا في حدود مشاعر البطل وأحاسيسه الحزينة تجاه العالم المحيط به، كأن يتأمل المطر في ألمانيا والفرق بينه وبين المطر في بلاده... كما ظل وفيًا طوال فترة غربته لحبيبته التي ظن أنه يهرب منها، فإذا بها تحاصر صحوه ومنامه حتى عاد!
رواية سقف الكفاية الصادرة عن دار الفارابي منذ عام 2002، والتي طبعت للمرة الثانية عام 2004 متوفرة كنسخة (شرعية) على موقع الروائي والشاعر (محمد حسن علوان) الخاص، ويمكن تنزيلها من هناك فورًا وقراءتها، وإبداء رأيك فيها... وقد جمع الكاتب كل ما كتب عن روايتيه في موقعه ذاك..